تمثِّل شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام موردًا ثمينًا لاستلهام الدروس الكبرى التى تكشف للمسلم ما ينبغى أن يتحلى به فى تكوين شخصيته وتقويمها وتوطين نفسه على تحقيق العدل والسير بإيجابية نحو التقدم والحضارة حتى يحصل له الصلاح فى أمره كله فى الدنيا والآخرة، كما يُعدُّ الحج هذا المنسك العظيم منسكا يبث فى نفس المسلم وشخصيته دروسًا جليلة؛ وذلك من خلال التحلى بالتزام أوامر الشرع الشريف، واجتناب نواهيه، والتخلى عن الشهوات وعما يشغله من مظاهر الدنيا، وهنا يتعلم المسلم كيفية الفرار إلى ربه لا منه، امتثالًا لقوله تعالي: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات: 50]. فالحجاج يُطْلَب منهم فى موقف الحج ومناسكه الالتزام بالفضيلة على مدى أيامه المباركة، بالتزامن مع الامتناع عن ارتكاب محظورات الإحرام، وهذا يقضى بهجرة الذنوب والمعاصى واجتناب المفاسد القولية منها والفعلية، والابتعاد عن الأحقاد والنزاعات وما يسببهما، بل تحثُّه على مقابلة الإساءة بالحسنى والتحلى بمكارم الأخلاق، وفى ذلك يقول الله تعالي: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجّ) [البقرة: 197]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «من حجَّ هذا البيت، فلم يرفُثْ، ولم يفسُقْ، رجع كما ولدته أمُّه» (متفق عليه). كما تؤسس شعيرة الحج فى نفس المؤمن أصولَ السلام وسبل الأمن والأمان وخصال الحياة السعيدة التى من قوامها العدل والرخاء، ومن آثارها العمران والحضارة وما ينفع الناس، فالحاج مطالب أن يتعامل ويعيش فى حرم مكةالمكرمة فى سلام تام وأمان كامل، فلا يحل له التعدى على غيره من خلق الله تعالى سواء كان إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا؛ امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم فى فتح مكةالمكرمة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لى إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطتها إلا لمن عَرَّفها، ولا يُخْتَلَى خَلاها» (متفق عليه). أما على مستوى الأوطان والأمة فيستفاد من شعيرة الحج ضرورة المحافظة على وحدة المسلمين والتضامن مع الوطن والأمة فى سائر الشئون؛ فضلا عن الالتزام بمبدأ المساواة، وتعميق معانى الأخوة الإسلامية والإنسانية، والتنفير عن تقسيم الناس إلى طبقات يعلو بعضها فوق بعض، ففى أثناء أداء مناسك هذه العبادة الجليلة تُصهر كل مظاهر الفُرْقَة والتمييز بينهم؛ فكلهم جميعًا من أصل واحد، أبوهم آدم عليه السلام؛ كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على عجمي، ولا لعجمى على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوي، أبَلَّغْتُ؟» قالوا: بَلَّغَ رسولُ الله (مسند الإمام أحمد). ولعل فى ذلك كشفا عن الحكمة البالغة من وراء تخصيص النبى الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف الجليل لإعلان ميثاقٍ غليظٍ يتضمن بيان حقوق المرأة بصورة جامعة مع وصية للرجال بحُسْن عِشْرتها وطيب معاملتها. وتؤكد جملة هذه الدروس أن يتخذ المسلم من شعيرة الحج المباركة دروسًا مفيدة تنعكس على شخصيته وحياته؛ فيستبدل بالتدين الشكلى التدين الحقيقى الذى من سماته: تنفيذ أوامر الشرع على مراد الشارع، والحرص على مرضاة رب الناس لا إرضاء الناس، مع قوة اليقين ورسوخ الإيمان، والمداومة على تزكية النفس وضبط رغباتها وشهواتها، وإعلاء شأن الأخلاق والقيم مع نفع الناس؛ لأن ذلك كما هو مطلوب فى مناسك الحج والأشهر الحرم مطلوب أيضًا فى غيره من الشهور وعلى مر الأوقات عبر العُمُر حتى يتحقق المقصد الأعلى بتقوى الله تعالى ومراقبته وهَجْر ما نهى الله عنه.
قصيدة «لأن الشوق معصيتى»سنة 1989 [email protected] لمزيد من مقالات د.شوقى علام مفتى الجمهورية