الحج عبادة العمر وأمنية كل مسلم، فأداؤها يمثل كمال الإسلام وتمام الدين، وهي دَيْن على المستطيع واجب الأداء لله الوهاب كما قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)[آل عمران: 97]. وتتجلى حِكَم هذه العبادة ومقاصدها النبيلة في كونها مشتملة على فوائد جمة للناس؛ فهي موسم مبارك ينهل منه المسلم من الفضل العميم من ربه الكريم، من خلال بذل مجهوده وطاقته في التقرب إليه تعالى بألوان العبادات وصورها المختلفة، سواء المالية أو الجسدية أو القولية، كما يحصل له ولأهل الموسم جملة من المنافع الدنيوية والأخروية والمقاصد التعبدية، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)[الحج: 28]. ومن أعظم ما يعود على المسلم من الحج بجانب أدائه للفرض: أن يعاين حسًّا الكعبة المشرفة وأماكن النسك، ويواجه بيت الله الحرام، ويطالع مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، مما يوثق الرباط بينه وبين شعائر الدين الحنيف بطريقة مباشرة بعدما كان يتشوق لرؤيتها، كما تشحنه بشحنة إيمانية تعمل على تزويده بالخشية والتقوى والعزم على الطاعة والندم على المعاصي الظاهرة والباطنة، ولا يخفى أثر ذلك في حياة القلب والقالب. كما تعمل هذه المناسك وتلك الشعائر على تعميق مبادئ الأخوة والمساواة بين المسلمين والإنسانية جمعاء بطريقة حكيمة تقوم على تحقيق تماثل كامل للأفراد أمام أحكامها التي تُصْهَر فيها كل مظاهر الفُرْقَة والتمييز بينهم، من الأعراق واللغات والطبقات؛ وفي ذلك امتثال لنداء النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوادع، التي جاء فيها: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله”. كما يعطي موسم الحج من خلال هذا الجمع العظيم لأفراد الأمة من جميع بلادها ومختلف أطرافها أصدق صورة لما ينبغي أن تكون عليه الأمة الإسلامية من المحبة والتعاون والتضامن؛ فهم أمةٌ واحدة كما يريد الله تعالى منهم؛ لأنهم يجتمعون في بقعة واحدة، بوجهة واحدة، لمقصود واحد، يتصاعد عنهم إلى عنان السماء نداء جليل واحد، تردده معهم الجبال والأودية: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”. وترشد شعيرة الحج المسلم أيضا إلى خير وسيلة يُتقرَب بها إلى حضرة ذي الجلال في كل أحوال حياته وشئونها؛ حيث تجعله متجردًا بصورة كاملة أثناء مدتها الزمنية من كل شواغله؛ مقبلا على ربه لا همَّ له إلا الذكر والعبادة والتلبية والدعاء، وهي تمثل في ذات الوقت والموقف تجربة تربوية حقيقية من شأنها تقويم حياة المسلم ووجدانه وضبط سلوكه وتهذيب نفسه دون فرض سلطة عليه من غيره، فقد نهى الله تعالى الحاج بأسلوب فيه تأكيد ومبالغة، عن الوقوع في سيئ الأخلاق ومذموم السلوك في هذا الزمان الفاضل والميقات المبارك، فقال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)[البقرة: 197]. ولا ريب أن هذه الدلالات تكشف عن بعض حِكَم عبادة الحج ومقاصده، مما يُنَبِّه المسلمين إلى أن أشهر الحج ومناسكه فرصة كبيرة للإنابة إلى الله والرجوع إليه، وأيضًا هي فرصة للتزود من العمل الصالح والتجرد التام من الشواغل وإحكام السيطرة على النفوس وشهواتها والارتقاء بها، حتى يحصل التحقق لهذه الأمة أفرادًا ومجموعًا بمعاني التقوى التي هي ثمرة من أهم ثمار الحج، استجابة لخطاب الله تعالى: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب)[البقرة: 197]. لمزيد من مقالات د.شوقى علام مفتى الجمهورية