أمس الخميس، أدى المحافظون الجدد، والقدامى المستمرّون، اليمين الدستورية. ولا يعنينا مَن بقى منهم ومَن رحل، بقدر ما يعنينا أن ننصح المستجدين بأن يتعاملوا بحذر مع خبزهم الأبيض، وألا ينتهوا من أكله سريعًا. والنصيحة ننقلها عن الفرنسيين الذين يصفون المسئول بأنه «أكل خبزه الأبيض»، حين تتكاثر أمامه المصاعب والمشكلات ويعجز عن حلها. الخبز الأبيض، كما ذكرنا فى العنوان، يمنع اليوم الأسود. وكان هو «خبز المساواة» الذى نادت به الثورة الفرنسية، ولأجله هتف الثائرون «الخبز الأبيض للجميع». كما صارت مارى أنطوانيت ملكة فرنسا، زوجة الملك لويس السادس عشر، أشهر «نجوم» الثورة، وكل الثورات اللاحقة، لا لأنها كانت رمزًا للجمال والأناقة، وليس بسبب مأساوية مشهد إعدامها بالمقصلة، ولكن لأن هناك من زعموا أن أحد العاملين بالقصر حين أبلغها بأن الشعب ثار لأنه لا يجد الخبز، تساءلت بدهشة: ولماذا لا يأكلون «الجاتوه»؟!. ولو كنت مهتمًا بحواديت مفسرى الأحلام، ستجدهم يقولون إن أكل الخبر الأبيض معناه الخير والرزق والنعمة. بينما مجرد رؤية رغيف الخبز الأسمر، تعنى أن حياة بائسة تنتظر صاحب الرؤيا، وتكون أكثر بؤسًا إذا أكل منه!. غير الخبز الأبيض والأسمر، كان المصريون القدماء يتناولون نحو 15 نوعًا من الخبز بسبب اختراعهم للرحى الدوارة وهى صورة أولى لطاحونة السحب التى تديرها الحيوانات أو الطاحونة المائية عند الرومان. وفى إحدى عمليات الحفر بالقرب من أبو الهول، عثر الدكتور زاهى حواس على مخابز بها بقايا خبز مع أدوات إعداده، واستنتج منها أن تلك المخابز كانت توفر الطعام لأكثر من عشرين ألف عامل. وقد تندهش لو عرفت أن المصريين القدماء كانوا يحصلون على رواتبهم فى صورة عدد معين من أرغفة الخبز. وهناك شواهد على أن المزارعين أثناء فترة حكم رمسيس التاسع كانوا يثورون لو تقاضوا شيئًا آخر، غير الخبز!. المصريون القدماء، أيضًا، كانوا أول من استخدموا الأفران المخروطية الشكل المصنوعة من الطوب اللبن (أى من الطين) المكونة من جزء سفلى يتم فيه إشعال النيران، وجزء علوى يوضع فيه أكثر من رغيف فى الوقت نفسه. أما الجيل الأول من آلات العجن والمطاحن الأوتوماتيكية، فظهر فى القرن التاسع عشر، حين شهدت العاصمة الفرنسية باريس، سنة 1836، افتتاح أول مخبز ب«عجّانة» آلية تديرها الكلاب. ومع ظهور المطاحن البخارية تم الاستغناء عن الكلاب، قبل أن تختفى العجّانة البخارية هى الأخرى مع ظهور مطاحن تعمل بالأسطوانات المعدنية، ثم الآلات الحديثة المبتكرة. ومع الثورة الصناعية، ظهرت أنواع أفضل من المطاحن، أدت إلى ارتفاع إنتاج الخبز بشكل كبير، وظهور حالات الغش بشكل أكبر. الخبز، كان بطلًا رئيسيًا فى الحرب الأهلية الأمريكية، وأدى امتلاك الولايات الشمالية له إلى تفوقها على ولايات الجنوب، ومن هنا أطلق أبراهام لينكولن عبارته الشهيرة «الخبز يعنى الانتصار». ولأن الصيدلى الفرنسى أنطوان بارمنتير كان يرى أن «صحة الأمم تقاس بجودة الدقيق»، نصح قادة الجيش باستخدام المطاحن كأداة للحرب، واستقبلوا نصيحته بكثير من الإعجاب. وبارمنتير كان صاحب أول مدرسة لتعليم إعداد الخبز، أسسها فى 8 يونيو 1780، وحضر افتتاحها بنيامين فرانكلين، حين كان سفيرًا للولايات المتحدة فى فرنسا. وفى هذه المدرسة كان يتم تعليم طرق جديدة لإعداد الخبز، بينها استخدام دقيق البطاطس، لكن المؤتمر الوطنى الفرنسى قام بإغلاق تلك المدرسة. لا يجوز أن يمر ذكر صحّة الأمم دون الإشارة إلى أن المصريين القدماء تحدثوا عن علاقة الخبز بصحة الإنسان، وإلى أن بعض البرديات تضمنت قياسًا خاصًا، تناسبت فيه درجة المرض عكسيًا مع شهية المريض لأكل الخبز: كلما زاد المرض، قلت الشهية والعكس. كما لا يجوز أن يمر ذكر بارمنتير، دون أن نتوقف عند مقاومة الفرنسيين لأكل البطاطس، وأن محاولة المذكور الفاشلة لإقناع «كلية الصيدلة» فى باريس، بأن البطاطس ليست سامة أو مؤذية، دفعته إلى ابتكار البطاطس المهروسة حتى لا يتم التعرف على شكلها المشكوك فيه. ولاحقًا، تكللت محاولات بارمنتير بالنجاح وتم إعلان البطاطس عنصرًا غذائيًا، ليس فى فرنسا وحدها، بل فى كل أنحاء أوروبا، ودفع انتشارها البعض إلى الاعتقاد بأنها ستحل محل الخبز، وهو ما لم ولن يحدث. بعد كل ما تقدَّم، لن تكون مخطئًا لو اعتقدت أن أحمد شفيق كامل، كان يقصد الخبز، حين قال بلسان «الست»، أم كلثوم، وعلى لحن محمد عبدالوهاب: «وكفاية أصحى على ابتسامتك بتقول لى عيش».. و«أنام وأصحى على شفايفك بتقول لى عيش». كما لن تكون مبالغًا لو قلت إن المحافظ أو المسئول، لو وضع «العيش» و«أكل عيش» المواطن على رأس أولوياته، ستغنى له الجماهير العريضة ونحن معها: «أملي.. حياتي.. عينيا.. يا أغلى منى عليّا». والأهم هو أنه سيظل يأكل من خبزه الأبيض، وسينجح فى تجاوز أى صعاب أو مشكلات، ولن يرى يومًا أسود، حتى يغادر موقعه، سالمًا، إلى منزله، أو إلى موقعٍ آخر، بلا قضبان!. لمزيد من مقالات ماجد حبتة