قرأت باهتمام فى ( بريد الأهرام) ما كتبه د. أحمد عبد التواب شرف الدين - قسم اللغة الانجليزية بآداب المنوفية تحت عنوان (الضامن الوحيد) والتى اقترح فيها عدة إجراءات للحفاظ على اللغة العربية ( لغتنا الجميلة) ومن ثم الحفاظ على الهوية وترسيخ قيم الانتماء الوطني، وليس أدل على ذلك ما جاء فى سياق رسالته عن غضب الرئيس الفرنسى الأسبق جاك شيراك حينما سمع وزيرا فرنسيا يتحدث الإنجليزية أمامه فقال له شيراك: (لقد طعنت فرنسا اليوم فى شرفها).. وغنى عن البيان أن اللغة العربية هى أكثر اللغات ثراء وجمالا فهى تتكون من 12 مليونا و300 ألف كلمة مما يجعلها لغة طيعة بشكل لافت، وهو ما حدا بالبعض إلى أن يتبارى فى كتابة خطبة كاملة بدون استخدام حرف الألف مثلاً أو بدون استخدام الحروف ذات النقط، وصدق شاعر النيل حافظ إبراهيم عندما قال على لسان اللغة العربية : أنا البحر فى أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟ أما عميد الأدب العربى د. طه حسين فله مقولة مشهورة هي: (لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه من ألفاظ لم تكن مستعملة فى العصور القديمة)، وفيها الحقيقة والمجاز والتصريح والكناية والاستعارة والإيجاز والإسهاب، وها هو رجل الأعمال الأمريكى جون مكارثى يؤسس أخيرا أول دار لنشر الكتاب العربى فى سويسرا معلنا أن حبه اللغة العربية وراء هذا القرار. وقد تداعت إلى الذاكرة هذه الخواطر مجتمعة وأنا أتابع بأسى هذا الصخب الذى أثاره أولياء الأمور على خلفية ما أشيع عن إلغاء المستوى العالى للغة الإنجليزية للمرحلة الابتدائية، فكيف يحرم أبناؤهم من إتقان اللغة الإنجليزية منذ نعومة أظفارهم؟!. للأسف نسى هؤلاء بل لعلهم تناسوا أن معظم التربويين الثقاة يوصون بتخصيص السنوات الأولى لتعليم الأطفال اللغة القومية دون مزاحمة لغات أجنبية حتى لا يتشتت عقل الطفل فى هذه السن المبكرة. إن اللغة القومية ليست وعاء للفكر بل هى الفكر نفسه، ناهيك عن أن الإلمام باللغة القومية هو ترسيخ للهوية وزرع الانتماء الوطنى فى نفوس النشء، فكيف لهؤلاء أن يرضوا بأن تكون اللغة العربية لغة القرآن هى اللغة الثانية فى مدارس اللغات بل الأنكى أنها لا تدرس أصلا فى المدارس الدولية المنتشرة بأرجاء مصر؟..أنظر لدول مثل روسياوفرنسا وألمانيا وكيف تفرض على المبعوثين إليها للحصول على درجتى الماجيستير والدكتوراه تقديم أطروحاتهم بلغات هذه الدول وليس باللغة الإنجليزية . أزعم أن كارثة التعليم الطبقى التى كتبت عنها من قبل ب «بريد الأهرام» هى السبب الحقيقى وراء لهاث أولياء الأمور لتعليم أطفالهم اللغات الأجنبية والحرص على إتقان الأطفال لهذه اللغات من قبيل الوجاهة الاجتماعية والتمايز الطبقي، وذلك على خلفية ما أدى إليه التعليم الطبقى من تسليع التعليم (أى تحويله إلى سلعة) وتوفيره بمستويات جودة متفاوتة لكل منها سعر، وهو أمر تكاد مصر تنفرد به على مستوى العالم، ففى كل الدول المتقدمة يوجد تعليم واحد وهو التعليم الحكومى يجلس فيه ابن الوزير إلى جانب ابن الخفير ولا يفرق بينهما إلا القدرة على الاستيعاب والتفاوت فى الملكات والمؤهلات الذهنية. أما أولياء الأمور فى مصر فيتفاخرون بإتقان أطفالهم اللغات الأجنبية، وأما اللغة العربية الجريحة فحدث عنها ولا حرج، فقلما تجد حتى من بين حاملى درجة الدكتوراه من يستطيع كتابة عدة سطور من اللغة العربية دون الوقوع فى زخم فاضح من الأخطاء الإملائية والنحوية.. وحسناً أن قدم مجمع اللغة العربية مشروع قانون يمنع فيه استخدام اللهجة العامية فى الصحف ويجرم الأخطاء اللغوية فى وسائل الإعلام مع فرض غرامات مالية على الجهات المخالفة فضلاً عن إلزام أى متقدم لشغل وظيفة باجتياز امتحان فى اللغة العربية. وحمداً لله أن للغة العربية رباً يحفظها وقد قال الحق فى محكم كتابه (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر 28، وقال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر 9) صدق الله العظيم. د. محمد محمود يوسف أستاذ بجامعة الإسكندرية