تنتمى أعمال فاروق منيب وهى فى معظمها مجموعات قصصية إلى المدرسة الواقعية التى كانت لها السيادة فى مصر فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وكان من أبرز أعلامها نجيب محفوظ (انظر روايات مثل خان الخليلى وزقاق المدق والثلاثية) وعبدالرحمن الشرقاوى (انظر رواية الأرض)، ويوسف إدريس (انظر أرخص ليالي). ولم يكن طه حسين مؤلف شجرة البؤس (1944) و المعذبون فى الأرض (1949) بمنأى عن هذا التيار. وقد أسهمت فى تأييده والترويج له كتابات نقدية تقدمية أو ماركسية (انظر محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس)، واهتمامات بالأدب الشعبى أو الفولكلور (انظر عبدالحميد يونس ورشدى صالح على سبيل المثال). وقد تميز عقد الخمسينيات بالأمل والتفاؤل، وذلك لأسباب سياسية واجتماعية واضحة ترجع أساسا إلى الثورة الناصرية والانتصارات التى أحرزها جمال عبدالناصر فى دحر بقايا الاستعمار متمثلة فى العدوان الثلاثي، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالى. كما تميز العقد من الناحية الأدبية بأنه كان فترة رصد واجتذاب وتشجيع للمواهب الشابة. كان أحمد حسن الزيات رئيس تحرير مجلة الرسالة لا يغلق أبواب المجلة العريقة دون الشباب، حتى ولو كانوا طلابا فى المدرسة الثانوية. وكانت صحيفة المصرى تحت رئاسة محمد مندور مركزا للمواهب الجديدة. رصد واجتذاب وتشجيع المواهب الشابة. ها هى عبارة تصلح عنوانا لتلك الفترة. وذلك أن كبار الكتاب والصحفيين كانوا يراهنون على المستقبل ويستثمرون فيه. وفى هذا الإطار التقيت فاروق منيب الذى كان يعمل حينذاك فى جريدة المساء مشرفا على صفحة الأدب. وكانت هذه الجريدة بدورها مركزا لتفريخ المواهب تحت رعاية على الراعي. وأذكر من كتابها شاعرين سودانيين مجيدين ظهرا فى سماء القاهرة ثم اختفيا، لا أدرى متى أو كيف. وأعنى بذلك الجيلى عبدالرحمن وتاج السر حسن. وكان شعر هذا الأخير يحمل صبغة سودانية جميلة تذكر بالطيب صالح. والواقع أن تلك الفترة كانت هى المرحلة البطولية فى حياة الشعر الحديث. فقد شهدت ظهور صلاح عبدالصبور (الرائد)، وأحمد عبدالمعطى حجازى (الريفى النابغة)، ومحمد عفيفى مطر(الشاعر الفيلسوف)، وأمل دنقل. وفى تلك الفترة ظهر محمد الفيتوري. حل فى القاهرة وأقام لفترة مثله فى ذلك مثل العراقى عبدالوهاب البياتى والفلسطينى محمود درويش. وفى جريدة المساء التقيت فاروق منيب. كنت أريد أن أنشر قصة ترجمتها عن الإنجليزية، وكان عنوانها «البهلوانات» للكاتب الأمريكى الأرمنى الأصل وليام سارويان. ونشرت القصة. والحقيقة أننى كنت أخطو فى مجال النشر خطواتى الأولى على استحياء. وعلى هذا النحو تقدمت إلى البرنامج الثانى بإذاعة القاهرة بقصة أخرى مترجمة لكاتب آيرلندى يدعى ليام أوفلاهيرتي، وكان عنوانها الخيمة، وساعدنى على إذاعتها مخرج وشاعر شاب يدعى فاروق شوشة. وكانت تلك القصة مدخلى إلى البرنامح الثانى وإلى الإسهام فى مجال الكتابة الإذاعية. ومن الغريب أن قصة البهلوانات تركت فيما يبدو أثرا أو علامة. كانت فيما أذكر هى المناسبة الوحيدة التى التقيت فيها فاروق منيب. ثم سافرت إلى لندن فى سبتمبر 1961. وقضيت فيها فترة طويلة قبل أن ألتقى مرة ثانية فاروق. ووجدته يذكرني، بل يعاملنى معاملة الصديق. وكانت هناك عدة عوامل ساعدت على توطيد تلك الصداقة. وهى عوامل أستطيع أن أدرجها جميعا تحت عنوان واحد هو إنسانية فاروق. جاء إلى لندن للعلاج. ولا أذكر الآن كيف حصل على جهاز غسل الكلى فى بيته، وتدرب على استخدامه. فكان ينظم دورات العلاج ويدير الجهاز بنفسه. وكان يخضع إذن لنظام أسبوعى صارم ولا يتيح له إلا هدنات قصيرة ومحدودة. ولكن فاروق كان شجاعا وصلبا، وبشوشا وودودا فى جميع الحالات. فإذا استقبلك فى بيته أشعرك كأنك من خاصة أصدقائه أو أهله، وإذا دعوته سافر إليك عن طريق المواصلات العامة. وكان يحيا حياة متواضعة يتحمل فيها المسئولية عن أسرة وطفلين يتربيان فى بلد غريب. إلا أن فاروق كان يحمل أعباءه بشجاعة وعزة نفس وعفة. ولم يكن يشكو، بل كان متفائلا على الدوام. ولنبق فى لندن وفى الفترة التى صادقت فيها فاروق. اتصل بى تليفونيا ذات يوم ليسألني: ألا تريد أن تلتقى بعبدالغفار مكاوي؟ وكيف أمتنع عن لقاء عبدالغفار؟ كان بدوره كاتبا لا أعرفه شخصيا، وإن كانت تصلنى بعض أخباره، بالإضافة إلى أننى قرأت شيئا مما كتب أو ترجم فى مجلة المجلة عندما كان يرأس تحريرها الأستاذ الجليل يحيى حقي. وجاء فاروق مع عبدالغفار إلى مسكنى وحقيقة الأمر أن السهرة هى التى كانت فاخرة. فقد فزت فيها بصداقة عبدالغفار، وظلت هذه الصداقة متينة ومزدهرة لسنوات طويلة لا ينال منها افتراق فقد كانت هناك فترات طويلة من الافتراق إلى أن رحل. والغريب أن الرجلين كانا مختلفين من نواح عدة. فمن الناحية البدنية، كان فاروق طويل القامة قويا وصلبا (على ما يبدو)، بينما كان عبدالغفار قصيرا وضعيفا. ومن الناحية الفكرية، كان فاروق يساريا (إذا شئت) معنيا بهموم الريفيين والبشر العاديين، بينما كان عبدالغفار منطويا على نفسه ومحزونا ولا يؤمن بأى مذهب سياسى من اليمين أو اليسار، وكان متشائما لا يغفل عن شقاء العيش والظلم والطغيان. إلا أن فاروق كان معجبا بعبدالغفار ومعتزا بصداقته، وكان ذلك أمرا واضحا. ومن المؤسف أننى لم أستوضح من عبدالغفار رأيه فى قصص فاروق. وعندما أذكر فاروق أعود إلى مشهد من فترة صباى فى الريف، ولكنه ارتسم فى ذهني. وأرانى إذن على ظهر حمار فى طريق العودة من أبوكبير إلى قريتي، وكان الطريق الزراعى فى أواخر فترة العصارى خاليا من البشر وموحشا إلا إذا رأيت سحب الدخان تتصاعد من قرية تسمى «عزبة منيب». فكنت عندئذ أتهلل لأن الدخان المتصاعد يعنى وجود بشر. وأقول لنفسى: «ها هن النسوة من آل منيب بدأن فى إشعال الأفران والكوانين استعدادا للخبز والطهي». ولم أكن أعلم ساعتها أن لآل منيب فى تلك القرية ولدا يدعى فاروق، وأننى سألتقى به يوما من الأيام فى القاهرة وفى لندن، وأننى سأتلقى منه بعض الهدايا، وسأتعلم أو أحاول أن أتعلم منه فن الأمل. ألست إذن سعيد الحظ؟. لمزيد من مقالات ◀ عبد الرشيد محمودى