كتابات «فاسكو براتولينى» تطرح السؤال: هل هى يوميات أم سيرة ذاتية أم نثر فنى أم قصة طويلة أم رواية قصيرة؟ «ألبرتو نيسى» شاعر الأمكنة والأزمنة المفقودة والواقع الجبلى والريفى
حملة دولية تطالب بالإفراج عن الكاتب «ماسيمو كارلوتو» ثم يصدر الرئيس الإيطالى عنه عفوا عام 1993
فى الفترة الأخيرة تزايد عدد الكتب المترجمة من الإيطالية إلى العربية، خصوصا الأعمال الإبداعية التى تنتمى إلى اللحظة الراهنة، بعد أن كانت إيطاليا لدينا هى عصر النهضة، ودانتى أليجييرى ودافنشى ومايكل أنجلو وغيرهم، فهناك سلسلة باسم “بعد البحر” تنشر مختارات من الأدب الإيطالى المعاصر، وقد صدر منها حتى الآن تسعة أعمال، منها “عندما يتشح العالم بالبياض” ل “فلور يجي” و”أنا لا أخاف” و”أنا وأنت” ل”نيكولو أماينتي” و”لحظات من سعادة عابرة” ل “فرانشيسكو بيكولو” و”البحث عن الإمبراطور” ل “روبرتو باتسي”. من هذه الأعمال الإبداعية رواية “حب قاطعى الطريق” لمؤلفها “ماسيمو كارلوتو” وقد ترجمتها إلى العربية بسمة محمد عبد الرحمن، وصدرت من دار العين للنشر، المدهش أن “كارلوتو” كان بطلا لإحدى أكثر القضايا المثيرة للجدل فى التاريخ القضائى الإيطالي، ففى يناير 1976 تعثر “كارلوتو” الذى كان وقتها عضوا فى حركة سياسية يسارية، فى جثة تم طعنها بوحشية، واتهمته الشرطة بالقتل، ونصحه محاميه بالهرب، قبل الاستئناف بفترة قصيرة، إلا أنه تم القبض عليه وتعذيبه، ثم سجن بعد العديد من المحاكمات، وأعفى عنه عام 1993. كان كتابه الأول “سيرة ذاتية” لكنه قام بعدها بكتابة سلسلة من الأعمال البوليسية بطلها “التمساح” الذى كان سجينا سابقا، ثم عمل مخبرا، واتسمت شخصيته بتوقها للحقيقة والعدالة، وذلك بعد ما قضى ست سنوات مطاردا، ثم تلتها سبع سنوات من الضرب والتعذيب فى سجون شديدة الحراسة، فى ميلانو وتورينو وبادوا، مع أعتى المجرمين، إلى أن أصدر الرئيس الإيطالى عفوا عنه، بعد إطلاق حملة دولية تطالب بالإفراج عنه. كانت معركة “كارلوتو” مع المحاكم من أشهر القضايا فى تاريخ القانون الإيطالي: ثمانون قاضيا وخبيرا شاركوا فيها، وتمت محاكمته وإعادة محاكمته إحدى عشرة مرة، واستمرت القضية لمدة ثمانية عشر عاما، وبلغ وزن أوراقها 96 كيلو جراما، وقد توجه “كارلوتو” للكتابة عندما حصل على حريته، وبعد كتابة سيرته الذاتية وبعض المقالات والمسرحيات، اتجه لكتابة الرواية البوليسية، واخترع شخصية مبنية على شخصيته الحقيقية. فى مقال نشر ب”الأوبزرفر” يقول المحرر عندما التقاه: “كنت أتوقع لقاء شخص مثقل بماضيه المؤلم، لكن “كارلوتو” أثبت أنه متحدث بارع، ذو ميل إلى السخرية من نفسه، قوى البنيان، يرتدى ملابس داكنة، ولديه هيئة لاعب الرجبي، وهو البالغ من العمر 48 عاما، أجاد “كارلوتو” قضاء وقته فى السجن، حيث قام بدور المفاوض بين الأطراف المتنازعة، وحصل على صداقات قيمة فى عالم الجريمة المنظمة ككاتب يقوم بكتابة الخطابات والوثائق لزملائه من المساجين، ويستخدم الآن علاقاته بهؤلاء المنتمين إلى العالم الإجرامى للحصول على بعض المعلومات الجوهرية جدا عن عالم الجريمة، ليضيف لمسة أكثر من واقعية على كتبه. يعتبر “كارلوتو” من زعماء مجموعة “الأدب البوليسى لحوض المتوسط” ويشكو من نقص فى صحافة تقصى الحقائق الإجرامية فى إيطاليا، وبدرجة أقل من الصحافة الفرنسية والإسبانية، ويقول إن رواياته كلها مبنية على قصص مجرمين حقيقيين وجرائم قتل حقيقية، أى على قصص حب واقعة، وهو يقول: “لم أقم ولو مرة باختراع جريمة قتل” مشيرا إلى أنه أصبح من النادر الآن قيام كتاب الجرائم فى إيطاليا باختراع قصص، فمعظم القصص حقيقية، ولهذا أصبحت هذه الكتب ذات شعبية عالية. ضمن المنشورات الخاصة بالإبداعات الإيطالية وترجمتها إلى العربية، أصدرت دار شرقيات للنشر رواية “فاسكو براتوليني” “قصة عائلية” وترجمها إلى العربية د. فوزى عيسى، والرواية كما تشير المقدمة، كتبت مرة واحدة، فى غضون أسبوع، فى ديسمبر عام 1945، ونشرت بعد ذلك بعامين، وهى تطرح على الناقد والقارئ نوعين من الإشكاليات: الأولى تتعلق بتعاقب الأحداث، أما الثانية فتتعلق بالتصنيف الأدبي. كان العام 1945 يمثل عاما مهما فى حياة الروائى “فاسكو براتوليني” بعد الحرب، حيث بدأ نشاطه ككاتب من خلال سلسلة من الكتابات النثرية، ويعهد بشكل خاص إلى صفحات “قصة عائلية” مهمة حل موضوع العلاقة بين السيرة الذاتية ووعى قصصى جديد، هناك إذن تاريخ لا بد من وضعه فى الاعتبار، كنقطة انطلاق للرواية، فإذا كانت التواريخ تعنى شيئا، فإن تاريخ “قصة عائلية” كان من وجوه عديدة حاسما فى كتابة رواية “براتوليني”. تتعلق الإشكالية الثانية بالنوع الذى تنتمى إليه الرواية، وقد دار نقاش كثير حول هذه المسألة، دون التوصل إلى نتائج مقنعة، فما هى إذن “قصة عائلية”؟ هل هى يوميات أم سيرة ذاتية أم نثر فنى أم قصة طويلة أم رواية قصيرة؟ الكتاب يتطلب كل هذه التعريفات، دون أن ينحصر فى واحد منها فقط، ومن الأحرى – كما توضح المقدمة – أن نتحدث عن عمل متعدد الدلالات، قادر على إيجاد حلول بشكل معجز، وبتفصيل يسوده الغموض لسلسلة من العناصر التركيبية والأسلوبية، التى تبدو ظاهريا أنها تتعارض فيما بينها، وربما يكون من الأجدر هنا الضغط على الألفاظ للتأكيد على أننا داخل مساحة من الرواية، حتى إن كانت ليست برواية، على الأقل بالمفهوم التقليدي، حتى وإن كانت التوازنات الداخلية والتحليل النثرى (الإيقاع التبادلى للقصة) تبدو مرة بعد أخرى كأنها تقوض هذا التصور. يشير الكتاب إلى أنه فى الفترة الممتدة بين عامى 1935 و1939 حدثت تجربتان فى غاية الأهمية لبراتوليني: العمل مع مجلة سياسية أسبوعية، والاشتراك مع ألفونسو جاتو فى إدارة صحيفة أدبية رفيعة المستوى، والتجربتان ترتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا، لأنه فى اللحظة السياسية الاجتماعية تم إفساح هامش كبير للثقافة، فى تلك الفترة، وهو ما انعكس على رواية “قصة عائلية” حيث كان الشباب يتحركون بصعوبة بالغة، ونظرا لقناعتهم بعدم جدوى العمل السياسى فإنهم كانوا يهربون إلى فضاء الثقافة. فى اتجاه آخر أصدرت دار “بعد البحر” التى أطلقت سلسلة ترجمة الأدب الإيطالى إلى العربية، رواية “روبرتو باتسي” وعنوانها “البحث عن الإمبراطور” ترجمتها إلى العربية هبة فاروق، وتدور أحداثها حول قصة فيلق روسي، ضل طريقه فى سيبيريا أثناء الثورة البلشفية، خلال رحلة بحثه عن القيصر الأخير، إنها قصة ذلك الهاجس الذى استحوذ على الكاتب، منذ أن رأى وهو طفل صغير، لوحة تجسد القيصر وأسرته، وعرف أنهم كانوا فى المنفى، ذلك الهاجس الذى تجسد فى هوية حكى مزدوجة: الإمبراطور والباحثون عنه، وهم يدركون استحالة ما يقومون به، تتخذ الرواية خطا خياليا، حالما، قليلا ما كان يستخدم فى الأدب الإيطالى فى القرن العشرين. تتميز الرواية بالبراعة الفنية الشديدة التى بفضلها نشعر ونحن نقرأها أننا شهود عيان لأحداث لم تجر قط، أو لعلها حدثت خارج مدى أبصارنا وحياتنا، هذا عن الرواية أما مؤلفها فهو شاعر وروائى وصحفى إيطالي، ولد عام 1946 وأصدر عدة دواوين منها “أبيات غربية” و”الخبرة السابقة” ثم اتجه إلى الرواية فكتب “بعد الربيع” و”يؤسفنى أننى سأموت لأننى لن أراك مرة ثانية” و”غرفة فوق الماء”. أما رواية “الخمس عشرة ألف خطوة”، فمؤلفها “فيتاليانو تريفيزان” مولود فى العام 1960 وقد عمل وهو شاب فى مجال البناء والأثاث، ونشر روايته الأولى “ثلاثية بدون بيانو” عام 1998، وفى العام 2002 أصدر رواية “الخمسة عشر ألف خطوة”، إضافة إلى كتابة سيناريوهات سينمائية ومجموعات قصصية، وتمثل رواية “الخمسة عشر ألف خطوة” رحلة داخل عقل تحاصره الهواجس، لكنه عقل يشبهنا، “توماس” بطل الرواية يدون أفكاره فى مفكرة صغيرة لا تفارقه، ويحلم وهو يجوب شوارع مدينته بغابات رائعة، يعد خطواته وهو يسير، ويسحبنا معه بقوة إلى عالم من الوقائع والشخوص والمصائر والأماكن الكامنة خلف ضجيج مدينته المعاصرة. ضمن ما يحدث فى هذا الإطار الخاص بالترجمة ينبغى أن نشير إلى أن ورشة باسم “سلامة سليمان للترجمة” تعمل منذ سنوات بدعم من “مؤسسة بروهيلفتسيا” على ترجمة عدد من الأعمال المكتوبة باللغة الإيطالية إلى العربية، ويشرف عليها بعض أساتذة الأدب الإيطالى فى مصر، وتشارك فيها مجموعة من شباب المترجمين، والهدف هو تقديم أعمال إبداعية من عالم بعيد إلى القارئ، الذى لا تتاح له الفرصة للوصول إليها، وكانت ثمار هذه الورشة مجموعة قصصية بعنوان “زهور الظل” للكاتب “ألبرتو نيسي” المولود فى الجزء الإيطالى من سويسرا سنة 1940، وقد بدأ نشاطه الأدبى وحقق شهرته كشاعر، تتميز أعماله بالطابع الاجتماعى والإنساني، فهو شاعر الأمكنة والأزمنة المفقودة والواقع الجبلى والريفي، الذى قضت عليه المدينة بشكل يكاد يكون نهائيا. فى هذه المجموعة القصصية نلمح توجها ملموسا عند «نيسى» إنه يحفظ بلغته الشعرية ما يقوم الواقع بتدميره بصورة تدريجية، فنحن نسمع أصداء للكآبة والمذاق اللاذع للزمن الذى ينقضي، وللحياة التى تتفكك، نشعر بالمزاج المكبوت لأناس يستدعون ذكريات الشباب، ونسمع أصواتا لا يمكن أن نخطئها قادمة من ذلك الزمن، صوت أجراس الكنائس، أصوات الحيوانات، أصوات حصى الأرض وهو ينزلق من تحت الأقدام فى دروب القرى. إنها قصص تروى عن عالم منغلق، تحده إيطاليا جنوبا، وجبال الألب شمالا، والتى فضلا عن أنها تعرض علينا أعرافا وعقليات وأنماط تفكير لتلك المجموعة من البشر، التى كانت تمثل لعدة قرون النمط البشرى الوحيد فى تلك المناطق، وربما النموذج الأول للفلاح ابن الأرض وتقاليده، فهى تحكى لنا عن زمن ولى، أو على وشك الانقضاء.