أكتب إليك قصتى، بل قل مأساتى بلا ترتيب، إذ ضاع تركيزى، فلا أستقر على حال منذ أن ألمّ بى المصاب الجلل الذى أحال حياتى إلى قطعة من الجحيم، ولا يغمض لى جفن، ولا يهدأ لى بال، وأعيش نهارى كليلى، وصارت حياتى بلا هدف بعد كل ما جرى لى، فأنا سيدة فى السادسة والأربعين من عمرى، نشأت فى أسرة بسيطة بقرية صغيرة فى إحدى المحافظات، لأبوين فقيرين، وخرجت من المدرسة بعد أن تعلمت القراءة والكتابة لمساعدة أمى فى أعباء المنزل، ولما بلغت سن الزواج، وافقوا على أول طارق لبابى، وهو عامل أرزقى، وانتقلت إلى بيته، ورضيت بحياتى معه، وساعدته فى بيع بعض الخضراوات والفواكه بالشارع الذى نقيم فيه، ومضت الحياة بنا بحلوها ومرها، وكنت أجد سعادتى عندما نجتمع آخر النهار، وسط أولادنا الذين رزقنا الله بهم تباعا، وهم أربعة «ثلاث بنات وولد» ترتيبه الرابع، وهو آخر العنقود، وقد لاحظت منذ ولادته أن بطنه منتفخ، وأنه يتعب من أقل مجهود، وحملت إلينا التحاليل والأشعات خبرا حزينا بأنه مصاب بتضخم فى الطحال، ولابد من استصاله، فخضع فى سن صغيرة للجراحة بكل ما فيها من آلام، وواظبنا على إعطائه العلاج والمتابعة لدى الطبيب الذى أجراها له، أملا فى محاصرة المرض، فلا تحدث له مضاعفات، وصار ابنى الوحيد هو شغلنا الشاغل، وأحاطته شقيقاته الثلاث بكل الرعاية والاهتمام، واقتربت أخته التى تسبقه فى السن منه كثيرا، خصوصا بعد أن تزوجت شقيقتاهما الكبريان، وجاء عريس طالبا يدها، ففضلت تأجيل الزواج إلى حين الاطمئنان على شقيقها، حيث أفادنا طبيبه بضرورة زرع كبد «جزئى» له من متبرع يتوافق معه فى الأنسجة والتحاليل، ولم نكن نملك من تكاليف الجراحة شيئا، وعلم أهل الخير من جيراننا بأمر ابنى، فساعدونا فى طرق أبواب الجهات الخيرية، ووجدنا استجابات تغطى جانبا كبيرا من المبلغ المطلوب، وجاء الدور على المتبرع، فخضعنا جميعا للفحوص، فلم تتوافق معه إلا شقيقته غير المتزوجة، وعلم الشاب الذى كان يرغب فى خطبتها بذلك، فجدد عرضه بعقد قرانه عليها، وأنه لا يمانع فى أن تتبرع لأخيها بفص من كبدها، بل وأنه على استعداد لإجراء الفحوص، والتبرع له بدلا منها، فشكرناه، وأقمنا حفلا بسيطا اقتصر على الأهل والأقارب، وجرى عقد الزواج وسط دموع الحاضرين المختلطة بالحزن والفرح.. الحزن على حالة ابنى الصحية، والذى بدا منكسرا وشاردا، وهو يجلس على كرسى بالقرب من أخته، وكلما نظرت إليهما أشفق عليهما من الجراحة التى لم يتبق على موعدها سوى أسبوع.. والفرح بابنتى التى صارت عروسا، وسوف تلحق بعش الزوجية بعد إجراء العملية التى ستتبرع فيها لشقيقها بجزء من كبدها، وأتعلق بالأمل فى تعافيها بإذن الله. لقد ظللت شاردة طوال الحفل، وأفقت على كلمات عريس ابنتى، وهو يربّت على كتفى، قائلا لى: «ما تقلقيش يا ماما».. هنا انخرطت فى بكاء متواصل وتجمعت الأسرة حولى، ولم يتمالك زوجى نفسه هو الآخر.. وبينما نحن على هذه الحال، دخل علينا رجل فاضل ساعدنا كثيرا، وقال لنا كلاما طيبا، فهدأنا بعض الشئ، وانصرف الجميع، وفى اليوم التالى أتممنا إجراءات المستشفى، ومرت أيام ببطء شديد، وحان موعد الجراحة، فدخل ابناى غرفة العمليات، وطال انتظارنا لأكثر من أربع عشرة ساعة، ثم خرج علينا الطبيب متجهم الوجه، ولم يرد على سؤالنا: هل نجحت الجراحة أم لا؟، وبعدها بدقائق علمنا بوفاة ابننا، وإدخال ابنتنا حجرة الرعاية المركزة، فتماسك زوجى وأزواج بناتى، وشيعوا الولد إلى مثواه الأخير، وظللت أنادى على ابنتى أن تردّ، ولكن هيهات أن تستجيب لى، أو أن يسمحوا لى بالدخول عليها فى حجرتها، وما هى إلا ساعات حتى لحقت بشقيقها، ونحن فى حالة ذهول، وسقط زوجى مصابا بجلطة فى المخ، وأغمى علىّ، وأعطونى حبوبا مهدئة، أما «عريس ابنتى»، فقد انتابته حالة غريبة، وانزوى بحجرة فى بيتهم لا يتكلم مع أحد، ولا يرد على أى أسئلة، ورفض تناول أى طعام، واضطروا إلى إعطائه بعض المحاليل والحقن، وارتبكت أحوالنا، وانغلقت فى وجوهنا كل الأبواب بعد رحيل فلذتى كبدى فى غمضة عين، وكثيرا ما أسأل نفسى: ما الذى ارتكبته فى دنياى لكى ألقى هذا العذاب، فأصعب شئ على الأم أن يرحل ابن لها، وهى على قيد الحياة، فما بالك باثنين من الأبناء فى وقت واحد، وفى أثناء الجراحة؟.. إننى أعلم تماما أنها أقدار مكتوبة، ولكن ما قاسيته أنا وزوجى يفوق طاقة البشر، ثم إن زوج ابنتى التى لم يدخل بها، مازال على حالته من الصمت والإنطواء.. لقد انقلبت حياتنا رأسا على عقب، وأعيش ليالى عصيبة، وكلما نظرت إلى زوجى، وهو طريح الفراش إثر الجلطة التى تعرض لها، وتذكرت ابنىّ الراحلين، تنتابنى حالة من الهلع والخوف، وأخرج إلى الشارع، وأنادى عليهما بأعلى صوتى، فيتجمع المارة، ويحاول الجيران تهدئتى، وكم أتمنى أن تنتهى حياتى، وكفانى ما عانيته من آلام، ثم أعود فأستغفر الله، فلا اعتراض على حكمه ومشيئته، وله الأمر، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى، وأرجوك أن تدعو لابنىّ بالرحمة، ولنا بحسن الخاتمة. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: لا حيلة لأحد إزاء ما يواجهه من متاعب، وما يعتريه من آلام، وكل ما عليه أن يتعامل مع الأمر من الناحية الإيجابية بأنه قد تكون له منزلة عظيمة عند الله لا يبلغها إلا بتحمله المصائب.. لقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذى تتخلله الشدائد، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التى تنتظره، والتى لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها، حيث نشأ يتيماً، ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى ماتت أمه أيضاً، ويُذكّره الله بهذا بقوله تعالى: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى»(الضحى6)، وقد قال الإمام الشافعى رحمه الله: جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ وَإِنْ كَانَتْ تُغَصِّصُنِى بِرِيقِي وَمَا شُكْرِى لَهَا حَمْدًا وَلَكِنْ عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّى مِنْ صَدِيقِي ثمّ ألا تدرين ياسيدتى أن الله قد يبتلى أحدا من عباده لكى يرفع درجاته، ولكن بشرط أن يتسم بالرضا والطمأنينة، والسكون للأقدار، فكل ابتلاء له خير وأجر، إن هو صبر واحتسب ، وكل ابتلاء ومصيبة له سوء وشر، إن جزع وتسخط ، ولكن إذا وطَّن نفسه على تحمل المصائب ، والرضا عن الله بقضائه، فلن يضره بعد ذلك إن علم سبب البلاء أو لم يعلمه. وإذا كان الابتلاء فى الأولاد من أعظم الابتلاءات، فإن ثواب الصبر عليه جزيلا، فعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله أتى على امرأة تبكى على صبى لها فقال لها: اتقى الله واصبري, فقالت: وما تبالى بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه الرسول فقالت: يا رسول الله: لم أعرفك، فقال: لها إنما الصبر عند أول صدمة.. إن الراضين بقضاء الله, لهم فى الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء يوم القيامة على حد قول أم الدرداء ، وجاء أيضا على لسان رسول الله أنه «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة فى نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة «. والابتلاء فى الأولاد عظيم، وهو نار تستعر فى الفؤاد، وحرقة تضطرم فى الأكباد، ولهذا كان ثواب الصبر على ذلك جزيلاً وسيكون أجره فى ميزانه يوم القيامة ثقيلاً لقوله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله عز وجل: ما لعبدى المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة « .......وكان هناك رجل من الصحابة مات له ابن فامتنع عن الحضور إلى النبى لحلقات العلم، فلما سأل عنه صلى الله عليه وسلم حضر، فقال له النبى يا فلان: أيهما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك، أو لا تأتى غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه، وفتح لك؟ قال يا رسول الله: بل يسبقنى إلى أبواب الجنة، فيفتحها لى أحب إلىّ، فقال: فذلك لك، فقام رجل من الأنصار، فقال يا رسول الله: هذا لفلان خاصة أو لمن هلك من المسلمين كان له ذلك؟ قال: بل كل من هلك له فرط من المسلمين، كان له ذلك أرأيت كيف ستكون عاقبتك جزاء صبرك على فلذتى كبدك؟.. لقد لمست مدى فجيعتك فى ابنيك خلال مقابلتى لك فى مكتبى، لكنى أيضا أحسست بنور الإيمان يعلو وجهك برغم حالة الحزن البادية عليك، وسوف ينزل الله سكينته على قلبك، ويرزقك الطمأنينة، لقول رسول الله: اذا مات ولد العبد، قال الله عز وجل لملائكته: «قبضتم ولد عبدى»؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدى؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول تعالى: ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة، وسموه بيت الحمد». ولقد جاء إلى الحسن البصرى رجل فقال: يا أبا سعيد: إنه كان لى ابن صغير فمات، فإذا رأيت شيئا مما كان يلعب به، جزعت من ذلك جزعاً شديداً، فقد خفت أن يحبط بذلك أجرى، فرد عليه: لن يحبط الله أجرك، فإذا رأيت شيئاً من ذلك فقل: اللهم اجعله لى أجراً»، فكل ما فى الدنيا يتغير ويتحول ويضمحل ويفنى ويزول لأنها إلى الآخرة طريق، وفى ذلك يقول الشاعر : تعز بحسن الصبر عن كل هالك ففى الصبر مسلاة الهموم اللوازم وأنشد آخر : وما يغنى التأوه إذ تولى وهل ما فات مرتجع فإقراراً وتسليماً وصبراً على ما كان من قدر الإله وكتب الإمام الشافعى يعزى عبد الرحمن بن مهدى عندما حزن على موت ابنه قائلا: أما بعد : فعز نفسك بما تعزى به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك، واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور مع حرمان أجر، ولنحاول اكتساب الأجر بالصبر، ومن بين ما روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قدّم تعزية للأشعث بن قيس فى ولد له مات قائلا: إن تجزع على ابنك فقد تستحق ذلك بالرحم، ولك بيعقوب عليه الصلاة والسلام قدوة، وإن تصبر ففى الله خلف.. يا أشعث: «إن صبرت جرى عليك القدر، وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور». أما التضحية الكبرى التى قدمتها ابنتك الراحلة لشقيقها رحمهما الله، فإن جزاءها عند الله عظيم، إذ أدركت أن» السعادة فى العطاء أكثر منها فى الأخذ»، كما جاء على لسان المسيح عليه السلام، وليس هناك ما هو أعظم ولا أروع من أن يتبرع المرء بجزء من جسده لأقرب الناس إليه.. لقد صنعت رحمها الله ما صنعت، وهى لا تدرى إن كانت ستنجح الجراحة أم لا، لكنها آثرت شقيقها على نفسها، فتستحق بذلك جنة الله ورضوانه، وأما خطيبها، فأرجوه أن يتماسك، وأن يبحث عمن تضاهيها فى أخلاقها وسلوكها، وبرها بأهلها وإيثارها الآخرين، وسوف يرزقه الله بمن تكون له ذخرا فى الدنيا والآخرة، وأخيرا عليك بالصبر على ما قدره الله عليك، واعلمى أن الله أرحم بالعبد من نفسه، وأن كل ما يقضيه الله لعبده المؤمن فهو خير له؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له».. أسأل الله أن يسكن ابنيك الراحلين الجنة، وأن يهبكم الثبات والطمأنينة، إنه على كل شئ قدير.