رحل عن عالمنا بجسده، لكن روح كتاباته فى تشريح ظاهرة التخلف والتبعية، واستنتاجاته القاطعة بشأن تحور صور الاستغلال، وكيفية مقاومة العمال والفلاحين للظلم والتهميش، ستظل تلهم مئات الملايين حول العالم بضرورة التحرر وبناء مجتمع كفء عادل، وعلاقات دولية صحية ومتكافئة، تضمن عدالة توزيع الدخل على المستوى العالمى بين صناع القيمة والتقدم الانساني. إنه سمير أمين المفكر المصرى الأصل، الفرنسى التعليم، العالمى الثقافة، الذى كرس كل أبحاثه منذ حصوله على الدكتوراة لموضوع التنمية، وكشف التناقضات فى نمط الإنتاج العالمي، بين مركز يستنزف فائض عمل وعرق العاملين، ومحيط يعج بالفقر والتخلف بسبب هذا الاستنزاف، فوضع أسس نظرية (المركز والمحيط) مستفيدا من دراسات ماركس وبول باران وبول سويزى فى قوانين التراكم الرأسمالي. سمير أمين استمر طيلة حياته نصيرا للعمال والفلاحين والفقراء والمستضعفين فى كل أنحاء العالم، ورسم بكتاباته صورة مستقبل افضل يبدأ من المحيط ليكتسح المركز. وهو فى ذلك ربما استلهم نظرية ماو تسى تونج بشأن تحقيق التغيير عبر حشد قوى الهامش، والهجوم على المركز، أو عبر تجييش قوى الريف لاكتساح المدن، وإقامة نظام أكثر تحررا وأكثر عدالة وأكثر قدرة على الانطلاق بتركيز التراكم الرأسمالى فى القطاعات القائدة اقتصاديا واجتماعيا لتحقيق الرفاهة للجميع وليس لطبقة او اقلية بعينها. سمير أمين ابن بورسعيد، المولود فى عام 1931، تلقى تعليمه الأساسى فى مصر، وانتقل الى فرنسا لتلقى دراساته الجامعية وما بعد الجامعية، فدرس العلوم السياسية هناك، ثم انتقل فى دراساته العليا لدراسة الاقتصاد، بعد أن أدرك على الأرجح أن الفهم الحقيقى للسياسة لا يكتمل دون فهم آليات النمو والتراكم وتوزيع عوائد الانتاج بين الطبقات المختلفة. حصل سمير امين على الدكتوراة فى الاقتصاد السياسى من المعهد القومى للاقتصاد والاحصاء فى فرنسا وهو فى سن السادسة والعشرين. وعندما أتم دراسته عاد الى مصر ليعمل فى ميدان التنمية والتخطيط لسنوات قليلة، أدرك خلالها صعوبة البيئة السياسية والعلمية والادارية، وتعرض للمطاردة فى السنوات العصيبة من 1957 الى 1960، فغادر مصر حاملا معه حلما عظيما ليس لمصر وحدها، ولكن لكل الدول النامية ودول المستعمرات السابقة التى تعرضت لنهب ثرواتها، ونزح فائض إنتاج قواها العاملة الى الدول الاستعمارية، مما أدى الى اصابة هياكلها الاقتصادية بالشلل والضمور وإفقار شعوبها، وتدمير محركات نموها، وإبقائها حبيسة داخل اسوار الهامش التى تحول بينها وبين الوصول الى المركز. كان سمير امين الذى رحل عن عالمنا فى 12 اغسطس الحالي، صاحب رؤية، ورائد مدرسة فكرية كرس لها كل حياته منذ أدرك ملامح انقسام العالم الى مركز للنمو، والى هامش او محيط يعانى التخلف. وفى سياق بحثه عن أسس ظاهرة التبعية وانقسام العالم الى مركز احتكاري، والى هامش منهوب ومستنزف، قدم سمير امين لعلماء ودارسى التنمية فى العالم إطارا معرفيا وافيا، يشرح فى بساطة اهم قوانين الحركة فى الاقتصاد وفى المجتمع وفى العلاقات الدولية التى تكشف نمط الاستغلال على المستويين المحلى والعالمي. وقال إن ذلك النمط يرتكز على قانون القيمة، فطور نظرية كارل ماركس فى فائض القيمة إلى قانون للقيمة على المستوى العالمي، وقرر أن طبقة العمال فى مركز النظام الاحتكارى العالمى (الولاياتالمتحدة، والاتحاد الاوروبي، واليابان) تتعرض لمعدل من الاستغلال اقل مما تتعرض له طبقة العمال فى دول الهامش او المحيط. واستنتج أن هذا التفاوت فى معدل الاستغلال يحول دون وحدة الطبقة العاملة على المستوى العالمي. وهذا الاستنتاج يسقط من الناحية العملية الشعار التاريخى الذى أطلقه كارل ماركس منذ منتصف القرن التاسع عشر والذى منطوقه: يا عمال العالم اتحدوا!. وهذا التحليل يربط فى جدل تاريخى عميق قانون القيمة كأساس لتحقيق التراكم الاقتصادى والنمو، وقانون صراع الطبقات كطريق لإحداث التغيير. وعلى الرغم من أن سمير امين أقر بوحدة العالم، من حيث التراكم والحاجة الى التغيير، فإنه اجتهد الى حد كبير فى بيان الاختلافات الجوهرية بين عمل قانون القيمة فى دول المركز وبين عمله فى دول الهامش، وكذلك بين صراع الطبقات من اجل التغيير فى دول المركز، وبين الصراع فى دول المحيط، وأشار- كما فعل توماس بيكيتى بعده بكثير - الى خطورة استمرار سيطرة أقلية أوليجاركية على مقاليد الثروة والسلطة فى العالم. وفى السياق ذاته استنتج سمير أمين أن العلاقة بين الأجور والإنتاجية تختلف فى دول المركز الاحتكارى عن دول المحيط. وهذا يعنى عمليا انه سلم بأن العمال فى الدول الصناعية فى المركز يحصلون على نصيب أكبر من القيمة مقارنة بأقرانهم فى دول الهامش. وفى تاريخه الفكرى نحت سمير أمين نظرية مركزية الذات الأوروبية فى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وشارك مع آخرين من موقع الريادة فى تطويرها. كما وضع أسس نظرية التنمية غير المتكافئة. لقد عاش سمير أمين حياته فى حال اشتباك جدلى متجدد مع فترات من حياة البشرية سجلت الكثير من الانتصارات والكثير من الانكسارات، فتفاعل معها بفكره مخلفا لنا تراثا هائلا من الأفكار والنظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التى أصبحنا الآن فى حاجة إلى إعادة قراءتها وإعادة اكتشافها. وشهد سمير أمين قبل ان يرحل بزوغ الصين كقوة من قوى العالم الرئيسية، وكأن نبوءته فى انطلاق أرياف العالم (الهامش أو المحيط) من البرازيل إلى الصين قد بدأت تتجسد حقيقة ساطعة. وداعا سمير أمين. لمزيد من مقالات إبراهيم نوار