إليك حكاية عن الأخوين «دونشو» و«دونيو»، قيل إن الأهالى هنا اعتادوا مشاهدة فصولها ضمن عروض مسرحية شعبية. وللعلم، فهذان من أعذب الأسماء وقعًا على الآذان، بيد أن القصة نفسها قديمة، وأن تقول قديمة معناه أن تتصور الرجوع بتاريخها إلى زمن سحيق، يسبق عمر أى واحد من العجائز أو الكهول الباقين على قيد الحياة، ولعل الناس قد ظلوا يتوارثونها جيلًا بعد جيل، على مرّ الزمان، فهى من ميراث حكايا أجداد الأجداد. عن نفسى فلست متأكدًا من أن الناس يمكن أن تتناسخ أرواحهم، مع ذلك فثمة توءمين يقال لهما أيضًا: «دونشو» و«دونيو»، مع ملاحظة أن أيًا منهما لم يكن له أن يصبح ملكًا فى يوم من الأيام فتلك أشياء تقررها مشيئة الأقدار. دونشو راعى أغنام، أما أخوه التوءم فيعمل سائقًا، ويصغره بساعة واحدة. أخوان توأم، ليسا ككل التوائم؛ فقد كانا أكثر من مجرد أخوين متشابهين تمام التشابه، بل كانا على قالب واحد. صورة على غرار قالبها، أو قالب ومثاله دون أدنى تباين. الكبير، الذى هو دونشو وبحق كان اسمًا على مسمّى، فهو أخ كبير كما ينبغى للأخ الأكبر أن يكون جسده ضخم ووجهه برونزى اللون ورأسه عظيم، كأنه منحوت من حجر صوان؛ فى حين كان دونيو ضئيل الجسم ذابل العود، على النقيض من أخيه، قد بلغ من قصر قامته أن رأسه كان يبلغ بالكاد قاعدة عنق التوءم الأكبر. فى أول أمره كان دونيو راعى أغنام كأخيه، مع ميل إلى النشاط والمرح، حتى أغنامه كانت أكثر حيوية، اعتاد لفترة ارتداء قبعة حمراء طوال الوقت، فكان الناس يعرفونه عن بعد وهو عند منحدر التل يقود قطعانه التى بدت وهى بعيدة مثل يرقات تتلوى. يرقات متباينة الألوان، لدى سفح الجبل الغربي، بأحجاره الضخمة ومروجه المتناثرة التى تباعدت فيها رءوس أشجار الصفصاف. وثمة درب واحد لا غير تطرقه الأغنام ووراءها دونيو بدأبه المعتاد مع ضعف بنيته، لكن خفة حركته كانت تتوازن مع كثير من أوجه النقص، بالإضافة إلى موهبته فى الغناء. كم كان حلو الصوت وهو يشدو! كان أن قصد دونيو إلى أخيه الأكبر، ذات يوم، ليفضى إليه بموضوعٍ شغل تفكيره. «أريد التطوع فى الجيش.» «أقلتَ لأمك؟» «لكن، هل تظن.. » كانا يستلقيان قريبًا من خيمة منصوبة، بمحاذاة سور حظيرة الأغنام، تحتهما أرض مليئة بالعشب البارد. وكان أن استوى دونيو قاعدًا. «هل تظن بأنها.. ستوافق؟» لم يكن يكترث لرد أخيه، وبدا كمن يحدث نفسه. «لا، لا أظن أن أمى ستسمح لى بالذهاب، بالتأكيد لن توافق.» قالها بلهجة الواثق، ثم لكز أخاه قائلًا.. «هه؟ قُل شيئًا!» «أيًا ما كان الأمر، فلا بد أن تجلس مع أمك وتكلمها.» «هى لن توافق، هذا ما أعرفه تمامًا، لن توافق، لكنى لا بد أن أذهب، لا بد أن أسافر يومًا إلى تلك البلاد.. «شيآن»، «تشنغدو»، لا بد أن أنزل «بكين»، «شنغهاي»، أريد أن أرى البحر بعيني.» «أمك يجب أن تعرف.» «أريد أن اتعلم حرفة جديدة، أريد أن أتعلم قيادة السيارات، تلك أمنيتى منذ زمان منذ الطفولة، لو قدت سيارة لذهبت إلى أى مكان فوق الأرض، إلى ‘شيغاتسي' أو‘النهر الأسود' أو ‘لهاسا' و‘شانان' وربما إلى ‘تشانغدو' وطبعًا فأول مكان لا بد أن أدور به كله هو جبل ‘أليشان' أى منطقتنا هذه من شرقها إلى غربها.» «إذن، فمتى تنوى أن تحدثها فى هذا الموضوع؟» «.. انظر، سأقود السيارة فى الليل وأسلط ضوء المصابيح على الغزلان الجبلية، كنت وأنا فى التاسعة من عمرى أجلس بجوار العم ‘قوا' رئيس فريق الانتاج وهو يقود السيارة.. آه، كم كنت أبتهج لهذا. أذكر وقتها عندما كنا نقود بالقرب من المروج الجنوبية، وصادفنا على الطريق عددًا من الغزلان، كانوا أكثر من عشرة تقريبًا وعندما سلّط نور المصباح عليها أرهفت آذانها ومدت أعناقها ببالغ الرقة والرشاقة، لما اقتربنا منها فرت مسرعة فى طريق مستقيم، لا تحيد يمينًا أو يسارًا، وقال المعلم ‘قوا' إنها تجرى باستقامة شعاع نور العربة ولا تحاول الانحراف إلى المكامن المعتمة وإلا هلكت، واستطعنا فى تلك الليلة أن نحاصر خمسة منها، آه، ياللروعة!» «غدًا، اذهب لأمك وتكلم معها، على مهل.. » «سآتى وآخذك معى فى العربة ولن تكون بحاجة لأن تحمل الحطب، سأوصلك إلى الغابة الغربية كى تقطع ما شئت من جذوع الشجر فنحملها ونعود بها، طبعًا لن نستغرق وقتًا فى الذهاب والإياب، مع أنى كنت أرى منطقة الغابة الغربية وأنا على قمة الجبل فتبدو ضبابية وبعيدة جدًا، عند حافة الأفق، كنت أراها كتلة معتمة بغير حدود، ألمح على البعد مياه بحيرة ‘شنهو' تلمع تحت ضوء النهار، نعم، أقسم لك إنى رأيت الغابة من هذا الارتفاع، رأيتها وهالنى منظر الأشجار الكثيفة المتشابكة، فانظر, عندما يكون معى سيارة سأوصلك إلى هناك، لك وقتئذ أن تحمل أجولة من الحطب وتعود بها معى دون مشقة، سنأتى بكمية كبيرة منها تكفى أمى فصل الشتاء كله ولا تعود أنت بحاجة إلى أن ترهق نفسك بحملها بين حين وآخر، ولا تحتاج أيضًا إلى أن تعانى مشقة حمل روث الأبقار، فتأمل معي، أليس هذا شيئًا مريحًا يجلب السعادة إلى قلبك؟». «كل ما تقوله رائع, لكن أهم شيء أن تتكلم مع أمك، وعلى مهل، دون أن تسبب لها القلق أو الضيق.» «أتعرف؟ سآخذ البنت «نيمو» معى بالسيارة، لأن أباها سيكون قد وافق على زواجى منها، هه؟ أما عرَفْتَ أنه قد وعد بتزويجها من شاب يجيد قيادة سيارة؟ وهى قالت إن أباها لا يخلف وعده، فهل تظن ذلك؟ البنت تحبني, لكن المشكلة أنها تنصت بملء أذنيها لما يقوله أبوها، لذلك فلا مفر من أن اتعلم قيادة السيارات بأى طريقة، فزواجى منها مرهون بهذا الشرط.» «أنت تعرف أن أمك تحب نيمو جدًا، فتكلم معها عن موضوع سفرك وترحالك، لن تمانع بل على العكس ستسعد لما يفرحك، لكن المهم وأنت تكلمها أن تنتبه بشدة إلى.. » «من مزايا قيادة العربة أيضًا أنى أستطيع حمل الحطب إلى بيت عائلة ‘نيمو', وسيفرح أهلها لذلك وبخاصة الوالد، ولو أنى وأقول لك بصراحة، من أعماق قلبى سأكون مضطرًا إلى ذلك، إرضاءً للبنت فقط وليس لأى أحد آخر، ليس لأجل أبيها فأنا لا أحبه، أتعرف هذا؟ لا أحبه ومع ذلك فليس أمامى إلا أن أرضيه وأحمل إليه أكداس الحطب فقط لأجل نيمو، لأجل مسرة قلبها، ولا أقبل لنفسى أن أفعل شيئًا يضيرها، فما لى رغبة سوى بهجتها.» «قل لى كيف ستعرض الأمر على أمك؟ فهى تحبك، وتحب صوتك الشادى بالغناء، وستفتقدك إذ تسافر ويبقى فؤادها معلقًا بك.» «بالعربة أستطيع أن أتجول فى كل الأنحاء، وأشاهد كثيرًا من عروض الرقص والغناء. أتذْكُر وقت أن جاءت إلى بلدتنا فرقة الفنون الشعبية؟ أتَذْكُر وقت أن بقيت أتنقل وراءها فى القرى على مدى ثلاثمائة كيلومتر لمدة أسبوع دون انقطاع؟ ظللت أتبعها أينما ذهبت، لأن الأيام السبعة لم تشبع نهمى لكل تلك الرقصات الجميلة، ثم عرفت أن الفرقة تتخذ مقرها فى العاصمة «لهاسا»، عند أحد أطراف جبل «كانديس»، قلت لنفسى إنى أستطيع أن انتهز فرصة سفرى ذات يوم إلى هناك فأذهب وأشاهد عروض الغناء والرقص مرة ثانية، أقود السيارة ذاهبًا بسرعة إلى حيث تقام الحفلات الحلوة وأستمتع بالفرجة عليها أينما عرضت، وقد سمعت أن ‘لهاسا' تمتلئ بهذه الفرق الفنية، بالإضافة إلى مجموعات الفنون التبتية وفرق الموسيقى الشعبية والمسرحيات بكل أنواعها، فأتنقل من هذه إلى تلك، لا أدع عرضًا أو فقرة إلا واستمتعت بها. اسمع، سآخذك معى أنت أيضًا، أصطحبك معى لتشاهد كل تلك الحفلات، مارأيك؟ هه؟ إذا لم تكن تحب هذه العروض كما قد قلت لى سابقًا، فسأدعوك لمشاهدة أفلام السينما فى ‘لهاسا' حيث تعرض الأفلام يوميًا. هكذا قالوا لى، يوميًا يعرضون أفلام السينما، الأفلام التى تحبها من كل قلبك.» «دونيو، أنت تعرف أنى لا أحب الغناء ولا أجيده، على العكس من أمى التى عشقت الغناء وهى فى أول الصبا، صحيح أنها لم تعد تغنى لكبر سنها الآن، لكنها مازالت تصغى بكل حواسها للغناء.» «أتعرف ياأخى أن الشيء الوحيد الذى أندم عليه هو أنى لم أكمل دراستى الإعدادية، والأسوأ أنى نسيت ما تعلمته فيها من خرائط العالم وقاراته ومدنه الكبيرة، وإلا كنت عرفت الآن أين تقع كل تلك الأماكن التى أحلم بزيارتها، آه، ليتنى استفدت جيدًا مما درسته، لكنى نسيت كل شيء، فلا أكاد أذكر من بين أسماء المدن الكبيرة إلا «تشنغدو» و«شيآن»، «بكين»، «شنغهاى» وطبعًا لا يمكن أن أغفل مدينة «كيرمو» أما ما دون ذلك من البلاد فقد ضاعت من ذاكرتي. كم أتوق إلى مشاهدة البحار الكبرى، تُرى كيف تبدو للعين؟ سمعت أحدهم يقول إنها أكبر حتى من البحيرة المقدسة «مانا ساروفار», بل أكبر من منطقة السهول الكبرى، وإنك تتطلع إليها فلا ترى الشاطئ الآخر وتبحر فيها قوارب حديدية كبرى تعمل بالماكينات وتبلغ من ضخامتها أن الماشى يظل يتنقل فوقها طوال النهار فلا يصل إلى آخرها، ليتنى أرى بعينى رأسى البحر الواسع. أما تحلم بأن تراه أنت الآخر؟» «طبعا أحلم بأن أراه، لكن ماذا عن أمك؟ سيبقى قلبها منشغلًا بك!» «وأنا أيضًا سأشتاق إليها.» «ستبكى لفراقك، ولن تفرغ عيناها من الدموع.» «أعرف هذا.» قال دونيو.. «مفهوم طبعًا.» فيما هما يتحدثان، جاء كلبهما وأقعى مندسًا بين جسديهما وتكوّر على نفسه فى هدوء ولياقة العاقل الحصيف الذى يعرف كيف يصمت حين يتكلم الكبار، بيد أن الكبار لما رأياه قد انحشر وسطهما هكذا فقد صمتا فجأة ، ربما لأنهما استشعرا حرجًا من الحديث بمحضر طرف غير أصيل فى الموضوع أقحم نفسه عليهما دون انتظار, أو لأنهما أفرغا كل ما بجعبتهما من كلام حتى لم يعد ثمة ما يقال. وهكذا فقد توقف دونيو عن الاسترسال فى تطلعاته وأحلامه، ومن جانبه أحجم دونشيو هو الآخر عن ملاحقة أخيه بالسؤال عن الوقت الذى قرره لمفاتحة والدتهما فى أمر سفره، فضلًا عن كيفية الدخول فى مناقشة هذا الموضوع معها. كانت النجوم فوقهما تزول بطيئًا عن مواضعها، والأردية التبتية المصنوعة من جلد الضأن تلمع خفيفًا تحت قطرات الندى. لم يكن أى منهما يحمل ساعة بجيبه أو بيده، لكنهما أدركا بحسهما المعتاد أنها أول ساعات الفجر. كان دونيو منفعلًا تلك الليلة، بطريقة بدت مغايرة لطبيعته؛ فهو كأخيه الأكبر لا يميل إلى الثرثرة بحكم العادة، سوى أنه يعشق أغانى الرعاة، وما أعذب صوته شاديًا بها، حين يروق له الغناء. ذات ليلة أخرى، وَفَد إلى القرية فريق العرض السينمائى، وتقاطر الأهالى على ساحة العرض. كان الجالس على مقربة من سور حظيرة الماشية، هذه المرة، الشاب دونيو وإلى جانبه فتاته نيمو، ولما كانت الليلة باردة، منكمشة نجومها فى كنف أقمارها، فقد أطبق الصمت على الولد وحبيبته، ولو أنه فى الحق لم يكن بطبعه كثير الكلام. نادرًا ما كانت البنت نيمو تخرج من بيتها فى المساء، بسبب تشدد الوالد فى مسألة خروج الفتيات ليلًا، لكنه لم يكن ليمنعها من مشاهدة العروض السينمائية فى ساحة القرية؛ فهو نفسه كان يتوق إلى مشاهدة الأفلام كلما سنحت له الفرصة، فمن هنا استطاعت التملص من قيده الصارم، وخرجت، راحت لتقعد بجوار دونيو الذى كان قد اتخذ قراره بالسفر، بعد يومين اثنين. خلع معطفه العسكرى ووضعه فوق كتفى نيمو، بعد أن نفذت البرودة إلى عظامها، صارت ترتجف بشدة، حتى بعد أن أحاطها دونيو بذراعيه وضمها إلى صدره. وكان أن انتهى العرض مبكرًا جدًا على غير العادة، وأن دونشو وأمه لم يرجعا إلى البيت إلا بعد انتهاء العرض بفترة طويلة. فى تلك الأثناء كان دونيو قد دلف إلى الخيمة مع فتاته، وجاء بالزيت لكى يشعل الموقد، لكن نيمو أزاحت الشعلة من يده واحتضنته فانطفأت النار، وسرى الظلام فى أنحاء الخيمة، مع السكون الذى ران على كل شيء. لا شك أن توقعات القراء ستكون فى محلها، إذا ما تصوروا أن دونيو سيحقق أمله المنشود، ويدخل فى سلك الجندية، سائقًا بإحدى الكتائب. وبالطبع، فقد كانت تحدوه آمال كبيرة، وهو ذاهب فى طريقه رافعًا عقيرته بالغناء. ......................................................................... ملء المراعى هنا وهناك، على مبعدة مئات الأميال، حكايات وقصص أشبه بالأساطير، حول المدعو «دونشو»، الراعى طيب الذكر، ذى القلب النقي، الذى كاد يتحول إلى أسطورة. الأهالى فى كل هذه البقاع يعرفون تمام المعرفة أن الأرملة المسكينة «تشوجن» لقيت هى وولدها الأكبر دونشو ألوانًا من الشقاء لكى يدخل الصغير دونيو المدرسة ويتعلم ويصير ذا شأن؛ ثم ها هو قد كبر وصار فعلًا ذا شأن عندما ترقّى إلى رتبة ضابط عظيم قائدًا لإحدى الكتائب بالجيش. لم يذهب كدح الأرملة سُدى، خاصًة أنها أصبحت تتلقى كل شهرين من ولدها البار حوالة مالية تكفيها عيشًا كريمًا وسط أهل القرية التى شاع فى أرجائها، على كل مسمع، أن دونيو ضابط كبير بالجيش، يقود واحدة من تلك المركبات الكبيرة. يقود مركبة، ويرتدى بذلة عسكرية رفيعة الشأن، بوصفه ضابطًا عظيمًا! هو ذا قد أفلح دونيو، وبلغ غاية المُنى. صارت للشاب, الفقير بالأمس، منزلة يتحدث عنها أهل القرية. فماذا عن دونشو؟ الشاب الآخر الذى لم يفز بنفس الحظ، فلم يدرك فرصة التعليم وبقى على حاله لا يقرأ ولا يكتب، الشاب الطويل القامة ذو البنية الحديدية والجسد الممتلئ قوة وعافية، الذى أجمع أهل القرية على أنه لم يذهب فى حياته إلى مدرسة، ولم يطالع كلمة فى كتاب؛ لأن أيامه منذ الطفولة الباكرة كانت بصحبة قطعان الماشية أو الأبقار والثيران، يعرفه الناس على هذه الحال، منذ أن رأوه يكبر وسطهم، ويعرفون أنه بغير أب. فالأب كان مجرد عابر سبيل ساقته الأقدار إلى هذه الناحية، لم يبت سوى ليلة واحدة منح فيها الأم دفء ليلة وتوأماً من الذكور. انقضت ساعته ولم تعد الأم تذكر حتى ملامحه، أو هى بمعنى أصح لا تذكر سوى أثر جرح قطعى فى خده الأيسر، بطول إصبع, من بقايا طعنة طائشة. قالت الأم إنه كان عاملًا بسيطًا، صنائعيًا بورشة حدادة. قالوا إن دونشو ضل الطريق مع قطعانه مدة شهر بطوله، ثم تردد أنه بعد هذا الشهر أصبح مغنيًا وراوية للسير والحكايات، صار يشدو وسط أهل القرية ب «سيرة ملك التبت المظفّر كيصار» وهى عبارة عن ملحمة شعرية تتغنى ببطولة أمراء التبت وملوكه من قديم الزمان، وتُعدّ إحدى أطول الملاحم التاريخية على مستوى العالم، من دون مبالغة، إذ تتجاوز جملة قصائدها مئات الألوف من أبيات الشعر. أخذ الراعى الشاب الذى لم يقرأ حرفًا فى مدرسة وهو صغير، ينشد أجزاء مطولة من الملحمة على الأسماع. أهو شيء غير معقول؟ أم هى خوارق العادة؟ الأقاويل بشأن هذه المسألة كثيرة، أكثرها دورانًا على الألسنة يزعم أن الراعى دونشو ضلّ طريقه مع قطعانه ذات يوم، فنزل أرضًا مسكونة بالسحر، تاه فى جنباتها وغلبه النوم فنام. وكانت رقدته يومذاك فوق صخرة كبيرة مستوية (هنا مسألة دقيقة على درجة هائلة من الأهمية فى سياق التفاصيل!) ومن حوله بدا المرعى وافر الخضرة والنباتات البرية. كانت تلك أرض محوطة بطلسم من السحر والقداسة كجبل خرافي، كبحيرة مرصودة، كعقبان فى سماوات الأساطير، أو كأسماك وأصداف بحور مسربلة بالأسرار. كانت الحكايا كثيرة, فى كثرة سِيَر العجائب والخرافات التبتية المشوقة، كما عهدها الناس على مرّ الزمان. ثم نزل النعاس بالراعي، فأغفى. بعد حين نهض قائمًا من رقاده، وكان قطيع الحملان يرعى فى الخلاء، والجو رائق، قام مستندًا إلى مرفقه يتطلع حوله حائرًا بعيون مثقلة وجسد منهك ، تأمل قليلًا وأدرك على نحو ما أنه لم ينزل بهذا الموضع من قبل، لم يأت إلى هنا قط، مع أن المرعى وافر الكلأ والطبيعة غذته من فيض أجوائها المترعة جمالًا ورخاءً. كانت الشمس فى عز النهار، فاستقر مكانه هادئ البال، مرخيًا الوقت للقطعان حتى يهنأ لها المرعى. تمطّى بجسده المرهق ثم اضطجع ثانية دون نعاس، فقد فارق النوم عيونه وبدت له السماء صفحة صافية رائقة المدى، رائقة رَوْق أديم الصفو بعد انهمار زخات مطر. بدت فى البعد سحابات متفرقة مثل مزق وشاح تناثرت أوباره. ألمّ به الجوع فمد يده فى جيب السروال والتقط فتات دقيق «التسانبا» [المحمّص] ودفعه إلى جوفه. ثمة فى الأجواء كتلة صغيرة سوداء فاحمة، مرقت بين نثار السحب وانحدرت هابطة، كلما انخفضت عظُم جرمها, وإذ انجلت ملامحها فإذا هى نسر نازل، ظنًا منه أن الرجل الممدد فوق الأرض جيفة مطروحة فى العراء، وبالفعل هوى سريعًا وخمش وجهه بأظفاره، هنالك اعتدل قاعدًا دونشو، أخرج مديته ذات النصل العريض، فزع الطائر وولى مدبرًا فى اتجاه مغاير ريثما كانت قطع السحاب تتفرق وتتناثر بددا، عاد النسر الجارح نقطة فاحمة القتام تدور فى الأجواء، والسماء بساط من لازورد يسحر الألباب. نهض دونشو قائمًا وقصد إلى شاطئ بحيرة، فشرب من مائها بضع حفنات، مسح على بطنه منشرح الصدر واشتدت رغبته على غير العادة فى الغناء. لم يكن من قبل شاديًا ولا مغرما بالشدو، لكنه رفع صوته بالألحان. كان دونيو هو المعهود فى طبعه الغناء، لطالما غنّى وهو جالس إلى جواره فلا يجاريه هو نغمًا أو إيقاعًا، بل يظل منهمكًا فيما يصنع حتى ليظن به الحاضر ثقلًا فى سمعه؛ لأنه لم يكن يبدى رضًا أو سخطًا! ثم إذا به الآن يرجّع صوته بالأنغام. فجأة، بدا له أن يظل يغنى دون انقطاع، يغنى أجزاء مطولة من ملحمة «كيصار» دون أن يعتريه أى شعور بالدهشة مما هو مقبل عليه من غناء سيرة البطل الشعبى (ولو أن تلك، بحد ذاتها، هى النقطة التى أثارت استغراب كل من عرفوه طوال حياته), كان يغنى كأنه قد تلقّى الألحان على يد معلم قدير فى فنون الموسيقى والأداء، والأكثر مدعاة للعجب أنه، هو نفسه، كان يدهش عندما يلقاه الناس بعيون حائرة مليئة بالتساؤل عما جعل منه منشدًا للملحمة البطولية على غير المتوقع. فيما بينه وبين نفسه لم يكن يجد مبررًا لحالة الدهشة والتعجب التى استولت على جميع من حوله, معتبرًا أن الشدو بتلك الملحمة البطولية الكبيرة التى تمجد سيرة البطل كيصار أمر طبيعى تمامًا؛ فما الغريب فى أن يتغنى المرء بواحدة من أعظم السير التاريخية؟ ولماذا يصر الناس على سؤاله عمن علّمه هذا الأداء الجميل؟ قل لي، إذن، من علّمك فن رضاع ثدى أمّ فى المهد؟ كلما سمع من أمه، أو من أهل القرية، أنه ضل طريقه مع القطعان مدة شهر, أحس كأنه إزاء هذيان حمقى أو هلوسات أحلام. ماذا أصاب أمي؟ ما بال الناس فى بلدتنا يتكلمون هكذا؟ صارت الأم عجفاء وتبدلت ملامحها عن ذى قبل، نعم، يبدو أن فى الأمر شيئا غير طبيعي، فقد كانت هى التى وضعت له فى مخلاته صباح اليوم قطع الخبز المحمّص، بابتسامتها الحلوة التى لا تفارقها، بكل الصحة والعافية فى محياها! الوجه باش والنفس راضية، ولم لا، وقد أعطتها الدنيا سعادة النظر فى وجه ولدين طيبين! لكن شيئًا ما تبدّل الآن. ثمة أيضًا أقاويل أخرى، غير ذائعة فى الأسماع. الوالد، ابو التوءمين دونشو ودونيو كان حدادًا بسيطًا، عابر سبيل، يتكسب الرزق أحيانًا من رواية السير الشعبية والغناء، أودع خصاله رحم الأم التى أنجبت ذكرين فى آن معًا، فورث دونشو عن أبيه شيئًا من مواهبه. ونحن هنا نقترب، أو نكاد، من مسألة لها تعريفها العلمى الحديث فى مفاهيم ما يطلق عليه الهندسة الوراثية، رغم أن الأمر برمته يظل رهن نمط من التفكير الفلسفى غير المعملي، لكن قيمته تكمن فى الكشف عن ميل معظم الناس إلى تصديق الخرافة، علمًا بأن محتوى أى خرافة يتشكل أساسًا من عناصر روحانية أو مثالية، مع أنها لا تفقد مضمونها الجمالي. بالتأكيد أيضًا فإن المرويات الشعبية، شأنها شأن العناصر الوراثية، ستنأى بنفسها كثيرًا عن الاندماج مع أى منطق تفكير عقلانى. كل أنواع الخرافات والأقاويل التى تُنسج على هذا المنوال لا تلقى من الماديين، أى الآخذين بالتفسير المادي، إلا السخرية. وموقفهم هذا يقوم على منطق مقنع إلى حدٍ ما؛ إذ ينطلقون من فكرة أن مثل هذه الحكايات والمرويات والخرافات تشتمل على تلوينات جمالية يتواضع عليها الفنانون الشعبيون فى روايتهم للملاحم التاريخية، بحيث يخلعون عليها قدرًا من الغموض. يقولون أيضًا إن الهانيين، وهم أهل الحضارة الصينية الأصليون، يصعب عليهم فهم العقلية البدائية التى يخلط بها أهل التبت بين الدين والأساطير والعبادات القديمة برموزها المغرقة فى الغموض؛ يقولون إن التبتيين بطبيعتهم يميلون إلى ابتكار الأساطير والخرافات ذات العناصر الجمالية، تمامًا مثلما يعشقون بل ويعبدون المنحوتات البديعة: كالسيوف المطعمة بالفضة، الأقراط الذهبية، الخواتم والحلى وقلائد اللآلئ وأغطية الرأس بأنواعها، والضفائر المستعارة، والملابس والأبسطة والسجاجيد والطنافس، وما لا يعد ولا يحصى من مثل هذه الأشياء. فى أعماقه كان دونشو يدرك مغزى الأمر كله؛ كان يدرك بثاقب نظره ما إذا كانت تلك أساطير أم هذاءات. كان يعرف تمامًا أنه ابن حداد، عابر سبيل، مرّ من هنا ذات يوم، كان يعرف كيف يشدو بملحمة كيصار رغم عدم تبحره فى الفلسفة ومفاهيمها. كان يعرف كيف يغني، كيف يرفع صوته بأعذب الألحان شاديًا بالملحمة التبتية التى يقولون إنها أطول ملحمة بطولية فى تاريخ العالم، ويستغرب عندما يجد الدهشة فى عيون سامعيه. وإليكم، فيما يلي، جانبا آخر من حكاية دونشو. البقية الاسبوع المقبل
الروائى الصينى «ما يوان» أحد رواد تيار الرواية الطليعية المعاصرة في الصين، بل هو أحد أعضاء ما يعرف باسم «مجموعة النمور الطليعية الخمسة» وباقي أفرادها هم: «يوهوا»، «سوتونغ»، «هون فنغ»، «جيفى». وقد عمل في مهن مختلفة قبل تفرغه للكتابة الروائية. تخرّج في قسم اللغة الصينية بجامعة «لياونينغ» في 1982 وهي السنة نفسها التي شهدت بدء مشواره الإبداعي، إذ سرعان ما عمل بإحدى الصحف في إقليم «التبت» وتوالت منذ ذلك الحين كتاباته التي تعد أحد أهم معالم الكتابة الروائية المعروفة ب «الرواية الطليعية المعاصرة»، خصوصًا عندما قدم نصوص: «مركب بغير شراع في البحر الغربي»، «الزيف»، «التورط»، «أذناب الشرّ»، «آلهة نهر لهاسا». حصلت روايته «الورطة» على جائزة الرواية من مجلة «أكتوبر» الأدبية الصينية، وذلك في 2015 .