"طبعًا، لكل إنسان الحق في أن يصدق أو يكذب ما يشاء، خصوصًا حكايات الصيد، فهي بطبيعتها تتأبّي علي التصديق، مهما حاول المرء جاهدًا أن يتلمس لها سبل الإقناع". 1 أعرف أن مجيئي إليك في هذه الساعة المتأخرة سيجعلك تسبني وتلعن أجدادي، وهذا حقك دون مواربة، ولك أن تأخذ راحتك وتلعن وتشتم كيف شئت، فلم يكن هناك بدٌ من أن آتي إليك هذه المرة، مهما حصل، حتي لو نهرتني وانهلت عليّ سبًا وتقريعًا، اسمع، هل ستفتح الباب أم ماذا؟ هه؟ المطر هنا يسقط بغزارة، صدّقني، قم اذهب ناحية النافذة وانصت جيدًا، ولايذهبن بك الظن أني أتبول لدي الجدار، كلا، بل هو المطر حقًا، فكيف لمثانتي أن تختزن كل هذا القدر من الماء؟ هيا، انهض فهناك أمر مهم جدًا، بل يمكنك القول بأنه علي أعظم قدر من الأهمية، قم افتح الباب بسرعة فقد أغرقني المطر ونفذ البرد في أوصالي، لا داعي أن تتظاهر بالنوم، فقد لاحظت أنك أطفأت الأنوار توًا حين كنت أهم بالنزول من فوق الدراجة، وأنت تعرف أني ألجأ الآن، ثانية، إليك ولست أمزح بل الأمر في غاية الجد! أنا نفسي لم أكن أعرف شيئًا عن هذا الموضوع إلا منذ قليل، وهو ما أصابني بالقلق وجعل النوم يفارقني؛ فالمسألة ليست هينة، ولا يمكنني الآن الخوض في التفاصيل وأنا واقف مكاني هكذا، غارق في الوحل والمطر وراء بابك، والجدران لها آذان، وعن نفسي فسأطلعك علي كل شيء دون مواربة، هل تظن أن ثمة من يستطيع خداعك؟ فماذا لو أقسمت لك علي صدق ما أقول، وأنا بالمناسبة، في سن لا تسمح لي بالتخريف وهذر القول. ولأصارحك إذن! فقد جئتك اليوم أدعوك إلي الاشتراك في فريق المغامرة الكشفية بصفتي قائد المجموعة نفسها، وبالمناسبة فنحن نحتاج إلي عدة بنادق وآلتي تصوير من النوع الممتاز، وأيضًا نحتاج إلي عدد من أشجع الشبان، لما فكرت في الصحبة كنت أنت أول من خطر في بالي، وكنتَ أول من أبادرُ بالمجيء إليه، خصوصًا أني قرأتُ ما كُتب من حكايات أسطورية عنك وعن أخيك الأصغر.. أقصد تلك المقالة المنشورة بعنوان "شلوقاوص المثل الأعلي للشباب المغامر".. انظر، هأنذا امتدحك تحت سمعك وبصرك، وبالتأكيد فلا يليق أن أضع نفسي أو أضعك في موقف حرج، فأنا أعرفك منذ سنين، صحيح أنها ليست بالطويلة جدًا، لكنها أيضا ليست قليلة، ولم يحدث علي مدي تلك السنوات أن حاولت الثناء عليك وجهًا لوجه. وقد أتيت إليك اليوم، راجيًا أن تفتح لي الباب، وهأنت تتجاهلني وتضطرني أن أحادثك من وراء الجدران هكذا، وقد تعمدتُ أن أسمعك صوتي عاليًا، كي تعرف أنه أنا الذي يدق بابك، وليس "ياوليان" هذه المرة، باعتباره قد اعتاد مضايقتك! والحقيقة أنه هو من كان يكلمنا عنك وعن أخيك "لوآر" لذلك كنت أشعر نحوه بالامتنان، فقط، لأنه عرّفني إليك. الشيء الوحيد الذي لم أفهمه هو.. ما الذي جعل "ياوليان" يقول: "لدي الشطآن دنيا مترامية الآفاق أيضًا."؟ وأنا لا أفهم لماذا انحشرت لفظة "أيضا" في هذه العبارة، وما فائدتها بالضبط، إلا إذا كان ياوليان قد عرف مبكرًا جدًا أنك سوف تلتحق بالجامعة، وأنك سوف تذهب إلي "التبت" بعد التخرّج، وأنك ستعيش أحداثًا ومواقف تضمها قصة بعنوان: "الجهة الغربية: عالم واسع الأرجاء" وإلا فلماذا قال ياوليان: "لدي (شرق) البحر عالم مديد الأفق، أيضًا"؟ لا شك أن ياوليان يعرف كل شيء.. يا للسماء! مَن ياوليان هذا؟ 2 ذلك هو "تشيونبو"الذي لا يجيد التكلم بالصينية، بنفس القدر الذي لا تفقهون به حرفًا من اللغة التبتية، وعمومًا فتفضلوا.. اشربوا الشاي! أنا كنت، لما قصصت هذا الأمر بالليل علي ياوليان (لماذا ياوليان، هنا، مرة أخري؟) حكي لي بدوره حكايتك مع الكلب فإذا هي حكاية مؤثرة للغاية وكان الكلام كله عما رأيناه بأعيننا، وكنتم تجيئون في كل ليلة، والتأثر بادٍ في الوجوه، وأنا مثلكم، وقتها كنت في الخمسين من عمري وكلامي كله يدور حول أيام الثورة، أيام أن التحقت بالخدمة في الجيش الثامن عشر، ودخلت مع الداخلين إلي منطقة التبت في سنة 1950 أي منذ ثلاث وثلاثين سنة، هكذا من دون أن تتعبوا في الجمع والطرح والحساب. وساعة دخولي التبت كنت شابًا في مقتبل حياتي، أرتدي الزي العسكري.. هيا يا تشونبو، اشرب الشاي، تفضّل! من ناحيتي فلست أفكر بالعودة من حيث جئت. حتي عندما وجدت اسمي في قائمة العائدين، للمرة الثانية، فلم أكن أنوي الرجوع ورأيت أن أبقي حيث أنا. وقتئذٍ شعرت للمرة الأولي بآلام المعدة، ثم استفحل الداء فيما بعد وبقيت وحدي، لا أحد يؤنس وحشة العمر، لا زوجة ولا ولد. صارت الأيام تأخذ مني أكثر مما تعطي، هاكم انظروا.. حتي شعري أخذ بالتساقط مع الأيام، وإذا تخيرنا وصفًا مريحًا للنفس، فسأقول إن رأسي صار "خفيف الشعر"، مع أن الوصف الصريح والموجع أيضا يقال دائمًا من وراء ظهري.. إذ يوصف هذا الرأس بأنه مثل "بطيخة صلعاء" وأيًا ما كان الوصف فليس يهم! لأني قد اعتدتُ كل ما عساه أن يقال وليس هناك ما يستحق الغضب، ثم إن الجو هنا رائق ومهيأ تمامًا للقراءة العميقة والتأمل والكتابة، من دون أن كدر. أعرف طبعًا أنكم تهزأون بي وتضحكون عليّ.. تقولون في سركم إني كاتب مزعوم، يتخيل نفسه صاحب إبداع مشهود.. معكم حق، فقد مرت سنوات كثيرة دون أن يصدر لي شيء ذو قيمة، وكل المسرحيات التي كتبتها كانت نتاج الخمسينات، كلها تنتمي إلي ما تسمونه، في مصطلحاتكم العلمية، الكتابة الاحتفالية أو التمجيدية. ومستواي الثقافي، أصلا، ليس بالشيء الرفيع لولا ما قرأته وتعلمته أثناء فترة الخدمة العسكرية التي لم تزد عن سنوات ثلاث بالتمام، بعدها استكملت الدراسة وقمت بتثقيف نفسي رغم ظروفي الفقيرة، فأنا ابن أسرة معدمة، ولولا الحزب الشيوعي ما تعلمت شيئًا، وبالتالي فمن الطبيعي أن أمتدح الحزب وأتغني بأفضاله وأمجاده، أقول لك هذا بكل صراحة، من دون لف أو دوران.. اشرب الشاي! للأسف فأنا لا أدخن؛ لذلك نسيت أن أجيء ومعي سجائر لتحيتك، كل الشباب يدخنون هذه الأيام.. هه؟ طيب، نعود إلي موضوعنا، حيث إنهم اعتبروني كاتبًا ذا باع طويل في الإبداع، وخصوصًا أني جربت الترحال إلي تلك المناطق البعيدة، التي أطلقوا عليها: "مناطق الحكم الذاتي" وكان العمر قد تقدم بي دون أن يكون لي إنتاج وافر من الكتابة الإبداعية، في أول طريقي إلي الكتابة بدأت بموضوعات بسيطة للفريق الفني الثقافي بالوحدة التي كنت تابعًا لها، بعد ذلك عملت فقرات من المونولوجات الفكاهية، تدور حول مشاهد من واقع الحياة بالمعسكرات، ثم تعمقت رؤيتي الأدبية فكتبت مسرحية من فصل واحد، قُدّر لها أن تفوز بالمركز الثاني علي مستوي الفرق الفنية للجيش ككل، وبانتهاء الخدمة لم يكن أمامي إلا أن أعمل بالقسم الثقافي في منطقة الحكم الذاتي، باعتباري مبدعًا شابًا، في تلك الأثناء كنت قد أتممت كتابة مسرحية من ثلاثة فصول، كتبتها في سنة ألف وتسعمائة وسبع وخمسين. والسنوات تأخذ من عمر الإنسان الكثير لكي تمنحه فتات موهبة، والفلاحون هناك كانوا يقولون في أمثالهم السائرة: وراء كل بيدر سبعمائة سنة من الزرع وثمانمائة عام من الحصاد. ومع ذلك فقد مرّت عليّ أيام كثيرة لا أكتب فيها شيئًا سوي مذكراتي، ولعلكم لا تصدقوني عندما أقول هذا، لكنها الحقيقة، فلم أكتب إلا المذكرات الشخصية، لم أكتب حتي خطابًا واحدًا فلم يكن هناك من أرسل إليه خطاباتي، مات أبواي وأنا طفل، وجدتي التي تربيت في حجرها وأنا صغير، لا تقرأ ولا تكتب، والمذكرات التي دونتها فيما لا يقل عن ثلاث عشرة كراسة صغيرة، لا تحتوي علي أحداث مهمة أو أخبار كبري هزّت الدنيا، بل كلها أشياء شخصية جدًا عديمة القيمة، فأنا رجل بسيط لا أريد وجع الدماغ، خاصة أن الأوضاع يمكن أن تنقلب فجأة، فتقوم حملة هنا أو حركة هناك، وترتبك الأحوال وتقع الكوارث فوق رأسي، هذا يعني إذا حدث وكتبت شيئًا مثيرا للمشاكل ووقع في أيدٍ ساعية سعيًا إلي الإيذاء وجلب المتاعب. كنت قد عثرت، في السنة الفائتة وأنا ألملم أشيائي القديمة، علي صورة جماعية أظهر فيها بجوار القائد "تشانغ كوهوا" مع باقي أعضاء الفريق الفني بالوحدة، كما عثرت علي شهادة الجائزة التي فزت بها، وقلت لنفسي لا بد أن أكتب شيئًا عن هذه المناسبة، وليس معقولا أن آكل مع الناس خبزًا وأعيش معهم أيامًا غالية من العمر، ثم تنفرط الذكري هباء؛ وبناء علي هذا فقد أمسكت بالقلم والورقة وقررت أن أكتب.. احترت، من أين أبدأ وأين أنتهي، وماذا أكتب بالضبط، فكل محاولاتي السابقة انصبت علي كتابة مسودات لنصوص مسرحية، وبالتالي فلم يكن أمامي إلا أن أكتب نصًا مسرحيًا، هذا ما فكرت فيه، وقلت نعم.. هذا هو المعقول طبعًا، وبالفعل ظللت أفكر بالكتابة، طيلة سنتين، دون الوصول إلي نتيجة، صحيح أني كتبت مسودات كثيرة.. سبع مرات وأنا أحاول الاهتداء إلي محتوي يرضيني، دون فائدة، وكان معني هذا أن أبدأ محاولات أخري جديدة.. ربما سبع محاولات أخري عسي أن أصل إلي شيء. والمسألة مهمة هذه المرة لأنه قد يكون آخر عمل في حياتي الأدبية أدفع به إلي القراء وأغادر الساحة؛ لذلك يتحتم أن يخرج علي الوجه الأكمل. من هنا فكرت في أن أكتب مسرحية تاريخية، عن البطل "تشيانغ تشوجيان سان".. بطل تاريخي هو، بطل قومي من منطقة التبت، ثم إنه من أحب الشخصيات الأسطورية إلي نفسي، قيل إنه نال لقب "الوزير الأعظم" من أحد الأباطرة علي عهد أسرة "يوان". وللعلم، فقد استطعت عبر سنوات عمري التي قضيتها في التبت أن أتعلم اللغة المتداولة هناك، كتابة وقراءة، نظرًا لانغماسي وسط الناس وذوباني في خضم الحياة، مختلطًا بشتي الفئات، سواء أكانوا من علية القوم أم من المتنفذين الكبار والموسرين أم الفنانين والرسامين الهواة أم الفلاحين والرعاة، إلي السماسرة والتجار.. كان لي أصدقاء كثيرون من كل فئة. ومن بين فئة الصيادين، عرفت "تشونبو" واتخذته صاحبًا، خصوصًا وقد لمست فيه قوة الشخصية وأصالة الصينيين البسطاء، المقيمين في المناطق الغربية البعيدة كل البعد عن بيئاتهم التي شهدت نشأتهم الأولي، وبالطبع فقد استأذنته في أن أكتب عنه فسمح لي، بشرط أن أقص الحكاية علي أصدقائي المقربين، الذين أثق بهم كل الثقة. "ياوليان" قائد الفريق، في حين كان "تشونبو" أول اسم في قائمة العضوية. 3 مُقامك في هذا التل وعيش أيامك صار جزءًا من طبعك وطبع الأشياء، حيث الخلاء سهل منبسط ترقطه الشجيرات وحلفاء الوديان ونباتات شتي، لا أول لها ولا آخر، تلقي كسوتها الزاهية في الأنحاء مع بدء المواسم، ويصير ملء المنحدرات نجيل وأُشنان حائل لونها مضفورة الورق بالشوك والإبر، تميل إلي الاخضرار مع كل حزيران، فيروق منظر التل وقد تشعبت في جنباته نضارة لا تخطئها الأبصار، وما إن يمضي تشرين حتي تستعيد الحشائش صفرتها القاتمة، وينضو التل عن نفسه رداء كان بالأمس قشيبًا، وتبقي أنحاؤه المتفرقة أرضًا ملحية بوار، لا تزهو بالكلأ أبدا، فيعافها الرعاة وقطعان الدواب. لكن التل سكناك وموئلك، تقيم بكنفه لا تبرح ساحته، كأبيك، وسط كل ذلك الخلاء المديد، لا يسعي حولك سوي الجرذان وسط الشقوق الغائرة المتصلة، أحدها يفضي إلي الآخر ويلتحم بدهليزه، وأنت.. أنت تمضي وسط السهل ببندقية صيد قديمة علي كتفك، تحث الخطي، فتتدافع الفئران وتنكمش في مخابئها، ترنو إليك.. وأنت، تمضي كعادتك غير حانق عليها، فلطالما امتدت بكما الآجال، خلائف يتري بعضها في إثر بعض. في جحورهم يتكاثرون مثلما يتناسل قومك، تعيشون جيرانًا علي تعاقب الزمان. تدفقت تعاريج الغدران فيما بين الأرض البور والخلاء المعشوشب، فزحف الخصب إلي الوادي وهو يزيح في طريقه ملوحة السهل البائر، وينبت بوادر مرعي للسائمة من الدواب، كم صادفت في طريقك بجوار الخلجان أرانب برية، وهي تتقافز أمامك فلا تصوب عليها فوهة البندقية التي لم تفارق كتفك، بل كنت تطلق وراءها صفيرك الهادئ، وتتابع خطواتها القصيرة الهاربة، كأنك في قرارة نفسك تفهم أسرارها وتتجاوز عن درو بها المخاتلة. لطالما كنت تمشي ضد التيار، تعاند دفق الجريان وتذرع خطي متمهلة عند قمم التلال، سواء في خضرتها النضرة أو مع اصفرار العيدان، في كل أحوالها كنت تتجه إليها وئيدًا، تتهادي خطواتك وكأن روعة المنظر هنالك قد أسكرتك، كأنك ثمل من مشهد الآفاق ونشوتها، سكران وأنت حاضر الوعي بتمامه.. رجل التل أنت، صائد جوال بحنايا الجبل المقدس، ابن الشواهق الصخرية، ومثلك خير من يدرك تمامًا قيمة غزلان المسك، ذلك النوع الثمين من الأيائل، وتعرف مبلغ ما تغله من ثروة طائلة، ببضع رصاصات.. فكيف بك وقد مررت بقطيع الأيائل الشاردة، تتقافز إزاءك علي مرمي حجر منك، تتطلع إليها مليًا ولا تصوب نحوها بندقيتك المليئة خزانتها دومًا بالرصاص؟ ألا تعجبك بطون ذكور الأيائل وهي تحمل في ثناياها أثمن مستحضرات الطب والعلاج؟ تطلُع فوق منحدر سامق الذُّري، تري قمته المغطاة بالجليد فتظنها دانية الخطي.. وهي بأقصي المدي، وتعرف بأن الهواء شحيح في هذه الأجواء العالية، مما يؤثر في قوة الإبصار.. أنت ابن هذا التل، ابن الرؤوس الشواهق التي لم يسبق لخطاك أن بلغت ذروتها، بل لم يسبق لأحد قط أن بلغ منها المنتهي. تلك البقعة الوضاءة تحت نور الشمس، مكمن الغموض والخطر وانفلاق الكتل الجليدية وانهياراتها المفاجئة، تلك أشياء تتربص بك، قد تعرض لك في أي حين، في أعماقك تدرك ذلك جيدًا؛ فالجبل ذو مسّ شيطاني.. هو الجسم الأكبر من سلسلة جبال "كانديس" التي تقوم فوق أعلي هضبة في العالم بأسره، تعمر جنباتها بكائنات من كل نوع، رغم ندرة المروج والغابات والسهول ذات الكثافة الشجرية المديدة.. موجودات من أصناف شتي كان الإنسان أمكرها حيلة فوق أجناس من الطيور والدواب والسباع.. كنت، كأبيك، ألد خصم لها جميعًا، سوي أن الرجل قد لقي حتفه بين مخالب الوشق، الذي ظل حياته كلها يداوره في آكام الجبل ومنعطفاته، ولم تبق منه في ذاكرتك سوي كلماته التي أوصاك بها ذات يوم.. "انظر جيدًا، فوراء هذا التل تكمن الدببة السوداء والفهود الجليدية، ليكن حذرك كله من الوشق، فهو أشرسها وأخبثها دهاء.. هي أصغر كل ما سيلقاك من السبع، لكن ما أشدها بأسًا عليك!" تلقفتَ البندقية من أبيك وصرت صيادًا بحق الكلمة، ومع ذلك فلم يخطر لك مرة أن تصوبها نحو أي من كائنات الجبل الصغيرة، حتي الثعالب.. انظر، كم أوقعت من ذئاب، دون أن يطرف لك جفن، كم استعر شغفك بأكثر الوحوش ضراوة، كالفهود والوشق والدببة، وصرت مقصد تجار الفراء في أقصي البلاد، جاءوك من الهند ونيبال، خاضوا وعثاء السفر والطريق بحثًا عن "تشونبو" شيطان الصيادين، ساكن القفر والصحاري البعيدة. قطعة واحدة من فراء الدببة تعني بالنسبة لك ثلاثمائة طلقة من الرصاص في خزانة بندقية صيد، مثلما تعني حوصلة الصفراء في أحشاء السباع مقدار زوجين من الأساور العاجية، هذا، فوق ما تحصل عليه من خزانة رصاص كاملة عندما تسلمهم أربعة مخالب، لا تزيد ولا تنقص مخلبًا واحدًا. حتي الغمد الفضي المحلّي بالزخارف، ذلك الذي يتدلي من حزامك، كنت قد حصلت عليه مقابل الفهد الأرقط الذي قطعت دابره رغم كونه أضخم سبع وقعت عليه عيناك، ساعة أن التقيته وجهًا لوجه وراء الصخرة التي لم يفصلك عنها سوي خطوات.. هجم عليك رأسًا فصمدت له مصوبًا في صميم ما بين ذراعيه المنفردتين، كاتمًا أنفاسك لحظة الضغط علي زر الإطلاق.. مات وهو منطلق تجاهك.. مات وجسده مازال مندفعًا إليك، فانغرست مخالبه في جبينك، وصرت تحمل ميسم الجرأة أينما وليت وجهك، والتاجر الذي وعدك بأعلي سعر بين التجار كافة مازال ينتظرك بفارغ الصبر في القرية. تأملت مقبض الخنجر المدلّي في غمده من خاصرتك. أعجبك، وكنت تقول في نفسك.. موافق علي كل شروطك موافق، حتي لو طلبت رأسَي فهدين آخرين، لا مانع عندي! فأنت لا تدرك أن هذا التاجر بالذات يستطيع أن يبادل ثلاثة خناجر في أغمادها الفضية بعظام فهد واحد، دعك من فرائه وجلده وأحشائه خصوصًا إذا كان الفهد في حجم نمر كبير الجرم! لستُ بحاجة أن أحكي قصصك في اصطياد الدببة، فهناك حكاءون أقدر مني في رواية فصول مطولة من سيرتك في هذا الموضوع، عندك مثلا الأمريكي فوكنر والروائية السويدية "سيلما لاغروف"، وهناك فيما أذكر ذلك الفيلم الياباني الشهير الذي كان يحكي قصة كهل اشتهر بصيد الدببة فأين لك بحكائين يروون تلك الأحداث التي لم تزل تعلق بذاكرة أهل القرية، يوم أن محقت رأس وحوش الجبل بعد أن امتلأت منه رؤوس التلال والسهول فزعًا، علي مدي مسافات تتجاوز الأميال، في واحدة من أبهي مآثرك الجليلة علي الأيام، فزت يومها من الغنيمة بجلد الفريسة حيث طرحته فتغطي منه جدار بيتك طولا وعرضًا، ومن ذا يملك أن ينسي يوم أن استأجرت اثنين من أقوي القصابين لتقطيع أوصال الدب، فما استطاعا إلا بشق الأنفس أن ينصفاه في كتلتين كبيرتين! من ذا يجسر أن ينسي رحلتك التي ذهبت فيها للقنص، فظللت في البراري عشرين يومًا، بين مطاردات متصلة إلي أن فزت آخر المطاف بمأربك؟ ما أبعد الشقة بينك وبين أبيك! قد عرفناه طوال عمره مطاردًا للوشق البري، أما أنت فسيرتك كلها مرتبطة بالدببة، صحيح أنك لم ترث عن أبيك قوامه الفارع وبدنه المتين، لكنك تهوي تلك الضواري، وتعرف تمام المعرفة أنها ليست غبية بأي حال، وأن ضخامتها لا تعني علي الإطلاق قلة حظها من الذكاء والحيلة والمهارة، كذا قلت لمن هرعوا إليك يومذاك.. قلت إنه علي الأرجح الدبّ الأسود، وبهذا أقنعت من جاءوا يطلبون منك نجدتهم. بهذا أقنعت الرعاة الذين لجأوا إليك طلبًا لمشورتك كصياد خبير. "كان الدب طويلا جدًا، بهذا القدر،" كان القائل يشير بيده، يطوح بها عاليًا بكل ما في طاقته، حرصًا علي ألا تضيع أية تفاصيل خاصة بطول قامة الوحش، ورغم أمانته المفرطة في الوصف فقد قلت في نفسك إن الخوف كاد يقتله. "نحيف الجسم لكن قامته طويلة، وقوته خارقة، انظر.. كانت مخالبه بهذا القدر،" تحت وقع الخوف كان يتكلم، ومثلك لا تغيب عن فطنته أشكال الدببة وأحجام مخالبها. "لم يدلني عليه إلا فزع الثيران واضطرابها، فوقع في قلبي الرعب، تناولت البندقية وأخذت أتلفت حولي، ثم نظرت أمامي فإذا هو قبالتي، بقفزة واحدة صار بمواجتهي مباشرة، ولم أكد أرفع بندقيتي حتي أطاح بها بعيدًا.. لا تقل إني كنت أحلم، أبدًا، فقد حدث ما أرويه لك الآن، رأيته بعيني هاتين رأيت مخلبيه بكل وضوح، المخلب الواحد قدر اصبعين في كفي بل وأكبر، انظر.. هكذا بهذا الحجم." أشار بيديه موضحًا مبلغ ضخامة المخلب الواحد في كف الدب، وقد ركبه الذعر فعلا علي ما بدا من ملامحه في تلك الساعة. "قفز بسرعة عجيبة، في أقل من طرفة عين أصبح أمامي، قبل أن التقط أنفاسي وأرفع البندقية مصوّبًا تجاهه." رغم خوفه البادي فقد كره أن يبدو أمام رفاقه من الرعاة جبانًا قليل الحيلة، لكنك من بين الجميع، كنت الوحيد الذي يعرف تمامًا كيف تقفز الدببة علي هذا النحو من السرعة البالغة، سواء أكانت هي الباغية أم الطريدة. "لم أعهد في حياتي دبًا بهذه القوة، حتي لقد أطاح ببندقيتي وكسر مقبضها كأنه يقصف فرعًا ذابلا من شجرة، وانثنت الماسورة فما عادت تصلح لشيء." لم تفكر في أن تطلب منه إحضار البندقية لتري ما أصابها، وكيف وقع بها التلف؛ لأنك كنت تعرف جيدًا أنه لا يملك واحدة منها وتعرف حجته من أن الدب أطاح بها بعيدًا جدًا بحيث لم يعد بإمكانه العثور عليها، كنت تعرف في قرارة نفسك أن هذا ما سيجيبك به، ومع ذلك، فقد استدار ودلف إلي الخيمة القريبة وجاءك ببندقية صيد ملتوية الماسورة، ساعتها استولت عليك الدهشة، إذ لم يكن يخطر شيء من هذا في بالك؛ ولأنك صياد مجرّب فقد كان عليك تفسير سلوك الدببة في مثل هذه المواقف، وبالفعل، فقد هداك تفكيرك إلي إن الوحوش لا تطيق كل آلات ضرب النار، خصوصًا الدببة، ولذلك فقد كان طبيعيًا أن تسارع إلي تحطيم البندقية.. هو تفسير بدا لك معقولا، لكنك لم تقله في حينها، لئلا توقع بالراعي المسكين في مزيد من الحرج أمام الناس؛ ليس لأنهم أكثر منه شجاعة بمواجهة الدببة فمثل هذه الشجاعة مزعومة، وإنما لأنك قنعت بأن تمرر له اختلاق مزاعم خيالية في موقف يريق ماء وجهه علي رؤوس الملأ، ثم إنك تدرك طبع السباع وما تلقيه في النفوس من روع، فلكل هذا التمست له العذر.. من صميم قلبك. قال إن الدب، للغرابة، لم يمسسه بأذي! "لم يكترث لي، واستدار فهجم علي قطيع الثيران، وانتقي أضخم رأس فيها وسحبه من قرونه، رغم استماتة الثور في التخلص من براثنه، وخواره المتصل ومحاولته المروق منه بكل وسيلة، لدرجة أني توقعت أن ينطحه في بطنه أملا في الخلاص، كل هذا وأنا في غاية الفزع، ثم رأيته يلتوي بجسده والثور يدور معه، ويحاول التملص منه فهنالك حمي غضب السبع وأخذ علي قرنيه، كل قرن بيد، وباعد ما بين ساعديه فانشق رأس العجل قطعتين ممزقتين اختلطت فيهما الدماء بزبد المخ ودهنه المهراق، ومن شِق الرأس تدلت عين ثور في حجم قبضة الكف، ولا تسل عما انغرس بقلبي من الروع ساعة أن وقعت عيني علي هذا المنظر، فانتحيت جانبًا أراقب المشهد علي مسافة." لم تقف علي سبب اختلاقه الحكايات لكنك تعرف أنه يميل إلي الثرثرة، تلك خصلته المتأصلة فيه وإن كان مظهره يدل علي أنه طيب القلب كثيرًا. والرعاة نادرًا ما يقبلون علي هذر القول والثرثرة. "الثور ضخم.. وزنه يبلغ نحو الثلاثمائة كيلوغرام.. نعم، بهذا القدر أو ربما أكثر، ومع ذلك فقد رفعه الدب وحمله علي كتفه ومضي، ورأس الثور المشقوق نصفين مدلّي وراء ظهره، والدم يسيل منه مختلطًا بدهن المخ المتساقط.. " "بعد أسبوعين بالتمام، كنت عند منحدر التل ولاحت مني نظرة إلي شيء ملقي بين الصخور، فإذا هو الرأس المنقسم، لم يدلني عليه سوي القرنين البارزين فيما بقي من الجيفة." لم يأتك مستنجدًا، وحكايته التي رواها توًا، كانت قد وقعت منذ شهرين. كان يحكي كشاهد عيان عن الدب وقامته المديدة مع نحافة جسده وضخامة مخالبه التي تشبه الأصابع.. جاءك وقال إنه لم يكن يمشي علي أربع ككل سبع ضار، ولم يتسلق سورًا ولا جدران، بل معتدل الهيئة يمضي علي قدمين، وإذا جري رمح رمحًا فلا تلحق به الأبصار. قال إنه ليس الشاهد الوحيد علي هذا، فهناك العشرات غيره، وبالفعل فلم يمض شهران اثنان حتي التقي بأربعة آخرين شهدوا الواقعة بكل الأوصاف السالف ذكرها. "تمامًا كما ذكر لك.. رأيت الدب يعدو بأسرع من لمح البصر، في غمضة عين وجدته قبالتي، لا أدري من أي ناحية أقبل عليّ، وقبل أن أبتلع ريقي من هول المفاجأة اختطف عصاي من يدي، العصا التي أسوق بها القطعان، كسرها نصفين وعاد من حيث جاء بنفس السرعة الخاطفة التي أقبل علي بها.. بنفس القامة المعتدلة، اختفي في لحظة مثلما جاء." "منطقتنا هذه كانت مسكونة بالسباع فيما مضي، لكنا لم نر فيها دبًا مديد القامة مهزول الجسم، بمخالب طويلة علي شاكلة الأصابع الآدمية.. أنا، لما سمعت الشبان يرددون هذا الكلام استغربت وقلت لنفسي إنهم يهرفون، كالعادة، فكم رأيت من الدببة في حياتي، ولولا أني أعرف شكلها جيدًا لصدقت الأقاويل، وفي تلك الليلة تحديدًا انتبهت إلي نباح الكلاب المفاجئ، وبضراوة غير عادية، كأنها احتشدت معًا في جماعة كبيرة واحدة متراصة بمواجهة غريب قادم في منتصف الليالي، وأحسست أن في الأمر شيئًا ما، خرجت أستطلع الحال وفي قلبي جرأة سنوات عمري التي تخطت السبعين، وأنا أعرف تمام المعرفة أن المنطقة مسكونة بالدببة من قديم، ساعتها كانت الليلة مقمرة فرأيت السبع لدي سياج الغنم، في الضوء الغامر رأيته يمد يده التي بدت بها الأصابع الضخمة الطويلة، ولم أكن قد رأيت من قبل دبًا ذا كف تبرز منها الأصابع الضخمة بهذا الشكل، أما هو فلما لمحني خارجًا انتقي شاة فحملها ومضي، متمهلا وبهدوء تام، علي عكس ما أشيع عن ركضه السريع واختفائه في لمح البصر. كان نحيفًا مهزولا، حقًا، كأنه جائع حد الموت." 4 والآن، فقد حان الوقت أن نتكلم في حكاية أخري، حكاية عن "لوقاو" و"ياوليان". ولا بد في البداية من توضيح نقطة مهمة، وهي أنه ليس من المؤكد حقًا أن تكون هذه الشخصية حقيقية، ولا من الضروري أن يكون صاحبها قد ظل علي مدي كل تلك السنوات بصحبة "لوقاو"، ولو أنه لم يكن هناك ما يمنع "ياوليان" من الذهاب للعمل بإقليم التبت. بالضبط هكذا، يمكن الافتراض بأنه جاء إلي التبت.. كمواطن من قلب الصين أراد العمل تطوعيًا لمساندة هذا الإقليم، فجاء من بلدته البعيدة إلي هنا، لفترة خدمة تمتد من ثلاث إلي خمس سنوات. لنتفق علي هذا بشكل نهائي! وقد عرف القارئ أن "لوقاو" تم تكليفه بأعمال السكرتارية في إحدي اللجان المحلية بإقليم التبت، ومقر اللجنة يقع لصق المكتب الخاص بلجنة الخطة الاقتصادية، وقد اقتضته ظروف العمل المرور علي هذا المكتب المجاور لدواعي تتعلق باستيفاء بعض الأوراق، وهناك التقي بفتاة علي درجة كبيرة من الجمال، وهي من أهالي التبت علي حد ما سمع، وساعة أن التقاها بمحض المصادفة فقد عرف أنها تعمل في أحد أقسام هذا المبني الحكومي الكبير، الذي يضم عدة قطاعات مختلفة، منها طبعا قطاع لجنة التخطيط، أما القطاع الذي تتبعه هذه البنت التبتية فلم يكن يعرف عنه شيئًا ولم يحاول حتي من باب الفضول أن يسأل ويستقصي؛ ربما بسبب خجله أو تهيبه وهذا مجرد تخمين من جانبي، علي اعتبار أنه ليس من اللائق ولا المفهوم أن يأتي شاب حديث عهد بالعمل إلي المكاتب المجاورة فيظل يلف ويدور مستفسرًا عما يعد تفاصيل شخصية تتعلق بموظفة جميلة. "لوقاو" شاب في الثلاثين من عمره، هيئته مبعثرة طوال الوقت، خصوصًا لحيته بمنظرها المشعث وشعراتها المتفرقة الشوهاء، مع أنه لو بذل أقل جهد في ضبط مظهره وتهذيب شعثه لبدا أجمل شاب في الدنيا؛ فهو طويل القامة، طوله يبلغ المتر والثمانين سنتيمترًا، وسوي ذلك فلست أجد داعيًا للتمعن في تفاصيل ملامحه، ثم إن الظنون قد تذهب بالقارئ إلي حد التصور بأني مقدم علي سرد قصة حب (السبب واضح؛ فثمة حسناء مليحة القد وفتي جميل المحيا، كما تري!) وبناء علي ذلك، فقد وجب أن أعلن هنا بكل وضوح أن: هذه ليست قصة حب، بأي حال! اعتاد ياوليان أن يأتي لزيارة لوقاو في محل عمله، ولمحها ذات مرة، فانتبه إليها هو الآخر. "عجبًا لهذه الفتاة! عجبًا لبشرتها شديدة البيضاء إلي هذه الدرجة! هل تعمل معكم هنا في اللجنة المحلية؟ هذه أول مرة أري فيها فتاة بيضاء من أهل التبت، فالناس هنا يميل لونهم إلي السمرة غالبًا، انظر إلي أقراطها المدلاة من شحمتي أذنيها، هما قرطان من اليشب الأصلي.. كانت جدتي تقول إن القُرط المصنوع من اليشب الجيد أثمن من الذهب، وسمعتها تقول أيضًا.. " إلي آخر الكلام الوارد علي ذهنه من قول الجدة. قُل إنه الحظ الذي يأتي بدون موعد، وحدث أنه جاء بغير مواعيد عندما تقرر عرض فيلم سينمائي في قاعة لجنة التخطيط، واتصل مدير اللجنة المحلية عدة مرات بزميله في المبني المجاور، ليطلب منه عدة تذاكر لمشاهدة الفيلم، دون مجيب، فأرسل لوقاو في هذه المهمة، وبالصدفة البحتة كانت البنت في المكتب وقتها. "سيادة المدير خرج توًا، هل من خدمة؟" "طيب.. أنا كنت قادمًا له من لجنة المحليات.. اللجنة المجاورة لكم بالضبط.." "نعم، أنت الموظف الجديد، لا بد أنهم أرسلوك لأجل التذاكر.. اجلس قليلا." "هه؟ لا.. شكرًا، ألا أستطيع مقابلة المدير هنا.. " "من أين جئت؟ أقصد من أي بلد؟ يقولون إنك من إقليم شدونغبيص." "أنا من شلياو نينغص. وأنتِ من هنا؟ شحضرتِكص من أهل التبت؟" ضحكتها كانت رائقة وفاتنة وهي تومئ بالموافقة. "لكنك تتلكمين لهجة الشماليين، مثلنا، بكل طلاقة." "لأني عشت في بكين سبع سنوات، أثناء الدراسة.. تفضل، اجلس قليلا." هنالك وجد لوقاو الوقت المناسب ليتأمل أهدابها الطويلة المسحوبة في نعومة ساحرة وأنفها الصغير وبشرتها المشربة بحمرة خفيفة شابها ملمس رهيف من مسحوق البشرة، وقد التم شعرها فوق الرأس كباقة صغيرة معقودة بدبوس فضي لامع في ضِمامة الخُصل، بطريقة تبرز الأذن الصغيرة المنتهية شحمتها بقرطٍ من اليشب الأخضر. جميلة هي بحق، فمها صغير بشفتين رقيقتين، والعنق مستطيل في نحافة متسقة مع قوامها السّمهري.. نحيفة برشاقة كانت، خاصة عندما كانت ترتدي الدثار الأرجواني الفاتح والبنطال (الجينز) الضيق فتتبدّي ملامح قدّها الممشوق. كلامها قليل لكنه كالإيقاع نظيم، جزل المساق، له حلاوة ووقع لطيف في الأسماع، سمعها وتلخبط كيانه، ثم إنه نظر في عينيها وأحس أن في غور أحداقها دفائن كلمات، وأحس أيضا أن أحواله هذه الأيام ليست علي طبيعتها، وأنه لم يكن يشعر فيما مضي بكل هذا القلق. وكان أنه أخذ منها التذاكر فاستأذن وخرج. أحيانًا نقول إن فلانًا جميل.. جميل حقًا، وأحيانًا أخري نقول إن فلانًا هذا أجمل من ذلك الآخر (طبعًا بافتراض أن الآخر، هنا، محل تقدير باعتباره جميلا أيضًا!) لكن مثل هذا القول يمكن أن يوقع الناس في الجدل الذي بلا نهاية؛ لأن لكل امرئ معياره في الجمال والذوق، فاذهب واسأل الناس رأيهم في كل من: "تشانغ يو" و"تشن تشونغ" و"ليو شياو تشينغ" أيهن الأجمل؟ وستتضارب الآراء، بنفس وتيرة التضارب التي سيطرت علي عقل ومشاعر لوقاو وهو يتأمل ملامح تلك الفتاة التبتية، لكنه لا يحتار في تقييم جمالها وإنما في استيعاب تأثيره المفرط.. فقد كان يراها أجمل الجميع، بما فيهن الثلاثة المذكورات آنفًا مع أن ثلاثتهن مازلن في ريعان العمر، ثم إنها أجمل حتي من ممثلات أخريات يصغرنها كثيرًا، مثل: "تسونغ شان" و"يين تينغرو" واليابانية "ما يومي" التي أبهرت الصينيين بسحر جمالها! قال لنفسه، هن لا شيء بالنسبة لجمالها، بل ربما فاقتهن روعة لو قدّر لها أن تعمل بالتمثيل! من جانبه اعتبر أن التعارف قد أخذ مجراه بينهما، خاصة عندما كاد أن يصطدم بها وهو ماش في طريقه دون أن ينتبه لمرورها أمامه، فوقفت وضحكت بسخاء وافر، واحتار في تفسير الكلمات الغائرة في مقلتيها، تلك الساعة.. (ماذا قالت بنظراتها؟.. "آسفة لم أنتبه جيدًا!"، "أهلا، أهو أنت؟ صباح الخير!") أدرك أن رد فعله كان يجب أن يكون مختلفًا عن انفعاله التلقائي (يقولون عنه الانعكاس الشرطي!) حين أومأ لها ضاحكًا بدوره، ومشي. جاء ياوليان واقترح عليه أن يذهب معه لحضور مراسم جنازة شعبية.. جنازة دفن حسب العادات التبتية.. "طبعًا، من دون مناقشة." لوقاو لم يكن قد رأي هذه المراسم إلا في المجلات المصورة فقط. من خلال تحقيق مصور يقدم جانبًا من عادات أهل التبت في دفن ذويهم بمراسم "تيان زانغ" أي الدفن تحت رحاب السماء، ولها في نفوسهم وقعا مهيبًا، باعتبارها طقسًا مقدسا، من قديم؛ إذ يحمل المتوفّي علي محفة يرفعها أهله، ثم يأتون بجثمانه إلي كاهن مختص بالدفن، فيتناوله ويقطع أوصاله ويشعل فيها النار ويكون ذلك قبيل بزوغ الفجر، وساعة أن تشرق الشمس فوق حافة الجبل تكون الطيور الموكلة بروح الميت قد التقطتها وطارت بها إلي آفاق السماء، حيث تصعد الروح إلي معراج البعث الجليل وذلك لاعتقاد الأهالي في الحياة بعد الموت، دليلا علي قيمة الحياة في نظرهم، وعملية تقطيع جثمان الميت يشترط فيها أن تتم قبل شروق الشمس، وهو عندما رأي تلك الطقوس في تحقيق المجلة لم يلحظ تفاصيل عملية التقطيع هذه؛ لأن الصور لم توضحها بما فيه الكفاية، ولو أنها عرضت لقطات متفرقة لأحشاء المتوفي.. ومثلما يتوعّك طالب الطب أيامًا طويلة بعد التجربة الأولي في تشريح جثة فقد بقي لوقاو مدة يومين، بعد مشاهدة الصور، لا يقرب الطعام ويتقيأ فور تناول أي شيء، لكنه بعد يومين فقط عاد إلي طبيعته، وقال لنفسه إنه مثل كل الناس، من دم ولحم، وإن الموت واحد في آخر المطاف، بل ذهب به الأمر إلي حد التفكير فيما لو أجريت له مثل هذه الطقوس حال وفاته، مع عدم اعتقاده في مسألة صعود الروح إلي السماء، إلخ، لكن الفكرة وقوة حضورها في الخيال مبهرة، ثم إن الطقوس العامرة بهذه الأخيلة راحت تأسره وتوقع به في غوايتها. اتفقا علي استئجار سيارة تنقلهما عبر الطريق الجبلي، حيث تقام الطقوس في منطقة نائية علي مسافة خمسة كيلومترات من إحدي الضواحي المؤدية إلي موقع الدفن، وتكلم لوقاو في هذا الموضوع مع زميله "شياوهي" سائق الوحدة المحلية، وتحمس هو الآخر لأنه لم يكن قد شاهد طقوس دفن تبتية في حياته، واعتبرها فرصة ثمينة قد لا يجود بها الزمان كثيرا. وإذا بالمدير يكلّف لوقاو بالذهاب في مهمة عمل عاجلة في هذا الوقت بالذات، مع أنه كان قد طلب إلي سيادته السماح له بالذهاب إلي العاصمة "لهاسا" في رحلة لمدة يومين اثنين. اتفق مع صاحبه علي الذهاب لحضور الجنازة صباح اليوم التالي بعد عودته من المشوار المهم الذي طرأ في آخر لحظة، ومن لحظة قيامه بالمهمة إلي يوم عودته منها قضي لوقاو أسبوعًا واحدًا ليس غير، بيد أن أمرًا قد وقع أثناء هذه الأيام السبعة، فقد ماتت الفتاة في حادث سيارة! حادث سيارة مثل كل الحوادث التي تقع ليل نهار، عجلة قيادة اختلت في يد السائق السكران، قال له "شياوهي" إن وجهها كان مشوهًا تمامًا ومعالمها يصعب التعرف عليها.. وللعلم، فهي ابنة أحد الوجهاء الكبار في البلد، سليلة عائلة "بالان" حيث الأب، الوجيه الأمثل، شخصية لها وزنها وتاريخها الوطني المشرّف. عاد من منفاه في النرويج مع زوجته في العام السابع والسبعين، في تلك الأثناء كانت هي قد تخرجت توًا في بكين بعد سبع سنوات من الدراسة. قررت لجنة التخطيط أن تقيم حفل تأبين لها في اليوم التالي مباشرة. في المساء جاء ياوليان، فقام من فوره وذهب معه قاصدًا إلي "شياوهي". "هه؟ اتفقنا؟ أننطلق صباح الغد؟" "طبعًا، الاتفاق كما هو." "لكن هذا يقتضي الاستيقاظ مبكرًا جدًا.. وأنت يا شياوهي، جهّز العربة من الآن." "الأفضل، إذن، أن أبيت عندك الليلة بدلا من الذهاب ثم المجيء من باكر، والمشوار بعيد." "تفضل، واعمل حسابك ألا تسهر كثيرًا" "أبدًا، بل سأنام فورًا، فكم أود أن ألقي حالا بجسدي المنهك." "سأضبط لكما المنبِّه علي الرابعة والنصف تمامًا، وآتي لإيقاظكما." هطلت الأمطار، قبل أن يطرق النوم أجفانهما.. سقط المطر، والصيف في التبت فصل أمطار، نهاره وليله سواء، يسقط مدرارًا طوال الليل وفي الصباح يروق الجو تمامًا. "البنت ماتت، أسمعت بالخبر؟" "سمعت." "كانت أجمل من رأيت." "... " "لو كان أي أحد آخر غيرها مات، لما فكرت." "فكرت بماذا؟" "بأنه لم يكن ينبغي لها أن تموت، قد أتوقع الموت لأي إنسان آخر سواها، لم يكن لازمًا أن تموت. عرفت بالخبر في حينه، لم أحاول الذهاب إلي موقع الحادث فقد كرهت أن أراها ميتة." "ألهذه الدرجة؟" "تظن بأني أحببتها؟ أبدًا، هي فعلا كانت جميلة، جمالها كان يباعد المشوار بيني وبين الناس. بيني وبين الجميع كانت المسافة تتسع، لأنها أصبحت شيئًا كالرمز، مثل الورود كانت، مثل النسور، البحار، جبال الجليد، مثل كل تلك الأشياء التي تنطوي علي معني في مهابة الروح. فتاةٌ حلوة تستطيع أكثر من أي شيء آخر أن تملأ سمعك وبصرك بالحياة، تغرس فيك معني الوجود والإحساس بقيمته، قد تقول بأنه كلام تجريدي أو خيالي أكثر من المعقول، لكني كنت أشعر أحيانًا أن فتاة حلوة يمكن أن تدفع في شرايين البقاء نبضًا وحيوية وتجددًا.. " "نم! فلا بد من الاستيقاظ مبكرًا من غد." "نسيت أنك عائد توًا من مهمة مضنية، وأنك متعب." أحس لوقاو لحظة انغلاق عينيه أن ياوليان عاود كلامه. "هل نمت؟ أنا تذكرت أمرًا، حفل التأبين المقام غدًا ربما لن يشتمل علي نظرة توديع أخيرة للفقيدة، ثم إنها من التبت، أي أنه من المتوقع أن نلحق غدًا بطقوس جنازتها.. هل سمعتني؟" لدي عودته في اليوم التالي كان حفل التأبين قد انتهي، ولم يدر لوقاو إلا وهو مدفوع برغبة عارمة في الدخول إلي قاعة الحداد، حيث مُدّ البساط الطويل وصُفّت المقاعد بعناية ولم يكن بالقاعة أحد من الحضور ساعة أن أطل لوقاو من المدخل ورأي صورتها المكبرة بابتسامتها الحلوة، علي الحائط فوق المنصة.. في المنتصف تمامًا، بينما تدلّت لفائف المرثيات وسط باقات الورود. القاعة خشعت تحت جو من المهابة، ولوقاو فاضت مشاعره علي الرغم منه بشجن عميق، وفي سمعه بقايا كلمات ياوليان التي قالها له وهو نعسان ليلة أمس. ثم إنه قام واقفًا واقترب من الصورة المعلقة.. لاحظ أنها مكبرة كثيرًا عن حجمها الطبيعي بنحو أربع وعشرين بوصة، كانت تنظر إليه بعين لامعة بالحياة وغاب عن ذهنه لوهلة أنها ماتت، ورغم تكبير النسب ظلت الصورة جيدة التكوين متسقة التوزيع بين مناطق الضوء والظلال، فتعزز الانطباع بتلقائية الملامح، واستطاع لوقاو أن يستعيد شكلها ولحظة الصدق في كلامها لما قابلها وتحاور معها في المرة الأولي، دقّق في ملامحها ولاحظ العنق المخملي النحيف وخطوط فمها المحددة بنعومة واتساق جانبي أنفها اللذين ظهرا أكبر قليلا من القرطين النازلين من شحمتي أذنيها فلما عرّج علي مقلتيها الغائرتين رآهما محتشدتين بكلمات كثيرة، كعهده بهما عندما كان يطالع وجهها عن قرب، نقل نظراته إلي لوحة التأبين، عرف أنها تدعي "يانجين".. نفس الاسم الذي تحمله مئات الألوف من فتيات التبت. هدّه التعب، فكّر في العودة للاستحمام وغسل قدميه وتغيير ملابسه، قال إن أحسن شيء يفعله الآن هو أن يلقي بنفسه علي السرير ويدخل تحت البطانية، بعد غسل رجليه بالماء الدافئ. في تاريخ الأيام كان اليوم الأحد.. يوم العطلة الرسمية. 5 قلت لك توًا إني لا أفكر في العودة إلي بلدتي، ليس لأني أريد الانتهاء من النص المسرحي الذي حدثتك عنه (فسأنتهي منه آجلا أم عاجلا) وإنما لأن هناك أسباب أخري كثيرة، وعمومًا فقد فرحت بقدومكم إليّ اليوم، وبهذه المناسبة أريد أن أحكي لكم شيئًا لم أقله من قبل عن أمر يخصني أنا شخصيًا، قصة تتعلق بي.. ولا يذهب تفكيركم إلي أنها قصة حب فليس عندي قصة حب تستحق أن تُحكي. كم أحببت وأنا طفل الإنصات إلي الحكايات الخرافية، وكل الأطفال تقريبًا علي نفس الشاكلة، لكني لما كبرت تبدل الأمر، واعتبرت أنها فترة وانتهت من حياة الطفولة التي يجتهد الجميع في حشو آذانها بكل ما يمكن اختراعه من الحكايا. أقصد محاولة الكبار في ترضية النزق الطفولي بما قد أودعوه جعبة الأقاصيص، ثم جاء عليّ وقت شغلت فيه بمطالعة الكتب والمقالات النقدية وعرفت من بعضها أن الحكايات الخرافية هذه، أو الأساطير الشعبية، تندرج في باب الأدب الشعبي وأن هناك آراء بحثية تري أنها جزء من عملية إبداع تلقائي تراكم بفعل التجربة التاريخية الطويلة للشعب العامل، جاءت نتاجًا جانبيًا لمجهوده الجبار في عملية الإنتاج، بحيث صارت هذه الحكايات تعبيرًا عن تطلعاته إلي فهم تجربة الحياة وتلخيص أحكامه القيمية عليها، وتأصيل رؤاه فيما يتعلق بالخير والشر عبر المعايير الأخلاقية، التي تبلورت في أحكام المدح أو الذم.. الانتصار للخير ضد الشر. لكن الأسطورة وبالنسبة لمن يعيشون مثلنا الآن في عصر العلم، أصبحت شيئًا من الماضي البعيد. التِّبِتْ بهرت عيون كل القادمين إليها، سواء من مواطنينا الصينيين المنتقلين إليها من مناطق بعيدة، أو السائحين الوافدين من الخارج، بكل ما فيها من أعاجيب كانت تبدو كشيء خرافي لا يمكن أن تراه إلا في الأساطير: بمناظر المتعبدين الخاشعين في الطرقات أو الساجدين في جنبات الطريق، بقراء النصوص الدينية وتلاوتهم لها وسط حشود الناس.. بالمتصدقين علي المعابد بالمال والطعام، بمنظر شارع "بارخور" ومعبد "جوخانغ" المتقاطع مع المركز التجاري والبضائع والباعة والأسواق.. بالنجارين والصناع المهرة الممسكين بأزاميلهم ينحتون الأشكال والرسوم علي الخشب عند منحدر جبل "بوتالا"، بتماثيل الآلهة الملونة المنحوتة في قمم التلال الصخرية.. بالرؤوس الحليقة لشيوخ اللاما البوذيين، بثيران ال "ياك" الممهدة ظهورها للامتطاء المريح الآمن رغم قرونها الطويلة المعوجة! التبت المليئة أركانها بالرايات الملونة المتطوحة في الهواء وقد نسخت فوقها النصوص المقدسة، بكل احتفالاتها وتقاليدها وأعيادها الغريبة: "عيد الاستحمام"، "عيد سباق الخيل"، إلي آخر كل تلك الأشياء التي ليس لها آخر! في الساحات يتحلق السائحون لالتقاط المناظر بوجوههم المبتسمة والعابسة والوقورة والتي لوحتها الشمس (لعلكم لا تختلفون عنهم في كثير أو قليل) والشيء المهم هنا هو أن كل هذا ليس غريبًا أو مبهرًا بالنسبة لمنطقة التبت نفسها، فقد عاش الناس حياتهم فيها منذ آلاف السنين دون شعور بأن ما يدور حولهم يقع ضمن الأعاجيب. الأجانب فقط يرونها عجيبة لأن ما يرونه فيها يختلف تماما عن المألوف في حياتهم.. مايرونه فيها يعتبر استعادة للأسطورة البعيدة، ابتعاث للحكاية الخرافية التي رويت علي أسماعهم في الطفولة، يتطلعون إلي الأشياء في فضول ودهشة، لا يبدو عليهم أنهم استوعبوا وجه الاختلاف بسهولة، لكنهم يفرحون وتغمرهم السعادة، كأنهم بإزاء قلعة قديمة أنشئت علي غرار قلاع القرون الوسطي داخل "ديزني لاند" لكن ليس في مقدور أي أحد أن يطالع تذكار الحكايا بعينين مفتوحتين. قالوا إن الحكومة قررت إنشاء مدينة علي الطراز الصيني القديم في مدينة "شيآن" (يقال لها مدينة "طانغ"، نسبة إلي أسرة الطانغ 618 907 م وكان زمن نهضة وعمران، في أوانه) بحيث تمتلئ شوارعها بالحانات والمقاهي التي يقوم بالخدمة فيها شبان يرتدون الزي التقليدي في عصر طانغ، وكل المباني والمحلات تقام علي نفس الطراز، لا يشذ أحدها عن النمط، علي اعتبار أنها فكرة ترمي إلي تأسيس منطقة سياحية مشجعة علي اجتذاب الزوار ودفع حركة السياحة، مع ملاحظة أن المناطق المتاخمة ل شيآن تحتل مكانها المتميز في صدارة المواقع السياحية علي مستوي البلد ككل، ما يعني أن إقامة مثل هذه المدينة ال "طانغية" سيصب في مصلحة الدخل القومي، خصوصًا بالنقد الأجنبي، وبأرقام فلكية. ثم إن مواطنينا ممن سيرتدون ملابس علي طراز طانغ ويتجولون في مدينة تأسّس معمارها علي نفس النمط، هم في واقع الأمر أبناء عصر حديث، مثلك ومثلي تمامًا، لكن الأمر هنا ومع أهالي التبت يختلف كليًا وجزئيًا، وأنا في هذه المسألة أستطيع أن أحكم حكمًا صادقًا فقد عشت هنا زمنًا طويلا جدًا، وصحيح أني بالأساس لست من مواطني التبت، لكني أتحدث لهجتهم وآكل من طعامهم وأشرب مثلهم الشاي بال سويو، أي بالزبد وأمد يدي إلي الأطباق بقطع من الخبز المصنوع من ال"تسانبا" وأحتسي خمر ال"تشينكي" وتلفحني الشمس فتشيع السمرة في بشرتي مثل الجميع هنا، لكني برغم كل شيء غريب عن البلد وساكنيه، ولا يعني هذا أني أحمل للناس هنا ضغينة، بالعكس تمامًا، فأنا أحبهم كما يحب المرء إخوانه الذي يعيشون معه في بيت واحد، وأنوي أن أبقي وسطهم مدي عمري كله، لا يفرقني عنهم ولا عن هذه البقعة من الأرض إلا الموت، أقسم علي هذا! فكم ذهبت مع أصدقاء لي هنا إلي المعابد وأقمت طقوس الصلاة، كم من مرة قدمت أضحيات في الهياكل المقدسة، ولئن كنت حتي الآن لم أنبطح ساجدًا في ساحات المعابد، فلن أتأخر عن السجود مع الجميع لو تطلب الأمر هذا، فما الذي يدعو إلي القول بأني غريب حتي اللحظة؟ ربمان لأني لم أستوعب تفاصيل وأسباب كثير من الظواهر التي أجدها حولي، في مختلف مناحي الحياة، مازلت أجد صعوبة في فهم كثير من الأشياء هنا، حتي لو كنت أنظر إليها باعتبارها مجرد "شكل" خارجي أو مظهر للحياة يمكن التعامل معه علي نحو أو آخر، وطبعًا فلا بد أن أقول لك إني أحترم هذه المظاهر والعادات الاجتماعية الخاصة بهم. وعلي هذا فأنا أحاول دائمًا تفسير ما يبدو غامضًا أو غريبًا، بطريقتي الخاصة، مستخدمًا ذلك المنطق اللعين الذي علمونا إياه بحيث يتم "استنباط النتائج" وتكوين الافتراضات، فهذا أقصي ما يمكن أن نفعله في سبيل الاقتراب منهم أو اقتحام تلك الحواجز الفاصلة بيننا وبينهم أقصد بيننا وبين الناس هنا لكن طبعًا مع الأخذ في الاعتبار أننا نعتبر أنفسنا الأكثر تحضرًا وذكاء، مقابل نظرتنا إليهم علي أنهم متخلفون أغبياء يحتاجون لمن يأخذ بأيديهم وينتشلهم من الأحوال المتردية. تستطيعون حضراتكم الذهاب إلي شارع "بارخور" قبيل الغروب، تقتحمون زحام الرائحين والغادين وتشقون صفوف المنشدين وقارئي النصوص الدينية، تتلفّتون يمينًا ويسارًا ثم تتجهون إلي قلب المدينة وأنتم ترتدون المعاطف التبتية المحلية.. الزي الشعبي للأهالي هنا، ومنكم من قد يفضل ارتداء ال"كاساني" (الكساء!) أي جبة الرهبان البوذيين، وتمشون مثلهم، بخطي وئيدة كأنكم تسيرون وحدكم وسط خلاء مديد، ملء أفئدتكم صبر وإيمان عميق تتهادي خطاكم علي طريق صاعد قدمًا، في جماعات شتي يمشي الواحد منكم فارغ البال، كمن أكل فشبع ولم يجد ما يفعله سوي أن يهيم علي وجهه في الطرقات حتي يقع في خاطره أنه فقد اتجاه المسير، يتلفت حوله ويقول إنه لم يبلغ الموضع المقصود، فليس هذا هو المكان الذي يريد. تلك أشياء عاينتها بنفسي ووقعت لي في وقائع الأيام هنا. أقام الأمريكيون محميات للهنود الحمر، فكانت أشبه بمتحف حي للتاريخ الثقافي، وهنا عند الهضبة التبتية التي هي سقف العالم، ثمة مشهد آخر لمتحف تاريخ ثقافي، ذلك أن مليونًا وثمانمائة ألف من أهلنا هنا مازالوا وقد أقبلوا علي الاشتراكية وعلي زمن الحضارة العلمية يعيشون في حدود عالمهم الروحاني، بنفس عاداتهم المحلية وطرائقهم الخاصة بهم، يستخدمون المياه النقية في بيوتهم (داخل المدينة) وينتعلون أحذية جلدية ويقودون السيارات، يسكرون من خمر "سيتشوان" ويرقصون علي إيقاع موسيقي إلكترونية، ويتابعون عبر شاشة التلفزيون أحداث الصين والعالم، ساعة بساعة. كل هذا يدعوني إلي القول بأن احترام العادات (المظاهر، مرة أخري) لا يكفي، أقول هذا وأنا أحبهم وأحترمهم أيضا، لكن لا بد من الفهم العميق لطبائعهم وأحوالهم؛ ولهذا فقد حاولت أن أطل علي عالمهم الفريد. أتعرفون أنه فضلا عن القول بأنهم يعيشون زمن الخرافات فإن تفاصيل حياتهم اليومية تعد جزءًا لا يتجزأ من عادات ومفاهيم أسطورية خالصة؟ فالأسطورة بالنسبة لهم ليست حلية أو مجرد مظهر تكميلي وإنما هي الحياة نفسها، هي أساس وعلة وجودهم وهذا هو ما يمنحهم خصوصية الانتماء؛ لذلك يصبحون "شعب التبت" وليس أي شعب آخر. أين أمريكا؟ ما الفرق بين شعبها وبين قوميات العالم الأخري، باستثناء فارق الظروف المادية والبيئة الطبيعية؟ لا فرق بالطبع! (أرجو المعذرة علي كل هذه السفسطة التي ملأت بها هذه الفقرة.. وتلك ملحوظة المؤلف، بقلمه!) (ملحوظة أخري للمؤلف: أعترف أنه لمن السخف أن يسعي الكاتب إلي تضمين نصه الروائي فقرات مطولة من حسراته، لكن وبما أن قدميه وقعتا في الزلل وانغرستا إلي القاع فسنكتفي بهذا الحد، مع وعد بعدم التكرار.) جاء الربيع وقررتُ الذهاب في رحلة إلي جبل "أليشان" لمدة شهر، سافرت مع فريق من الجيولوجيين في سيارتهم حتي بلغنا منطقة غير مأهولة في أقصي غرب التبت، ولحسن الحظ، اكتشفت أننا نزلنا قريبًا من امتدادات سلسلة جبال "كانديس"، ومثلما اعتدت في الرحلات الخلوية فقد أسرعت مع باقي أعضاء الفريق إلي نصب الخيام، ثم قررت أن أذهب بمفردي في تجوال حر دون التقيد بخطتهم في العمل، وحملت علي ظهري أدواتي: عدة للنوم وبوصلة ومكبر وبندقية صغيرة. التضاريس الجبلية هنا في منتهي الوعورة فالأرض ممتدة عبر خلاء تكسوه الحشائش الجافة إلي أن تلتحم بسلسلة الجبل البعيد، والمدي صحراء شاسعة الأطراف تتخللها مستنقعات جافة. في اليوم الأول لم أصادف كائنا حيًا ولا عثرت علي أثر لإنسان، قلت لنفسي لو مرّ اليوم التالي بنفس النتيجة فسأرجع من حيث جئت خاصة أن رصيدنا من المؤنة لا يتجاوز استهلاك أربعة أيام، ثم جاء اليوم الثاني كالأول تمامًا بلا أثر لشيء من الأحياء لكني عثرت من حسن حظي علي بحيرة صغيرة، حيث لم تبدد السماء كل رجائي، وأقبلت علي الماء أنهل شيئًا منه فإذا هو سائغ للشراب، وكان المشي قد أنهك قواي والنهار مال للمغيب، فالتجأت إلي كهف صخري لدي سفح كثيف العشب، وقررت أن أمضي الليلة كيفما اتفق دون أن أوقد نارًا، لم يكن حولي سوي حشائش قليلة متفرقة وهو ما كان يعني أن أبقي طوال الليل ساهرًا كي أبقي جذوة اللهب مشتعلة بما تناثر هنا وهناك، ثم لم أجد لهذا داعيًا، خاصة وأنا أحمل معي عدة للنوم من أصلح ما يكون للمبيت، فقد كانت غنيمة حرب حصل عليها صديق لي كان مشاركًا في معارك المقاومة ضد التدخل الأمريكي في كوريا، وأهداني إياها لمثل هذا الظرف، وهي عبارة عن أنبوب طويل مبطن بالحبوب الجافة، يدلف المرء بداخله ثم يغلقه بزمام منزلق. طلع النهار دافئًا بشمسه الساطعة، فلما جاء الليل تراجعت الحرارة بشدة لتصل إلي ما دون العشرين تحت الصفر، فدخلت أنبوب النوم وأغلقت فتحاته بالزمام المحكم، بعد إغفاءة انتبهت إلي شيء ثقيل يضغط علي الأنبوب من الخارج، فتحت الفوهة أستطلع الأمر فإذا ركام من الجليد يسقط علي وجهي، إذن، فقد سقط الجليد أثناء تلك اللحظات وتكاثف فوقي، لما أخرجت رأسي من الأنبوب وتطلعت حولي، هالني ما رأيت.. الأرض مغطاة ببساطٍ ثلجي حتي آخر المدي، الأشياء ظاهرة بوضوح رغم ظلمة الليل فقد صفا الجو بعد انقطاع الثلوج وراقت المناظر إلي حد الأفق البعيد، وثمة مايشبه البخار الأبيض يتصاعد فوق سطح البحيرة القريبة كأنه أثر غليان فائر يتدافع في الأجواء التي غامت سماؤها وراء الليل، وغاب قمرها، وبدت نجومها دانية كعناقيد ملتمة وكثيفة، والبخار الأبيض يرتقي في معراجه أفق النجمات، يتلوي صاعدًا كأنه أحد تلك الأعمدة الدخانية التي تعمر بها الأساطير.. منظرها يجل عن الوصف، مرآها لا يخطر علي بال حتي كنت أنظر مشدوهًا لا أصدق ما أراه بعيني.. لا أصدق أن معراجًا من سديم أسطوري يطوي ما بين السماوات فيعانق النجم وراء أستار اللازورد، يعقد من سابحات تترقرق بجفن الليالي عقدًا نظيمًا، كل نجمة في مدارها معقودة بمسري طيفٍ من دُخَان. أقسم لك بما بقي من شعرات ضئيلة شاخت في رأسي.. بمشيبٍ يجلل عمري، أقسم بأني رأيت الدُخَان يطلع من رأس البحيرة سالكًا دربًا صاعدًا إلي قلب السماء، وأني بقيت مكاني أتطلع إليه مشدوهًا ساعة من الزمان كأني طفل ساذج مأخوذ بروعة المشاهد، كطفل بقيت مكاني خائفًا من أن أتقدم خطوة إلي حافة البحيرة، خشية أن يكون ما أراه مجرد سراب خادع.. يشتطّ به النأي كلما رمت اقترابًا، وتبدده الخطي كلما دنوت، تطوّح به في خلاء لا يُدرَك مُنتهاه. رجعتُ إلي عدة النوم فحشرت جسمي داخلها وأطللت برأسي متأملاً ألق النجمات، وغمرني النوم علي هذا الحال، فانحدرت إلي سبات عميق بغير أحلام، إلي أن صحوت علي صياح الإوز البري، وعزمت حينئذٍ علي مواصلة الرحلة إلي منتهاها، فقمت واقفًا، اصطدت إوزتين. سرب آخر من الإوز كان يسبح عند حافة البحيرة التي يمور قلبها بثبج دافئ، يتقلب فوقه بخار أبيض يتلوّي صاعدًا في أجواز الفضاء. جعلت أرقبه وأدهش لما اعتراني من أحاسيس ساذجة ليلة أمس فقد تكشّف لي أن البخر ناتج عما فاضت به البحيرة من مياه جوفية دافئة، وهي تكثر بتلك المناطق من كتلة الهضبة، الممتدة بين "تشينهاي" و"التبت" علي مدي مساحات شاسعة، ولو أنها منحتني، وسط هدأة الليل، شعورًا بأني مقيم بالجنة.. وقد صفا الجو وهدأ النسيم، أما وقد طلع الصبح فقد أشاعت الشمس دفئًا ملء الأصقاع، ذابت منه طبقات من ركام الثلوج، فما كاد ينتصف النهار حتي ذاب متسربًا قَطرهُ بين رمال الشاطئ وأعشابه. بعد ظهيرة اليوم الرابع تمشّيت بالقرب من المستنقع، ظللت أمشي حتي بدا لي علي البعد بروزٌ صخري علي هيئة رأس الكبش، توقفت علي مبعدة نحو ثلاثمائة مترٍ منه، واصلت المشي قريبًا من الأرض السبخة باحثًا عن درب يوصلني إلي النتوء الكائن عند أقرب نقطة من الحافة الصخرية، دون جدوي. فلم يكن ثمة مسار يؤدي إلي أقرب مكان منها. مساء أول أمس، فقط، كنت قد عثرت عليه.. قرص الشمس المنحدر بطيئًا نحو خط الأفق البعيد، استدارته قاطعة في مشهد المغيب، رفعتُ المنظار المقرّب وحاولت متابعة غروبه لكن الرؤية تعذرت بسبب تقاطع المدي مع تكوين صخري مرتفع أعاق النظر إلي الأفق. تكوين صخري علي هيئة رأس كبش انكسر قرناه، يبلغ طوله عشرين مترًا حسبما يمكن تقديره عبر المسافة البعيدة التي تفصلني عنه، ومن خلال المنظار المقرّب تأكدت أنه تكوين صخري تآكلت حوافه واندثرت خطوطه التي كانت قاطعة وحادة، علي الزمان. أول الأمر، حسبته نحتًا مقدسًا تم نقله إلي هذا المكان. لكنه احتمال بعيد، فمن غير المعقول أن يكون بقايا تمثال مقدس وإلا فلماذا يقام في هذه المنطقة بالذات، وعند حافة بحيرة؟ ثم إنه ضخم الحجم يكاد يزن آلاف الأطنان، وليس متصلا بتلال صخرية حوله ولا يوجد في الموقع كله أي معالم صخرية بجوار البحيرة، وهو يقوم عند حافتها وربما كان جزء منه منغرسًا في الأعماق عدة مئات من الأمتار، هذا من ناحية، أما من ناحية أخري فلم يحدث أن اتخذت المنحوتات الدينية رموزها من رؤوس الكباش، علي مستوي شعوب العالم وقومياته سواء أكانت تماثيل متوسطة الحجم أم بهذه الضخامة غير العادية، ومن ناحية ثالثة، فقد استطعتُ عبر المنظار أن ألاحظ دقة النسب بين مختلف تكوينات هذا الرأس الصخري؛ فالمسافة بين أجزائه مضبوطة تمامًا بينما كانت منطقة ما بين الذقن وأول العنق غارقة في وحل المستنقع بمحاذاة البحيرة ومعلوم أن الآثار الشرقية وتماثيلها تحمل تصويرًا نابضًا بالحياة، مع طابع عام يهدف إلي التعبير عن المعني مباشرة، أما آثار الفن الغربي الكلاسيكي فهي تجسيدية واقعية، لذلك، فربما كان هذا النحت الصخري أحد آثار الفن الغربي! ومن ناحية رابعة.. وخامسة، فهو بالتأكيد ليس نحتًا صخريًا! كانت تلك هي النتيجة التي تبعتها علي الفور نتيجة أخري. فهذا، إذن، أحد كائنات ما قبل التاريخ، قُل إنه أحد تلك الديناصورات المنقرضة.. ديناصور بقرني كبش! الأمر المؤسف حقًا هو أني لم أحضر معي كاميرا وإلا كنت سجلت ذلك الأثر الثمين، فكل من حدثتهم عنه لم يصدقوني، سواء من فريق الجيولوجيين أو غيرهم، يبدو إنها بداية أعراض المرض النفسي.. هلاوس بصرية حادة، هذا تشخيص من عندي. أنا صاحب المرض. كتبت إلي الجهات المسئولة عن هذا الأثر وموقعه، ولا من مجيب. لم أعد آخذ الأمر علي محمل الجد وقلت إني سأعتبره مزحة أو حكاية من ضمن الحكايات التي تمتلئ بها الحياة، وقد بلغت نقطة النهاية، لكن ماذا عن "تشونبو"؟ أتراه قد وقع فريسة لمرض نفسي هو الآخر؟ 6 لم يكن هذا هو كل ما في الأمر. لم يكن هذا هو سبب دعوتهم لك أن تذهب إليهم علي وجه السرعة، وأنت قمت علي الفور وقصدت إلي الجبل، بصحبتهم، حيث أشاروا إلي كومة أحجار مبعثرة، ونظرت حيث قالوا لك: انظر! نظرت ولم تجد إلا جيفة ساق حصان ممددة، بحوافرها المستديرة وبقايا الشعر الداكن اللون. قالوا لك هذا هو الحصان الذي حمله الدب ومضي ولما لم يستطع التهامه دفعة واحدة فقد دفن بقاياه تحت كومة الطوب، وعلّم مكان الدفن بهذه الساق المقطوعة ليتعرف عليها ثانية. قالوا إنهم عثروا عليها في الصباح الباكر، فلما عثروا عليها قصدوا إليك في الحال، قصدوا إليك بعد أن اعتبروك تميمة اتقاء الشر، آمنوا بأنك حامي أرواحهم من الأذي؛ لأجل هذا لاذوا بك معتقدين بأنك قادر علي أن تدفع عنهم البلاء وتقتل الدبّ النحيل. تعلم أنك قاتله. بالطبع تعلم أنك قادر علي قتله، فأنت صائد دببة، لا تجيد شيئًا في الدنيا إلا قتلها، وهم أرادوا أن يعينوك باثنين من المسلحين بالبنادق لكنك صرفتهم؛ فلا حاجة للكثرة بمواجهة دب واحد وإلا تعددت المخاطر والإصابات المحتملة، وقد صحت في ذاكرتك مأساة رفاقك الذين لاقوا حتفهم بين براثن سيد الجبل. بقيت وحدك، متخفيًا بالقرب من موضع ساق الحصان المقبورة، كنت تعرف أن الدب سيتشمم رائحة الذين احتشدوا هنالك توًا، وسيحجم عن المجيء إلي حين، ولن يأتي إلا إذا نزل به الجوع ولم يعثر علي فريسة، ساعتها قد يأتي إلي هنا ثانية. لا تجرؤ علي السجود وإلا أصبحت وجبة عامرة للدب.. وجبة جاهزة للتوصيل حتي الباب. كلامهم يتردد في أذنيك، مرة تلو المرة، وأنت لم تصدق أول القائلين، ثم جاءك آخر وقصّ علي مسامعك نفس الكلام، بما يعتبر شهادة قاطعة علي صحة ما قيل أول مرة، هل كان بإمكانك تكذيب الجميع؟ أحد الطرفين مخطئ بالتأكيد، أيكما المخطئ إذن، أنت أم كل الآخرين؟ أنت طبعًا تعتقد أنك علي صواب، لكن أمن المعقول أن يكذب عليك كل هؤلاء؟ لا أعرف.. لا أعرف، "عندما أقتله لكم فلتجيئوا ولتنظروا معي جيدًا، وسنعرف إن كانت له كفٌ بأصابع، ويدٌ مثل أيدي البشر." ثقتك كانت غامرة بأنك قاتله. ران علي الجميع صمت غريب. صيادٌ أنت، وحدك دومًا، انفرادك والصمت طبع يجري في دمك. الحق، أنك قد اعتدت أزل السكون، بيد أن الأمر مختلف هذه المرة وأنت أحسست أنه مختلف عما جرت به أوقاتك السالفة. قمة الجبل كما العهد بها، جليدها ناصع الصفو، يزيغ منه بصرك. تتأمل فكرة أن تقتني كلبًا يرافق خطوك أينما حللت، فكّرت ولم تجد سببًا لعدم اقتناء جرو، أنت نفسك لا تجد سببًا مقنعًا لرفض فكرة الاقتناء من أساسها، خاصة أنك الصائد الوحيد في جبل "كانديس" الذي لا يقتني كلابًا. تفرّدك بهذا لا يقل عن تفردك بالجسارة وسط صيادي الدببة. تنجلي الفكرة في خاطرك فجأة، فتدرك سرّ تلك الأشياء. تعرف أنه لم تعد هناك عقبان ولا صقور جارحة. فقط كانت هناك نسور رمادية تحوم علي مهل كطائرات ورقية وسط صمت الأيام الخوالي، وسماء صافية.. سماء خالصة الزرقة لم تلمح منها الصفو إلا عندما شَرَعَت البواشق أجنحتها وامتلأت أجواؤُها بندف السحاب الأبيض، مفعمة النسائم.. كانت الطبيعة رفيق حياتك. أتظن حقًا أنك بحاجة إلي اقتناء جِراءٍ تلهث وراء خطوك! تذكرتَ أيضًا أن وقتًا طويلا انقضي عليك دون أن تصادف أيًّا من صغار الحيوانات البرية، بينما المعتاد أن تمتلئ كل تلك النواحي بالأرانب والبواشق والغزلان المغولية وأيائل النهر.. تمر بك من حين إلي حين، تتريث أمامك وتلقي عليك بالتحية، واثقة من أنك لن تؤذيها. تذكر ساعة أن أوقدت نارًا كثيفة لدي المخيم وجلست تنظف بندقيتك، ريثما كانت الثعالب الرمادية تمرّ بك، لمحتك بسلاحك المشرع فتوقفت مكانها، ظللتما معًا.. أنت وقطيعها العابر تتطلعان إلي بعضكما بعضًا بعيون فاحصة، حينئذ أدرَكْتَ أغوارها وقلت لنفسك إنها ليست بهذا المكر والمخاتلة، وإن رائحتها ليست منتنة كما يشيع عنها الناس، نظرت عميقًا ولمحت في عيونها الطيبة رقة طبع ولين حاشية. تري أين ذهب كل هؤلاء؟ تلك العقرب التي كادت أن تودي بحياتك، لحظة أن ألقي بك النعاس عند حافة صخرية ملساء، وأفقت علي شيء ضئيل يحتكّ بأنفك، لما نظرت بطرف عينك وجدت ذنبها مشرعًا يكاد ينغرس في أرنبة الأنف، جمدت مكانك مكتوم الأنفاس، بل جبنت عن أن تفتح عينيك عن آخرهما، وهي لا تدري كم يكلفك مزاحها الثقيل لحظات قاسية لم تمرّ بها من قبل في حياتك، ثم إنك لم تجسر علي البطش بها وقتئذ؛ لأنها كانت مثلك تماماً متحفزة للرد ببطش مماثل، بأسرع مما تتخيل، فبقيت ساكنًا أملا في أن تبدأ هي خطوتها الأولي للخلف! ولحظة أن تبدأ العقرب في التراجع، تكون قد هدأت وزال عنها توترها المفاجئ، فتستعيد حركتها العادية؛ تنبسط انقباضاتها ويتخدر إحساسها بالخطر. وأخيرًا جدًا فقد تحركت بعيدًا عنك، وأسرعت تطيح بها بعيدًا بضربة من ظاهر كفك، فتدَحْرَجَتْ فوق الحصي وانقلبت علي ظهرها، أخذَتْ تطوّح بأرجلها في الهواء وتجتهد في أن تعتدل مكانها، ووقتها فكّرْتَ في أن تهرسها بكعب حذائك، لكنك هززت رأسك مبتعدًا دون أن تدري ما الذي جعلك تعدل عن قرارك بسحقها.. والآن فهأنت تتذكرها فجأة، دون سبب معلوم. ربما كان الصمت قد أثار فيك مكامن القلق.. ربما! هنالك عثرت علي أساس المشكلة في كل هذا. أساس الموضوع هو أنه.. "لا يؤذي أحدًا من الناس". كل من صادفوه لا يزيدون علي خمسة أشخاص، وجميعهم اتفقوا علي أنه في غاية الشراسة مع أن أحدًا من هؤلاء الخمسة لم يلق منه أي أذي، لم يصبه أدني خدش علي يديه. تلك هي النقطة الحاسمة في الأمر! بالإضافة إلي نقطة مهمة أخري، ضمن التفاصيل، فقد سبق له أن انتزع بندقية من حاملها وكسرها، وفي موقف آخر فقد هاجم أحدهم لأنه كان ممسكًا بعصاه، واختطف العصا منه فحطمها وطوح بها بعيدًا، في كل هذه الحوادث كان هو المبادر بالهجوم. إذن، فهل معني هذا أنه يستطيع تمييز البنادق مثلا، ويستطيع إدراك المغزي من حمل الهراوة، ويعرف أن ضربتها إما قاضية عليه وإما موجعة؟ إذن، فلماذا كان يبادر إلي تحطيم هذه الأدوات، حتي قبل أن تطاله بأذي؟ أنت أدري الناس بالدببة. تعرف أنها مهما بلغت من الذكاء، فلا يمكن أن يكون نصيبها منه بهذا القدر، صحيح أنها تؤذي الناس وخصوصًا حاملو البنادق، لكن أبدًا لم يكن لمخالبها أن تتحول إلي كفوف بأصابع، كأصابع البشر، ولم يحدث أن رآها أحدٌ من قبل تجري بقامة منتصبة، وأطول الدببة جميعًا لم يبلغ مقدار ما ذكره شاهدو العيان، ولا يمكن تخيل أن أحدها يمكن أن يبلغ من النحافة قدر ما ذكروا. وأنت قلت في نفسك، لا بد أن في الأمر شيء مبهم. من البداية تأكّدْتَ أنه لا يمكن أن يكون دبًا.. لا، ليس دبًا، فماذا عساه أن يكون إذن؟ الوحوش الكاسرة هنا إما دببة وإما نمور، ليس غير، وحتي النمور لا تكثر إلا في السفوح الجنوبية من جبل كانديس، حيث مناطق الغابات الكثيفة، ومع ذلك وحسب رواية الشهود فهو لم يكن نمرًا ولا دبًا. لم تعد تشغل بالك في التفكير فيما عساه أن يكون، وقلت إنك ستعرفه فور أن تقع عيناك عليه. انشغلت أفكارك بأبيك. كنت في الحادية عشرة يوم وفاته، يوم أن ورثت عنه رداءه، وصارت لك بندقية (كانت البندقية بيد أبيك تفزع قلوب السباع علي مبعدة أميال في أرجاء الفلاة). زوج من الوشق، ذكر وأنثاه، كانا قد افترسا ثلاثة من الأيائل، وشبعا فناما وسط كومة العشب الجافة يلعقان ما بقي علي أجسادهما من دم الفرائس، أرسلت عليهما الشمس دفئًا ألقي النعاس بأجفانهما، صارت بطونهما المتخمة تتقلص بنبض أنفاسهما بين العشب وقد تماهي الفراء الرمادي في جسديهما مع لون العشب الذابل، جاء أبوك فأيقظهما بصيحته المفاجئة، ولا بد أن ذكر الوشق كان قد لمح ماسورة البندقية بلمعة منعكسة فوق معدنها تحت شمس الظهيرة فأحني ساقيه الخلفيتين وتقدم ملامسًا الأرض بجسده، وسرعان ما أدرك أبوك أنه يريد الهرب، وأسرع يبلل زر الإطلاق بما رشح بين أصابعه من العرق، في تلك اللحظة التي لم تتجاوز الثانية كان الوشق قد اختفي وراء العشب، وهذا هو أسوأ ما في الأمر! ثم إنه كمن هناك ولم يحاول الهجوم علي الصياد اليقظ. النتيجة معروفة من دون كلام! فقد قام الوشق بحركة التفاف سريعة، يحدد بها المواقع ويكسب وقتًا ليتدبر ما يمكن أن يفعله. طلقة الرصاص المدوية وصرخة أبيك اجتذبتا حتي قطعان الأيائل المغولية القريبة من موقع الحادث. لم يحاول الوشق وأنثاه، وقد شبعا، أن يجرّا جثة أبيك المطروحة في العراء. مات في لحظة صلف نادرة، لحظة ثقة بالنفس، والمعتاد من الصيادين ألا يهاجموا ذكرًا وأنثاه ببندقية ذات ماسورة واحدة. أبوك كان شديد الثقة بشجاعته النادرة المثال، شديد الثقة بأن طلقاته لن تذهب سدي، كان يزهو بأنه قوي الجسد كالدببة، وكم اصطاد من أزواج الفهود والنمور والوشق.. يقتل أحدها برصاصة، ويهجم علي الثاني بمدية، ينازله بالسلاح الأبيض، وجهًا لوجه، وكثيرًا ما كان يقضي علي الاثنين معًا، سوي تلك المرة التي هرب فيها الذكر بحياته. كان النزال يترك آثاره علي الوجه وأجزاء متفرقة من الجسد، فيبلغ به الزهو مبلغه، إلي أن أورثه الصلف. لا يغيب عن بالك أن أبيك كان نافعًا، وأنك الآن تستطيع أن تصدق كلامهم، لأنهم لم يكونوا ليخدعوك بالقول. قد استنجدوا بك لترفع عنهم البلاء، ومن ثم فلم يكونوا بحاجة لتلفيق كل تلك المبالغات لأي سبب، حتي لو كان بهدف المزاح معك وتزجية الوقت. "ما كان لي أن أصدقهم أبدًا، يا لغبائي!" كنت تلوم نفسك. أدركتَ أنه ما كان ينبغي لك أن تأتي ببندقية، فأسرعت تخفيها بين شقوق الصخر، بعيدًا عن مكمنك. قلتَ إنه لا يبغي معاداة أحد، علي ما يبدو من أمره، لكن لماذا يهاجم الدواب التي عليها معاش الناس؟ ليس هناك سوي تفسير واحد، وهو أنه لا يفهم العلاقة الضرورية بين الناس ودوابهم. ولئن كنت لا تفقه مسألة "السلسلة الغذائية" علي النحو الذي يشرحها به علم الأحياء، فلعلك تعرف تمامًا أن الإنسان هوالوحيد بين الكائنات الذي يملك المراعي، والثيران والأبقار. لكنه لا يفهم تلك الأشياء وقيمتها. يباغت الدواب كأنه ينقض علي سباع البر؛ لأنه يغتذي بها وعليها يعيش. لافرق عنده بين بهيمة ووحش، ولا يدرك أن هذا هو السبب في عداوة الناس، عداوة لم يكن يسعي إليها أصلا، لكنه علي الرغم منه قد خلق مبرراتها، بما أوقع من خسارة. أصبت هذه المرة، فأنت ابن الصياد الذي ركبه الغرور، والغرور مقتلُه. صيّاد دببة أنت، وما عليك، فالأهم أنك.. إنسان. برجاحتك تملك زمام القوة، رابط الجأش تلزم السكينة وهو قادم ينبش أكوام الصخر، يستخرج بقايا الجواد، يمزقها أشلاء، يلتقهما ويزدرد، صرير أسنانه ينفذ في الأسماع. كان المنظر واضحًا لعينيك، ساعة أن بان لك طوله الفارع، تمامًا مثلما ذكروا لك. نظرت ولاحظت نحافته، رغم قوته البدنية، وانحسار الشعر عن جسده، بينما لم يكن رأسه ضخمًا كالمعهود في رؤوس الدببة، ولا الفم رأيته بارزًا إلي الأمام. لكنك عجبت لأصابعه التي لم تختلف في شيء عن أصابع البشر. كان يلتهم بقايا الجيفة حينما رفع رأسه فجأة، وتطلع صوب مخبئك، فخرجت إليه علي الفور، اقتربت منه متمهلا بخطو وئيد، الشمس من ورائك كانت تسقط في الأفق شيئًا فشيئا، وهو قبالتك، ينحسر وجهه وراء الظلال، وراء اللحظة الأخيرة من ضوء المغيب، إذ ألقت عليه شمس الغاربة خطًا مسلطًا من ألق تبدّت به هيئته التامة لناظريك، ثم انتهي كل شيء دفعة واحدة. لكن الوقت كان مواتيًا بالكاد لتلمح نظرته الفاحصة في وجهك. تراءي لعينيك وجه وملامح أنت تألفها، تعرفها تمام المعرفة، ليست غريبة عليك، ولا أنت عنها غريب. انسلّ هاربًا لحظة أن قررت الذهاب إلي الشق الصخري لتجيء بالبندقية. ما أسرع خطوه وهو يجري، تمامًا مثلما قالوا جميعهم، جري واختفي في لمحة عين، جري بقامته المديدة، فهو أطول منك مرة ونصف المرة، لاحظت أنت ذلك وأيقنت أنه (هاء الغيبة هنا تعود علي العاقل! (.. إنسي، مثل كل الآدميين، رغم كثافة الشعر في جسمه، فهو إنسي بكل تأكيد. لم تُطلِع أحدًا علي اكتشافك، ولم تقل شيئًا لأي واحد ممن قابلت، لكنك تذكرت صاحبك القادم مثلك من قلب الصين، وقد علق بذهنك مرأي رأسه الموشك علي الصلع. 7 عرفتم الآن أن تشيونبو قد التقي بالإنس الوحشي، وهو أحد الأجناس التي تسكن المناطق الجليدية من جبال الهيمالايا، وسوف تطالعون الكثير عنه في أبواب "الطُّرَف والنوادر" بالمجلات والصحف، فحكاياته تملأ الأسماع في كل مكان من الأرض، وتقريبًا فمعظم القراء في العالم طالعوا شيئًا من العجائب التي تدور حوله، وربما كان هناك من صدقوا بعضًا من تلك الحكايا التي تطرقت في كثير من الأحيان إلي ذكر أخبار عن العثور علي آثار تؤكد وجوده. حتي أن كثيرًا من دول العالم تخصص ميزانيات هائلة لإيفاد بعثات علمية استطلاعية للعثور علي ذلك الإنسان الوحشي، حيًا أو ميتًا، دون جدوي، سوي النزر اليسير من الحفائر التي يمكن أن تحتوي علي قليل مما يعد "دليلا ماديًا" يشير إلي وجود هذا الكائن الخرافي. ثم إن الصين نفسها قد أقامت في منطقة "هوبي" مؤسسة لحفظ المرويات والآثار ذات الصلة بالإنسان الغابي الجليدي، وسمعنا أيضًا أنهم أنشأوا هيئة علمية استطلاعية، بهدف التوصل إلي ما يمكن أن يفسر لغز ذلك الإنسان الوحشي في الصين. الكشف عن أسرار هذا الكائن يعد ذا قيمة علمية كبري، باعتبار ما يوفره من أدلة علمية تسمح بفك طلاسم النشأة الأولي للإنسان. والكائن الوحشي هذا يعد أحد الألغاز الأربعة الكبري في العصر الحديث، وتشمل: مثلث "برمودا"، والطبق الفضائي الطائر، والإنسان الوحشي.. تُري هل تعرفون اللغز الرابع؟