منذ سنوات قليلة، وعندما كنا نريد تفسير العلاقات الدولية، كان ملجؤنا هو ما يسمى الجيو بوليتكس أو الجغرافيا السياسية، بمعنى التنافس بين الدول للسيطرة أو الحصول على نفوذ فى المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية من المنظور العسكري. انتقل التحليل بعد ذلك الى ما يسمى الجيو ايكنومكس أو الجغرافيا الإقتصادية، بمعنى تنافس الدول للوصول للمناطق ذات الأهمية الإقتصادية. اليوم يمكن الحديث عن متغير جديد لتفسير العلاقات الدولية المعاصرة وهو المدخل التكنولوجي. فى هذا الإطار إستوقفنى تقرير نشر منذ أيام فى أحد المواقع الإخبارية الشهيرة وهو موقع بوليتكو الأمريكي، الذى عرض لظاهرة التجسس الأجنبى على الولاياتالمتحدة. التقرير أشار الى أن الكثيرين يميلون للنظر للتجسس على الولاياتالمتحدة كظاهرة ترتبط بالساحل الشرقى الأمريكى من خلال الجواسيس الأجانب الذين يعملون من السفارات فى واشنطن، أو فى بعثات إلى الأممالمتحدة فى نيويورك. ولكن الجديد هو أن الساحل الغربى الأمريكى أصبح هدفا متزايدا للتجسس الأجنبي. الساحل الغربى كمدينة سان فرانسيسكو، وما يعرف بوادى السليكون، حيث يوجد تركز لشركات العلم والتكنولوجيا الرائدة على مستوى العالم مثل أبل وإنتل وسيسكو وغيرها. وعلى عكس الساحل الشرقي، لا تركز عمليات التجسس الأجنبية على البحث عن الأسرار الدبلوماسية أو الاستخبارات السياسية أو خطط الحرب، وإنما تستهدف الأسرار التكنولوجية، وهو ما أصبح يطلق عليه التجسس الناعم. ويختتم التقرير بعبارة أن هذه النوعية من التجسس ستتصاعد، لأن التكنولوجيا هى التى ستحدد مكانة القوى الكبرى خلال العقود القادمة. مقال آخر نشر فى العدد الأخير من مجلة الشئون الخارجية الأمريكية، بعنوان «مرحبا بالثورة الرقمية», أشار فيه مؤلفه كيفن دروم إلى أن الثورة الرقمية ستكون أكبر ثورة جيوسياسية فى تاريخ البشرية. وإذا كانت الثورة الصناعية قد غيرت العالم من خلال استبدال العضلات البشرية بالآلات، إلا أنه ظل هناك حاجة للعقول البشرية لبناء وتشغيل وصيانة الآلات. لكن الثورة الرقمية ستحل محل عقل الإنسان، وأى شيء يمكن أن يفعله الإنسان، سيكون الذكاء الاصطناعى قادراً على القيام به ولكن بشكل أفضل من الإنسان. أى سوف يكون لدى الروبوتات الذكية كل من العضلات للقيام بالعمل والقوة العقلية لتشغيل نفسها. وستكون المنافسة بين القوى العظمى فى العالم منافسة حول تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال فى موضوع صعود الصين، سيكون هناك أمر واحد فقط مهم وهو: هل سيكون لدى الصينيين أفضل منظومة للذكاء الاصطناعى فى العالم؟ إذا تمكنوا من ذلك، سيكون باستطاعتهم السيطرة على العالم إذا شعروا بالحاجة لهذا الأمر. كذلك سوف يتم إدارة الحروب بالكامل بواسطة الآلات، وستعرف الدول التى ليس لديها منظومة متطورة فى مجال الذكاء الاصطناعى أنه ليس لديها أى فرصة للفوز فى الحروب، فى حين أن البلدان ذات المستوى الأعلى فى هذه التكنولوجيا سيكون لديها طرق أفضل للحصول على ما تريد، وسوف تفسح ناقلات الطائرات وصواريخ كروز الطريق كى يحل محلها الحروب السيبرانية التى من الصعب اكتشافها. وكما أشرت فى مقال سابق، فإننا سنكون بصدد ضربة أولى من نوع جديد لا يتم فيها استخدام سلاح الطيران أو الصواريخ لتدمير قدرات الخصم أو بنيته التحتية، ولكنها ضربة أولى باستخدام تكنولوجيا المعلومات لتدمير أو تعطيل هذه القدرات، أى تحقيق الانتصار قبل إطلاق رصاصة أو إسقاط قنبلة. يمكن الإشارة أيضا الى أن الحرب التجارية التى بدأتها الولاياتالمتحدة ضد الصين، ليس سببها الرئيسى هو العجز فى الميزان التجارى الأمريكى مع الصين، ولكن المسألة ترتبط بقضية أكبر وتتعلق بإستراتيجية صنع فى الصين 2025 ، والتى تستهدف تحويل الصين الى اقتصاد يركز على الصناعات العالية التقنية المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات، وليس الصناعات رخيصة السعر والمحدودة الجودة كما هو الانطباع حاليا عن المنتجات الصينية. الخلاصة هى أن التكنولوجيا سوف تغير السياسة الدولية، وتغير موازين القوة فى العالم، ولن يعد مهما ما تملكه الدول من موقع إستراتيجي، أو موارد طبيعية، أو عتاد عسكري، ولكن ما تملكه من قدرات تكنولوجية. فهل يمكن أن نكون جزءا من هذا العالم؟. لمزيد من مقالات د. محمد كمال