حملت صفحات التاريخ أحداثا وصلت إلى حد الاشتباكات المسلحة والحروب التى سقط فيها ضحايا أبرياء نتيجة إطلاق روايات كاذبة، يتردد صداها فى شائعات تزيد هذه الأوضاع سوءا، فالشائعة هى مولود لرواية كاذبة، والأمثلة عديدة على طول التاريخ، وإذا تأملنا بعض ما جرى فى تاريخنا الحديث فسوف نجد الكثير الذى نتوقف الآن أمام بعضه فقط. فمثلا عندما يطلق الشائعة رئيس دولة كبرى كالولايات المتحدة عن دولة أخري، فإن النتيجة تكون كارثة على الدولتين، ففى عام 1964 أبلغ الرئيس الأمريكى جونسون الكونجرس أن مدمرات تابعة للبحرية الأمريكية تعرضت لإطلاق النار عليها فى خليج «تونكين» من زوارق تابعة لفيتنام الشمالية، وأن سفينتين أمريكيتين ردتا على إطلاق النار بالمثل مما أرغم الفيتناميين على الابتعاد. وظهر جونسون على التليفزيون الأمريكى وأمام الصحافة، وهو يصف ما حدث بأنه عدوان من فيتنام الشمالية ويقسم على الانتقام، وبعد مرور ساعات قليلة كانت 64 سفينة حربية أمريكية تضرب أهدافا داخل فيتنام الشمالية، وذلك بعد موافقة الكونجرس للرئيس على إعلان الحرب على فيتنام. وبعد ذلك كشفت التحقيقات التى أجريت فى أغسطس من نفس العام أن الادعاء بهجوم الفيتناميين لم يحدث أصلا، كذلك أظهرت تقارير وزارة الدفاع الأمريكية أن المدمرة الأمريكية هى التى بدأت بإطلاق النار فى خليج «تونكين»، وليس الفيتناميين. وقد استمرت الحرب بكثافة شديدة لأكثر من 8 سنوات، وكانت قد بدأت بمجرد كذبة انطلقت كشائعة من جانب الرئيس جونسون. والمثال الثانى والذى يبين إمكان وقوع غزو مسلح من دولة على دولة أخرى بادعاءات يتم ترديدها، بينما هى بعيدة تماما عن الحقيقة. ما حدث فى عام 1968 زحف الدبابات السوفيتية على تشيكوسلوفاكيا لسحق الحركة الديمقراطية الشعبية التى عرفت باسم «ربيع براج»، ولتبرير هذا التدخل نشر الاتحاد السوفيتى فى الصحيفة الرسمية خطابا غير واقعى موقعا من مواطن تشيكي، لكن دون ذكر أسمه، يدعو لمساعدة عاجلة من القوات المسلحة السوفيتية، لسحق من أسماهم بالمتمردين، ثم أعلن الكرملين أنه تدخل استجابة للنداء الذى جاءه من تشيكوسلوفاكيا بالمساعدة. وتبين بعد ذلك فى التسعينيات، أن مسئولين كبارا فى الحزب الشيوعى التشيكى كانوا قد طالبوا السوفيت بالتدخل لمواجهة هذه الحركة المناهضة لهم، ولم تكن هناك أى مطالب من الشعب التشيكى تطالب بهذا الغزو المسلح، ودخلت القوات والأسلحة السوفيتية وقضت على الحركة الشعبية من أجل التغيير، وأبقت على حكم الحزب الشيوعى التشيكي، والذى كان على وشك الانهيار، ولكن بسبب تلك الكذبة، استمر الحزب الشيوعى فى تشيكوسلوفاكيا فى الحكم لأكثر من 30 عاما بعد ذلك. أمامنا مثال آخر قريب مازلنا نتذكر حقائقه الكاملة، والتى يقف وراءها تزوير الحقائق والترويج لأكاذيب لا أصل لها اتخذوا منها مبرراتهم للحرب على العراق. ففى عام 2003 وبينما كان الرئيس الأمريكى جورج بوش يلقى خطاب «الإتحاد» أمام الكونجرس، تضمن خطابه 16 كلمة مهدت لخطته لغزو العراق، فى هذه الكلمات القليلة قال بوش «إن بغداد تبنى سلاحا نوويا، وإن على أمريكا نزع هذا السلاح بالقوة إذا لزم الأمر»، ثم ثبت فيما بعد، سواء من جانب أمريكيين أو مؤسسات دولية، أن ما قاله بوش لم يكن صحيحا، وأن نفس الادعاء الكاذب تكرر من جانب البيت الأبيض بعد ذلك، من أن صدام حسين شارك بدور فى هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، وأيضا اتهامات واشنطن غير الصحيحة بأن العراق لديه برنامج للأسلحة البيولوجية والكيماوية، وكان ذلك نوعا من الأخبار الكاذبة التى ترقى إلى مستوى الشائعات. والحقيقة أن هذا النوع من اختلاق معلومات لا أساس لها من الصحة وتضخيمها ليس ظاهرة حديثة، بل إنها تكررت عبر العصور القديمة وكانت وراء اشتعال العديد من الأزمات والحروب بين الدول. وفى الوقت الراهن من تاريخنا تحولت الشائعات إلى أداة من أدوات ما يسمى بحروب الجيل الرابع والخامس، والتى لا تلجأ فيها قوة معينة إلى الصدام المسلح مع دولة أخري، لكنها تركز على استهداف عقول شعوب هذه الدولة والتأثير عليها بالشائعات، مما يعمل على زعزعة ثقة هذه الشعوب بنفسها وبحكامها، ويخلق فى داخلها حالة من التشوش فى التفكير، تريد منه الدولة الأجنبية خلق اضطرابات داخلية تهدم قدرات أى شعب على البناء والتقدم والشعور بالأمن. والدولة الأجنبية التى تستهدف شعبا آخر، تطلق شائعاتها عبر طرق متعددة ومتنوعة، منها الترويج للشائعات عبر مواقع الإنترنت، وأيضا استخدام عناصر فى الداخل لنشر الشائعات بين الناس، حتى يتكرر الحديث عنها وكأنها حقائق مؤكدة، وهؤلاء يلعبون دور الوكيل المحلى عن دولة أجنبية، إما لقاء تمويل أو لكراهيتهم وطنهم.