ما أشبه الليلة بالبارحة. في نوفمبر 1964 انتخب الأمريكيون ليندون جونسون زعيم الحزب الديمقراطي رئيسا لأمريكا بأغلبية كبيرة ضد المرشح الجمهوري اليميني المتطرف باري جولد ووتر بعد عام واحد من اغتيال الرئيس السابق جون كيندي. والذي حل محله جونسون الذي كان نائبه لمدة عام بعد اغتيال كيندي لحين انتخاب جونسون 1964. وبدأ جونسون رئاسته بتفاؤل شعبي كبير خاصة في ضوء برنامجه لمحاربة الفقر.
كانت حرب فيتنام مازالت في بدايتها بعد أن قررت أمريكا وراثة الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية الذي هزم هزيمة ساحقة في معركة ديان بيان فو في ربيع 1954 ترتب عليها انقسام فيتنام إلي قسم شمالي مستقل بقيادة الزعيم الأسطوري الشيوعي هوشي منه وقسم جنوبي تحت السيادة الفرنسية المنهارة التي قررت أمريكا وراثتها علي أمل استرداد كل فيتنام وإنشاء امبراطورية أمريكية استعمارية في وسط وجنوب شرق آسيا تستخدمها في مواجهة الصين والاتحاد السوفيتي الذي كان عندئذ القطب الدولي المواجه لأمريكا.
تسللت أمريكا إلي الهند الصينية في صورة مجموعات عسكرية محدودة لمساعدة فرنسا وعملائها في فيتنام الجنوبية ظل عددها يتزايد طوال الأعوام الأخيرة من رئاسة أيزنهاور وسنوات رئاسة كيندي الثلاث حتي اغتياله. وفي سنة 1964 كان الاستعمار الأمريكي قد أعد عدته لغزو عسكري كامل لكل فيتنام وجنوب شرق آسيا. ووقف المجمع العسكري الصناعي الأمريكي اليميني بكل ضراوته وراء تنفيذ المخطط.
وسرعان ما افتعل جونسون الحادثة المسماه " خليج تونكين" حيث دبرت المخابرات الأمريكية إطلاق النار علي بعض قطع الأسطول الأمريكي الموجودة بخليج تونكين أمام سواحل فيتنام ونسبت الحادثة كذبا إلي فيتنام الشمالية كما اعترفت فيما بعد.
وسرعان ما أقام الإعلام الأمريكي الدنيا وسارع الكونجرس بتفويض جونسون في اتخاذ كل ما يراه عسكريا لمواجهة ما سماه العدوان الشيوعي من فيتنام الشمالية. وبدأت القوات الأمريكية غزوا كاملا برا وبحرا وجوا واحتلت كل فيتنام الجنوبية وبدأت حربا جوية ضارية ضد الشمال. وتزايد عدد جنود الغزو الأمريكي حتي وصل خلال سنوات معدودة إلي أكثر من نصف مليون جندي.
وبدأ الإعلام الأمريكي يردد أكذوبة ان سقوط فيتنام الجنوبية في يد الشمال سيحرك نظرية الدومينو أي تساقط باقي دول جنوب شرق آسيا مثل لاوس وكمبوديا وتايلاند في يد الشيوعية.
ولكن شعب فيتنام بقيادة زعيمه الأسطوري ظل صامدا كالطود ودفع خلال سنوات الحرب التي دامت حتي ربيع 1975 ثمنا فادحا من دمائه فاقت الثلاثة ملايين شهيد. ولكنه كلما زادت أمريكا من عدد قواتها زادت خسائرها المادية والبشرية وزاد السخط الشعبي في أمريكا علي هذه الحرب.
وظل جونسون يحذر الرأي العام بأن النصر قريب وأن الضوء سيظهر في نهاية النفق المظلم حتي مطلع 1968 عندما قام ثوار فيتنام بهجومهم الفجائي الضخم المعروف بهجوم " تيت" علي كل مدن فيتنام الجنوبية بما فيها العاصمة سايجون بل قلعة السفارة الأمريكية بها التي اقتحمتها مجموعات فدائية ظلت تقاتل فيها عدة أسابيع حتي آخر رجل.
وهنا كانت ثورة الرأي العام الأمريكي قد وصلت لدرجة أعلن جونسون معها أنه لن يرشح نفسه لمدة رئاسة ثانية في نوفمبر ذلك العام. وانتهت رئاسته هذه النهاية المخزية.
ومع أن حرب فيتنام استمرت حتي ربيع 1975 علي يد الرئيس التالي نيكسون وخليفته فورد، وقام نيكسون خلال حكمه بغزو لاوس وكمبوديا علي أمل قطع الإمدادات عن ثوار فيتنام فقد انتهت الحرب بهزيمة قاسية لأمريكا بعد أن فقدت ستين ألف قتيل من جنودها وأكثر من ربع مليون جريح ومشوه. وهربت فلول القوات الأمريكية من فوق سطح السفارة الأمريكية في سايجون يوم سقوطها بطائرات هليوكوبتر في مشهد لن ينساه التاريخ.
واليوم يأتي أوباما للرئاسة محاطا بهالة من الحماس الشعبي والتفاؤل العالمي كأول رئيس من الأقلية السوداء ويلجأ لأسلوب المهادنة والكلام المعسول علي أمل أن تنجح أمريكا في تنفيذ مخططها الاستعماري في السيطرة علي جنوب وشرق آسيا وحصار الصين وروسيا بالدبلوماسية والأساليب الناعمة بعد أن عجزت تماما عن إخضاع المنطقة بالقوة العسكرية العارية علي يد مجرم الحرب بوش.
ويبدأ أوباما رئاسته بأن يزعم كذبا أنه سينسحب تماما من العراق بنهاية 2011 في الوقت الذي بنت فيه أمريكا أربع قواعد عسكرية عملاقة خارج المدن العراقية وقررت الاحتفاظ بقوات كاملة العتاد لن تقل عن خمسين ألف جندي تبقي بالعراق إلي أن يشاء الله مع تغيير مسمي قوات الاحتلال هذه إلي " خبراء" لتدريب الجيش العراقي.
ويعلن أوباما في استخفاف بعقول العالم أن حرب العراق كانت الحرب السيئة وأنه سيصفي الوجود الأمريكي بالعراق بنهاية 2011 أما حرب أمريكا العدوانية في أفغانستان فهي في رأيه " الحرب الجيدة " التي سيتفرغ لكسبها ويزيد عدد القوات الأمريكية بها لهذا الهدف " النبيل ". وذلك حسب زعمه لأن ترك أفغانستان لأهلها سيعني تحولها إلي قاعدة للإرهاب يسيطر عليها تنظيم القاعدة وتهدد العالم" المتمدن كله ".
وقد نشر الكاتب الأمريكي الشهير روبرت شير في جريدة سان فرنسسكو كرونيكل يوم 3 سبتمبر مقالا يقارن فيه بين تورط جونسون في فيتنام وأوباما في أفغانستان كان أهم ما جاء به قوله إن حرب أفغانستان لا تقل عبثية عن حرب فيتنام لأن محاولة أمريكا إخضاع بلد أجنبي لن تحقق لها الأمن كما أثبتت حرب فيتنام. وأن حركة طالبان ليست عميلة لتنظيم القاعدة وليست مسئولة إطلاقاً عن أحداث سبتمبر 2001 في أمريكا.
وأنه لا يجب أن تنسي أمريكا انها هي التي جندت أسامة بن لادن وخالد شيخ محمد المتهم بتدبير أحداث سبتمبر لقتال السوفييت في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. وأن الرئيس الأمريكي السابق ريجان قد وصفهما بأنهما أبطال يقاتلون من أجل الحرية. وأن وصول حكومة طالبان للسلطة في أفغانستان في الماضي كان بمساعدة المخابرات الأمريكية.
وأن الحكومات الثلاث الوحيدة في العالم التي اعترفت بحكومة طالبان وتبادلت التمثيل الدبلوماسي معها وهي حكومات السعودية وباكستان ودولة الإمارات العربية كانت كلها حكومات تابعة لأمريكا. وهي الحكومات التي مولت طالبان بالمال الوفير والسلاح الأمريكي المتطور جدا والرجال المتطوعين الذين عرفوا باسم الأفغان العرب.
وتنبأ شير بأن التصعيد العسكري المتلاحق في أفغانستان لن يقود أمريكا وحلفاءها للنصر بل سيلقون نفس مصير الغزو السوفيتي لأفغانستان.
وقد ردد السياسي الأمريكي الشهير برزينسكي مستشار الأمن القومي السابق للرئيس كارتر ومهندس اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل نفس الكلام ووصل لنفس النتيجة في حديث له بالإذاعة البريطانية في أوائل سبتمبر.
الخلاصة ان أوباما ينزلق اليوم إلي نفس مستنقع الفشل الذي سبقه إليه جونسون وسيلقي نفس المصير.
ونحن من جانبنا نتمني له مزيدا من الانزلاق والفشل الذي قد يضع نهاية للعدوانية والعنجهية الأمريكية كما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية للعدوانية والعنصرية النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا.