تكاد ثورة يوليو تكمل ثلثى القرن عمراً دون أن يهدأ الجدل حولها، وهو دليل قاطع على أهمية الدور الذى لعبته وعمق الأثر الذى أحدثته. يفزع خصومها لاحتمالات عودتها أو حتى إنصافها ويجزع أنصارها لتجاهلها ومحاولات تصفية أى أثر لها. يتفهم المرء دوافع خصوم الثورة الذين أُضيروا من سياساتها كالإقطاعيين وكبار الرأسماليين والنخب المحافظة فى بلدان عربية وإسرائيل وقوى الهيمنة الخارجية، ويحترم الذين اختلفوا معها لأنها لم تقدم نموذجاً ليبرالياً للحكم لم يكن بالمناسبة موجوداً فى أى بلد نام آنذاك سوى الهند، لكن مواقف المستفيدين والمنافقين لا تستحق تفهماً أو احتراماً وكذلك من يرددون كالببغاوات مقولات زائفة دون أدنى سند, كما فى القول بأن زمن المَلَكية كان أجمل بفساده وظلمه الاجتماعى وليبراليته المنقوصة، وأن إجراءات العدالة الاجتماعية قد ضيعت الاقتصاد رغم ما تشهد به أرقام الأممالمتحدة على أهم تجربة تنموية لبلد نام فى ظروف مصر، وأن بناء السد العالى قد أفقدنا الطمى والسردين دون ذكر حرف عن عوائده الإستراتيجية, وأن مجانية التعليم قد أفسدته مع أن الفضل الأول فيها لطه حسين وحكومة الوفد، وأن نكسات الثورة نتيجة طبيعية لبعدها عن الدين لمجرد أنها اختارت الطريق الصحيح فى التعامل مع الإخوان المسلمين, متجاهلين أن عبد الناصر قد اختار أن يكون الأزهر هو المنبر الذى يعلن منه إصراره على مواجهة العدوان الثلاثى وأنه هو الذى استقدم عشرات الألوف من المبعوثين من الدول الإسلامية وأرسل لها مئات الدعاة وأنشأ إذاعة القرآن الكريم، وأن مصر قد دفعت أبهظ الأثمان لدورها الخارجى مع أن هذا الدور ليس اختراعاً ناصرياً وإنما سمة لافتة فى التاريخ المصرى, ومع أنه جلب لمصر مكانة عربية وإفريقية وعالمية مازالت آثارها باقية رغم ما طرأ على الدور المصرى بعد رحيل عبد الناصر. نعم يردد خصوم يوليو كل ما سبق وأكثر دون كلل ولا يريدون الاعتراف بأنها لم تكن نبتاً شيطانياً فى الأرض المصرية وإنما على العكس كانت ترجمة أمينة لمطالب أجمعت عليها الحركة الوطنية قبل الثورة، وينسون الإنجازات الوطنية الخارقة كالإدارة الناجحة لمرفق عالمى بأهمية قناة السويس بعد تأميمها فيما شهدت سنوات التردى الاستعانة بشركات أجنبية فى جمع القمامة، وكذلك بناء السد العالى فى ظل تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة، ولا يرون الطبقات الدنيا والوسطى التى شهدت طفرة فى مستوى معيشتها بفضل سياسات الثورة، وأن هذا التطور كان شرطاً لا غنى عنه لبناء ديمقراطية حقيقية لم يدع قائد الثورة يوماً أنه أنجزها وإنما كان تركيزه دائماً على أنه لا ديمقراطية دون حقوق اقتصادية واجتماعية، ويتجاهلون القاعدة الصناعية التى شيدتها الثورة ويزعمون أنها تحققت فقط بالاستيلاء على ممتلكات الآخرين، ولا يريدون الاعتراف بأنه إذا كانت تَمَلك الدولة كل شيء -وهو ما لم يحدث- خطأً فإن انسحابها وتخليها عن دورها كان خطأً أكبر بكثير، ويتجاهلون الازدهار الثقافى اللافت فى سنوات يوليو فى كل المجالات دون استثناء من غناء ومسرح وسينما وفنون شعبية وفنون رفيعة وأدب راق وتأسيس الهياكل التى وفرت باقتدار البنية المؤسسية للنهضة الثقافية التى حققتها يوليو، ومازالت هذه البنية تمثل حتى اليوم مقوماً أساسياً للعمل الثقافى فى مصر، ومن المؤكد أن خصوم يوليو يتجاهلون المنجزات الثقافية للثورة عمداً لأنه إذا كانت الحريات الليبرالية قد غابت فمن المؤكد أن أولئك المثقفين الذين صنعوا هذه المنجزات قد تفاعلوا بصدق مع مشروع يوليو الوطنى. نعم كان قصور التجربة السياسية للثورة أكيداً وكانت هزيمة يونيو فادحة، ولكن ثورة يوليو ليست متفردة فى هذا الصدد وعلينا أن نواجه أنفسنا بشجاعة، فقد آلت البدايات الليبرالية الرائعة لثورة 1919 إلى ما آلت إليه قبل يوليو، وتم الانقضاض على التجربة من داخلها وبفعل الملك والسلطة الاستعمارية بحيث أصبحت ليبرالية ما قبل يوليو ومضات يتم إخمادها بسهولة لافتة من قِبَل الملك أو الاحتلال، ولقد انتهى نظام يوليو برحيل عبد الناصر فأين هى التجربة الحزبية التى تطورت خلال ما يقرب من نصف قرن مر على هذا الرحيل؟ وأعتقد أنه يتعين على كل مخلص لقضية التطور الديمقراطى فى مصر أن يبحث عن الأسباب البنيوية الحقيقية التى تفسر حالة الديمقراطية فى مصر منذ الربع الثانى من القرن العشرين بعيداً عن نسبة الأمر برمته إلى نظام يوليو إلا إذا أردنا خداع أنفسنا، أما هزيمة يونيو فيجب ألا ننسى أنها كانت نتاج عاملين أولهما المعادلة السياسية للعلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية وما أدت إليه، غير أن العامل الثانى لا يقل أهمية بحال وهو التآمر الخارجي، فقد كانت حركة التحرر العربى على وشك أن تحقق أخطر انتصاراتها فى جنوب اليمن والخليج ولم يكن ممكناً السماح باستمرار تجربة عبد الناصر الذى كان يدعم هذه الحركة ويقودها بعد أن أعلنت بريطانيا فى فبراير 1966 أنها تنوى الانسحاب من الخليج بحلول عام 1968، ومن الإنصاف الإشارة إلى استيعاب دروس الهزيمة وإعادة البناء بسرعة لافتة بحيث بدأ القتال لإزالة آثارها فى الشهر التالى لوقوعها وتمت استعادة القدرة على الدفاع فى خمسة أشهر فحسب والانخراط بعدها فى حرب استنزاف حققت فيها القوات المسلحة إنجازات خارقة وأكملت استعدادها لحرب أكتوبر المجيدة، كذلك أفضت الهزيمة إلى إعادة النظر فى مسار التنظيم السياسى للثورة وهو ما عززته مظاهرات الطلبة فى فبراير 1968 وأفضى إلى إعلان عبد الناصر «بيان 30 مارس» وإن لم تسمح ظروف المعركة بنتائج ملموسة له. فهل يأتى يوم نتصالح فيه مع تاريخنا من خلال نظرة موضوعية مجردة عن الهوى؟. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد