أكثر ما يكره الإسرائيليون هو التاريخ والقانون. إنهم يعشقون الجغرافيا والعبث بها. يجيدون فن تغيير الحقائق على الأرض. يستخدمون الجغرافيا لتشويه التاريخ، أو حتى كتابة تاريخ يروق لهم. وجود الرئيس الأمريكى ترامب جعل مهمة الإسرائيليين أكثر سهولة ووسع من حدود عملها. فالرئيس الأمريكى يشاركهم بشكل أو بآخر العداء للتاريخ والقانون. ثمة اتفاق على أن الطريقة المثلى للتعامل مع ترامب هى عدم الاعتماد على لغة القانون مع الرجل، فهو يكره القانون والمصالح القائمة على الصفقات هوايته المفضلة. طرح ترامب وإصراره على صفقة القرن تأكيد على عشقه للمصالح وحتمية تغيير الجغرافيا من أجلها. كل شيء لديه ومن قبله لدى الإسرائيليين قابل للتغيير بأداة القوة ولا شيء غيرها. القوة لدى الإسرائيليين ولدى ترامب ليست القوة الغبية، بل إنها القوة الشديدة الدهاء. لديهما قدرة كبيرة على تمهيد الأرض لعمل القوة بالشكل الذى يحقق الأهداف المطلوبة. الاثنان يتحليان بالصبر والمثابرة لتحقيق أهدافهما وإنجاز صفقاتهما. الصفقة المطروحة الآن على الطاولة هى صفقة القرن. يسعيان لوضعها موضع التنفيذ أيا كانت العقبات وأيا كانت التكلفة والاعتراضات من ذوى الشأن. الحرب التى تقرع طبولها الآن على غزة هى أحد البدائل المطروحة لتمهيد الطريق لوضع الصفقة موضع التنفيذ، أو هكذا أقنع الإسرائيليون الرئيس الأمريكى الذى يضبط كل إيقاعاته وحركاته اليوم على نغمة صفقة القرن. الإسرائيليون يدركون جيدا أن ترامب فى أمس الحاجة لتحقيق إنجاز فى المنطقة يؤكد أنه قادر على إنفاذ إرادته وأنه دون غيره من أسلافه اهتدى إلى مفتاح التعامل مع قضية الشرق الأوسط. تمرير قضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أعطاه مددا إضافيا للزهو بقدرته على تحريك القضايا الشائكة طبقا لبوصلته بصرف النظر عن اعتراض المجتمع الدولى بما فيه حلفاؤه التقليديون، حيث لم يصوت إلى جانبه وإسرائيل سوى سبعة أصوات لا يمكن وصف معظمها بالدول بالمعنى الحقيقى. بل إنه ربط الإجراء ذاته بصفقة القرن. وأكد أن إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل أبعد المدينة عن مائدة المفاوضات وإن إسرائيل ستدفع ثمن ذلك، بما يجعل من الصفقة شيئا عظيما للفلسطينيين!. كما بدأ فى تهديد الفلسطينيين بحجب المساعدات الأمريكية عنهم ما لم يتجاوبوا مع صفقته. الإسرائيليون من جانبهم يدركون جيدا أن فترة ترامب هى الأفضل وأنهم لن يحصلوا على رئيس أمريكى أفضل منه للمصالح الإسرائيلية. ومن ثم تحركوا لتحقيق أكبر المكاسب التى كانت تبدو بعيدة المنال أو على الأقل كانت تكلفة تحقيقها عالية. فترامب أهداهم القدس ولم يعكر صفوهم وهم يقيمون المزيد من المستوطنات ولا يأبه بأى من الإجراءات التعسفية التى يتخذونها ضد الفلسطينيين فهل يمكن أن يقض مضجعه أن يسن الإسرائيليون قانونا عنصريا! التفكير فى إعلان إسرائيل دولة يهودية ليس وليد اليوم بل إنه أحد ركائز رؤية نيتانياهو، والتهديد به ظل بندا ثابتا على طاولة المفاوضات والنقاشات الإسرائيلية الفلسطينية خلال سنوات حكمه. فقط الآن تجاسر الكنيست الإسرائيلى وأصدر قانون شرعنة ما لا يمكن وصفه إلا بالفصل العنصرى، وهو القانون المعروف باسم قانون القوميات اليهودية بأغلبية بسيطة للغاية (62 عضوا)، لتصبح إسرائيل الوطن القومى للشعب اليهودى أينما وجد. نتيجة التصويت هذه تقول بوضوح إن نصف الإسرائيليين تقريبا يرون خطرا من تبنى القانون الجديد ليس طبعا بالنسبة للفلسطينيين ولكن بالنسبة لإسرائيل وصورتها التى حاولت خلال سبعين عاما إيهام دول المنطقة والمجتمع الدولى بها وهى أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة! وقد عبرت زعيمة حزب ميرتس اليسارى عن تلك المخاوف قائلة إن القانون عنصرى تجاه ثلث السكان وهم السكان العرب داخل إسرائيل، معتبرة إياه تهديدا للديمقراطية، وتقويضا لفكرة الصهيونية لإقامة مجتمع ديمقراطى، وأنه بمنزلة إعلان حرب ضد مواطنى إسرائيل العرب وضد إسرائيل كدولة ديمقراطية. القانون بهذا الشكل تعبير إضافى بالغ الدلالة على تحكم اليمين المتطرف بكل أفكاره العنصرية فى المجتمع الإسرائيلى. المشكلة أنه بينما تنجح إسرائيل أو بالأحرى اليمين المتطرف الإسرائيلى بقيادة نيتانياهو فى تحقيق كل أهدافه وتعزيز قبضته على توجهات المجتمع الإسرائيلى بل وفى تسخير الكثيرين لخدمة تحقيق تلك الأهداف يفعل الفلسطينيون العكس. فحماس تزيد من إحكام قبضتها على الفلسطينيين فى قطاع غزة مستمتعة بالانفصال عن الضفة الغربية والسلطة الوطنية الفلسطينية وتقدم كل الذرائع التى تستخدمها إسرائيل لمعاقبة الفلسطينيين وإفشال مشروعهم الوطنى لإقامة الدولة الفلسطينية والإبقاء على انفصال الضفة وغزة باعتباره البيئة الخصبة لتمرير المشروعات الإسرائيلية والأمريكية. فرغم كل المتغيرات التى أوجدها وجود الرئيس ترامب وانحيازه التام للرؤية الإسرائيلية ورغم الخطوات الفعلية التى اتخذها خصما من حلم الدولة الفلسطينية ما زالت حماس مترددة أو على الأٌقل تطيل التفكير فى خطوة إنهاء الانفصال والعودة إلى أحضان السلطة الفلسطينية، وما زالت تبحث فى المكاسب الضيقة التى يمكن أو يجب أن تحصلها من السلطة فى مقابل تلك العودة، وكذلك بدأت السلطة فى الفعل أخيرا خاصة منذ محاولة اغتيال رئيس الوزراء الفلسطينى رامى الحمد الله فى قطاع غزة. الكل يبحث عن كيفية تفادى حرب جديدة من إسرائيل على قطاع غزة إلا إسرائيل ومعها الولاياتالمتحدة وحماس. وإذا كان مفهوما دوافع إسرائيل والولاياتالمتحدة لإعلان الحرب إن لأسباب داخلية تتعلق بنيتانياهو المضغوط شعبيا نتيجة البالونات الحارقة الحمساوية أو لأسباب تتعلق بترامب ومشروعه صفقة القرن، فإنه من غير المفهوم ذلك التجاوب من حماس لتقديم الذرائع لإسرائيل. فحماس تصر على الاستمرار فى استخدام تلك البالونات، وتؤكد أنها أقوى مما كانت عليه عام 2014، بل وتعلن الآن ما يفيد بأن الجنديين الإسرائيليين المختطفين اللذين اعتبرا فى عداد القتلى ما زالا على قيد الحياة وتسعى لصفقة تبادل أسرى أخرى أسوة بما تم مع شاليط! وكأنها لا تستشعر أن حربا قادمة يتم الإعداد لها وتطالب السلطة الفلسطينية المجتمع الدولى بالتدخل لمنع وقوعها. ليس مطلوبا من حماس اليوم كما لم يكن مطلوبا منها من قبل سوى أن تتوقف عن تقديم الذرائع لإسرائيل لشن الحرب وتحميل حماس مسئوليتها بينما يدفع الفلسطينيون ثمنها. لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة