قمة هلسنكى بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، التى سبق وقلنا إنها «ناجحة» قبل أن تبدأ، ستظل علامة فارقة فى تاريخ علاقات البلدين. أربع ساعات فقط، صارت فاصلة بين مرحلة كانت العلاقات فيها عند المستوى الأدنى من التردى والتدهور، وأخرى تنذر بالتحول نحو تجاوز ما يتناثر على طريق البلدين من عثرات وتعقيدات أفضت بالبلدين إلى ما هو أقرب إلى حالة الحرب «غير المعلنة»، فى الوقت الذى أرسل فيه بوتين عددا من الرسائل«المستترة» التى يمكن أن تقلب قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية «رأسا على عقب»!. ولعل ترتيب أولويات الموضوعات التى حددها الرئيس الأمريكى لمناقشتها مع نظيره الروسى يبدأ بإشارة إلى مدى اهتمام ترامب بالعلاقات الثنائية والقضايا الاقتصادية بحكم نشاطه السابق كرجل أعمال، وهو ما يناسب الجانب الروسى إلى حد كبير ولا سيما من منظور ما قاله ترامب حول رغبته فى تحسينها، شأنه فى ذلك شأن توقف الرئيس الأمريكى عند قضايا الاستقرار الاستراتيجى اى قضايا الحد من التسلح. وفى مؤتمرهما الصحفى المشترك أماط كل من الرئيسين اللثام عما يرى انه يمثل الأهم له فى مباحثات هلسنكى التى استغرقت فى مجملها ما يزيد على أربع ساعات. وبدا ما يشبه الاتفاق من جانب الرئيسين تجاه تقدير أهمية ما أسفرت عنه هذه المباحثات من ايجابيات أوجزاها فى إعرابهما عن استعداد بلديهما للتعاون فى مجال مكافحة الإرهاب فى سوريا، والعمل من اجل توفير الظروف الإنسانية الملائمة لعودة اللاجئين السوريين، وهو ما قالا إنه يهم البلدان الأوروبية من منظور الحد من تدفق الهجرة غير المشروعة على أوروبا. وفى هذا الصدد وصف بوتين لقاءه مع ترامب بأنه «لقاء ناجح ومفيد»، و«بداية جيدة» صوب مرحلة من التعاون فى عدد من المجالات، مشيرا إلى مسئولية البلدين تجاه ضرورة الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، بوصفهما اكبر قوتين نوويتين فى العالم تملكان قرابة 90% من قدراته النووية. وقال بوتين انه سلم الجانب الأمريكى «مقترحات محددة» حول التعاون بين الأجهزة الأمنية للبلدين لتنسيق الجهود فى مجال مكافحة الإرهاب, وأضاف انه والرئيس ترامب اتفقا على وجود الأرضية المناسبة للتعاون على ضوء ما تحقق بين العسكريين من البلدين فى سوريا خلال الأعوام القليلة الماضية، وهو ما قالا إنه قد يكون نموذجا لرجال السياسة للاقتداء به. وكشف الرئيسان بوتين وترامب عن اهتمامهما بأمن إسرائيل واتفاقهما حول ضرورة الالتزام باتفاقية فصل القوات الموقعة بين سوريا وإسرائيل فى عام 1974 فى منطقة الجولان، والعمل من أجل تنفيذ القرار 338 الصادر عن مجلس الأمن الدولى فى أكتوبر 1973 ويقضى بضرورة العودة إلى التفاوض من اجل تنفيذ القرار 242 الصادر فى عام 1967. وكشف بوتين عن اقتراح بتشكيل مجلس مشترك لشئون العلاقات الثنائية. وأوضح بوتين أن «الفكرة تتمثل فى تشكيل مجلس خبراء يتكون من باحثين سياسيين وعلماء ودبلوماسيين وعسكريين سابقين بارزين، يتولى البحث عن نقاط تقارب، والتفكير فى كيفية تحقيق «أسس مستقرة وإيجابية للتعاون الثنائي». غير أن ما يقال بشأن التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية، يظل العقبة الرئيسية على طريق التطور الطبيعى لعلاقات البلدين. وكشف ترامب عن أن هذه القضية تمثل للجانب الأمريكى أهمية محورية على ضوء ما اتخذته وتتخذه هيئات التحقيق الأمريكية من قرارات يطالب بعضها بتسليم 12 من ضباط المخابرات العسكرية الروسية لاتهامهم بأنهم كانوا وراء اختفاء 33000 رسالة الكترونية من موقع هيلارى كلينتون تتعلق بالانتخابات الأمريكية. وتساءل ترامب فى هذا الصدد عن المسئول عن اختفاء «السيرفر» الخاص بمكتب التحقيقات الفيدرالى الذى يمكن أن يكون دليلا ماديا على هذه الاتهامات. وفى معرض رده على تساؤلات الجانب الأمريكى عن حقيقة التدخل الروسى «المزعوم» وعن مدى استعداد موسكو لتسليم هؤلاء «المتهمين»، أعلن بوتين عن «المفاجأة» التى يمكن أن تقلب الكثير من جوانب الأمر «رأسا على عقب». لقد أكد بوتين أن بلاده مستعدة لفتح التحقيق مع هؤلاء الضباط فى روسيا، وكشف عن موافقته على دعوة ممثلين عن الجانب الأمريكى لحضور هذه التحقيقات، شريطة موافقة الجانب الأمريكى على فتح التحقيق فيما يتعلق بتهريب مدير شركة «هيرميتيج كابيتال» وليام براودر لما يزيد على المليار ونصف المليار دولار من روسيا الى أمريكا بمعرفة المخابرات الأمريكية، ولم يدفع عنها الضرائب لا فى روسيا ولا فى الولاياتالمتحدة، وتلك جريمة لا تغتفر فى الولاياتالمتحدة. المفاجأة تتمثل أيضا فى أن براودر تبرع من هذه «الأموال الروسية» التى لم يدفع عنها الضرائب، بأربعمائة مليون دولار لدعم الحملة الانتخابية لهيلارى كلينتون. وطالب بوتين بحضور ممثلى النيابة الروسية العامة للتحقيقات التى يمكن ان تجرى فى الولاياتالمتحدة بهذا الشأن. ويقول مراقبون فى موسكو إن تفجير هذه القضية سوف يكون له بالغ التأثير على الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكى فى نوفمبر المقبل، فضلا عن احتمالات ان يكون سببا فى استدعاء هيلارى كلينتون للتحقيق معها فى هذه القضية، وما قد يكشف عن السر وراء اختفاء «سيرفر» مكتب التحقيقات الفيدرالي، واختفاء 33000 رسالة بريدية الكترونية. وبينما أكد ترامب ثقته فى الأجهزة الأمريكية، عاد ثانية ليطالبها بالكشف عن سر اختفاء «السيرفر»، الذى لمح إلى صعوبة احتمال «سرقته» من جانب عناصر روسية! على أن الأهم فى هذا الشأن، وحسب تصريحات بوتين، يتلخص فى ضرورة الاعتراف بأن القول الفصل، والكلمة الأخيرة فى هذا الأمر يجب ان تظل عند القضاء، وليس لدى أجهزة المخابرات. ورغما عن كل ما تناثر من قضايا خلافية فى هذه القمة، فإن ما توصل إليه الرئيسان من اختزال لمساحات الخلاف تجاه بعضها يمكن ان يكون مقدمة مناسبة لحوارات ولقاءات تالية، ولا أحد يمكنه اعتبارها إعلانا عن تراجع المنافسة الجيوسياسية بين البلدين. وكان ترامب أجاب عن سؤال حول ما قاله بشأن ماهية العلاقة مع بوتين، وما إذا كان يمكنه تسميته بالصديق، بقوله إنه يعتبره «منافسا، بالمعنى الايجابى لهذه الكلمة». وكان الرئيس استبق قمة هلسنكى ب»تغريدة» قال فيها إن «علاقات بلاده مع روسيا لم تكن أبدا بمثل هذا السوء» ، وعزا ذلك إلى «سنوات عديدة من الحماقة الأمريكية والغباء، والآن هذه الحملة الظالمة المصطنعة»، فى إشارة إلى ما يقال حول التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية.