اتخذت الأمة البريطانية قرارا تاريخيا بعد الحرب العالمية الثانية بإنشاء خدمة الصحة البريطانية. وكان التوجيه السياسى الذى صكه الاشتراكيون البريطانيون بعد الحرب الثانية وما خبره فقراء بريطانيا من ويلات فى أثنائها هو (أن يتم تقديم الخدمات الصحية دون تبادل للمال). اكتسح الشعب الذى فقد مئات الآلاف من أبنائه فى ويلات الحربين قلاع الحكم وصار أبناء عمال المناجم ومحالج القطن المعدمون ورعاة أغنام اسكتلندا البعيدة ساسة يحددون مصير بريطانيا. كان الخراب والإفلاس يحيط بمدن بريطانيا وطرقها ومنازلها المهدمة، ولكن إجماعا شعبيا غير مسبوق مهد الطريق لتأميم المناجم والمواصلات فلقد كان الإجماع ممهورا بدم فقراء البلاد. وهكذا تم تأميم المناجم والمواصلات. وهكذا أيضا نشأ أعظم نظام طبى فى التاريخ؛ فرغم مشكلاته وصراعاته فإن الوعد قد تحقق. فلقد نشأ نظام يقدم الطب والعلاج ويعنى بصحة الناس بلا تداول للمال. وهذا نظام يختلف عن التأمين الصحى تماما، فبريطانيا لا يوجد بها تأمين صحى. فالمواطن البريطانى يتلقى العلاج دون أن يظهر بطاقة تأمين صحية ولا يتم خصم أى أموال من رصيده التأمينى. هذا المبدأ الإنسانى الفريد تم فى أحد أهم قلاع الرأسمالية فى العالم. وكان فى حد ذاته أكبر إنجاز للفكر الاشتراكى، ففى بريطانيا وإلى جانب الضرائب التصاعدية، تطورت ضريبة أخرى هى (التأمين القومي) العامة على كل العاملين، وتصل قيمتها إلى 13% من الدخل. وهذا الدخل الذى تديره الدولة يستخدم للضمانات الاجتماعية فقط، ولا علاقة له بالتزامات الدولة الأخرى كبناء المدارس أو الشرطة والدفاع وشق الطرق وغيره. وهكذا صارت الدولة المسئولة عن تقديم الخدمة لكل الناس. نشأت المعادلة البسيطة فى الأربعينيات، فالدولة جابية الضرائب والتأمينات، والدولة ترتب كل شئون الصحة والطب للناس بالمجان عند أى تبادل للخدمة. وهكذا صار الطب مجانيا و(بلا تبادل للمال) على أى مستوى. وهكذا ففى بريطانيا لا توجد كروت تأمين صحى أو حسابات شخصية تأمينية أو حتى مجرد التفكير فى التكاليف. وظهر فى المجتمع (ضمير جمعى للأطباء والممرضات) يرفض التهاون فى خدمة الفقير والضعيف ويعده عارا. وصار المجتمع يتتبع أخبار الصحة وخدماتها وما يصاحبها من قصور حتمى، فتتصدر عناوين الإعلام كأخبار تثير اهتمام الملايين. وصارت المهارات المهنية تنتقل تدريجيا من الأطباء للممرضات وهكذا تحققت نبوءات فلاسفة الاشتراكية عن حتمية (اختفاء الفروق بين العمل الذهنى والعمل اليدوي). وظهرت فى بريطانيا إرادة سياسية وإدارة مهنية عليا تتمحور نحو الهدف، ففتحت الأبواب للأطباء من مختلف أنحاء العالم. فلا عائق أمام تحقيق الهدف وهو رفع صحة الشعب كما وصف فى التوجيه الاستراتيجى لإنشاء الصحة البريطانية. نشأ كذلك علم طبى متجرد من المصالح والمال مبنى على (الإثبات والتجرد). تحورت معه قيم الطب والصحة فى حضرة قدس الأقداس، وهو جسد الإنسان ذاته وروحه مهما يكن ضعفه وفقره. صارت الصحة البريطانية أعظم مستهلك للعقاقير والأدوات الجراحية بميزانيات تصل للبلايين فتستطيع أن تفرض إراداتها سعرا وجودة، وتبتاع تضافر (الأرخص والأفضل) للناس. وظهرت كذلك بها مؤسسات مهمومة بالبحث عن الكفاءة والجودة الحقيقية للتدخلات الطبية من عمليات حديثة أو عقاقير تفرق فيها بين الغث والسمين؛ فالدولة هى من تقدم الخدمة بالمجان. وفى اقتصاد من أغنى اقتصاديات العالم لا يحصل القطاع الخاص إلا على الفتات. ولهذا فالحرب شرسة تستخدم فيها شعارات وقصص وشكاوى المرضى عن قوائم الانتظار لرؤية الأخصائيين أو المضاعفات الخ. ولكن النساء والرجال من جميع فئات المجتمع البريطانى من الأغنياء للفقراء يدافعون بشراسة عن الصحة البريطانية بتعصب شبه دينى، فلا يوجد من لم تعالجه الصحة البريطانية أب أو أم ولا يوجد من لم يولد فى عنابر مستشفياتها أو يتلقى صديق له العلاج الكيماوى أو التشخيص بالموجات والرنين بالمجان تماماً على الأراضى البريطانية. نتسمع دوما عن أن قرارا مصيريا مصريا بإنشاء التأمين الصحى على وشك الحدوث. وهذا القرار سيصاحب بهيئات مالية وبكروت تأمينة بالطبع، وهى هم جديد على عاتق الفقير. ولنتذكر أن جوهر الأمر فى غرب أوروبا كان فى الحقيقة أن تشمل مظلة الصحة الفقراء كلهم بأشكال مختلفة. فالكارت التأمينى الفرنسى قد يختلف فى بعض تفاصيله عن ذاك الألمانى، ولكن الحقيقة أن الشعب وفقراءه كان هو الهدف. ولكن الأمر فى العالم الثالث يختلف فإن (روشتة التأمين الصحى المعتادة) تصل بالمجتمعات فى النهاية إلى خلق (سوق) للصحة. فالمواطن المصرى سيشترك فى نظام التأمين وسيسهم بقدر ما من دخله فى الحصول على قدر ما من التأمين وقد يحصل على هذا التأمين من شركات خاصة ستضمن بقدر ما علاجه (على قد فلوسه). أما من لا يعملون أو من لا يستطيعون فسوف تسهم الدولة فى ابتياع العلاج لهم من جهة ما قد تكون مستشفى أو مستوصفا أو ما شابه. وهنا بيت القصيد وهو أن الدولة والمواطنين معا سيدفعون مبالغ ليست بالبسيطة فى صندوق أو صناديق أو شركات التأمين الصحى وما سيصاحبها من احتكارات. وهنا تكمن قضايا عدة تبدأ بتحديد أسعار الخدمات الطبية من خلع الأسنان وللولادات وللعمليات.. الخ.. وبالطبع ستتناقض المصالح.. ولاشك أن مثلا أن هناك من يتاجرون بعقاقير وهمية لا تفيد المرضى، وأن هناك أطباء كذابين مخادعين يهمهم تحقيق الأرباح من تركيب دعامة للقلب تحت دعوى أنها لن تضر. أما المريض الذى أصابه ضيق التنفس من سبب بسيط فهو عاجز عن التفرقة بين الأسباب والعلاجات وسينحاز لتفسيرات الطبيب الكاهن. تحتفل الصحة البريطانية بمرور 70 عاما على إنشائها بتوجه سياسى استعصى على الالتفاف حوله واستدعى تحول الدولة ممثل الشعب إلى (مدير شاطر)، وهذا ممكن ووارد، وغير هذا أكاذيب. فتجربة بريطانيا تجربة واقعية ورائدة، وتثبت أن قوانين التأمين أو التأمين الصحى ليست هى الطريق الوحيد. لمزيد من مقالات ◀ د. حازم الرفاعى