مما هو متداول ويبدو بديهياً أن العلاج، وما يحيط به من تحاليل وفحوصات، مكلف للغاية. وأن هذا هو سبب ارتفاع أسعار الخدمات الطبية فى مصر وربما حول العالم. لكن تلك البديهية المتداولة تتناقض مع حقائق عالم المال ومنها أن معظم شركات الاستثمار تحث المستثمرين على الاستثمار فى مؤسسات الصحة كمؤسسات مضمونة الربح وبالذات فى أوقات الأزمات المالية؛ فمهما قلص الناس من إنفاقهم فإن الإنفاق على الصحة وعلى الأمراض اضطرارا لا يمكن تجاوزه فى أى مكان. وتشير الأرقام إلى الأرباح الطائلة فى العملية الطبية، ففى الأعوام الماضية وكمثال طرح احد المستشفيات فى مدينة القاهرة نفسه فى البورصة المصرية. والمؤسسات لا تطرح نفسها فى البورصة إلا إذا كانت قد حققت أرباحا معتبرة ثلاث سنوات متوالية بحيث تنعكس أرباحها على قيمتها المطروحة للعرض. وهكذا فلقد تنافس المستثمرون على طرح أحد مستشفيات القاهرة بمبلغ يقترب من المليار جنيه وكان وجود وحدة للعناية المركزة أحد العوامل الجذابة والضامنة لربحية ذلك المستشفي. فمصر تشهد نقصاً حاداً فى أسرة العناية المركزة، وفى الأطباء والممرضات القادرين على القيام بتلك المهمة. وبلغت فواتير العلاج فى تلك المستشفيات أرقاما طائلة فلكية؛ فالمريض الذى يحتاج علاجاً فى وحدات الرعاية المركزية فى بعض الأماكن يدفع ما يتجاوز ال 5000 جنيه فى الليلة الواحدة. وصار من المعتاد أن تتداول صفحات التواصل الاجتماعى قصصاً عن مرضى بلغت فواتير علاجهم فى الأيام الأخيرة من حياتهم مئات الآلاف من الجنيهات. تقدم تلك الفواتير للمرضى وهم يصارعون أحزانا غير عادية، وهم أيضا غير مدركين أن هامش الربح الضخم هو أهم معايير الإدارة الناجحة فى تلك الأماكن وليست العملية الطبية أو فعاليتها. آما إذا اقترب المرء من معامل الأشعة أو التحاليل الطبية، فالأمر لا يختلف كثيراً. ففى الأعوام الأخيرة صارت المؤسسات الطبية المصرية هدفاً للمصارف ولصناديق الاستثمار الخليجية.. ليس لكفاءتها أو لتميزها الطبى إنما لأنها مضمونة الربح. فمصر ذات ال 90 مليون نسمة بها (ندرة فى المؤسسات الطبية)! وتعبير «مؤسسة» هنا لا يعنى المهنية أو الكفاءة إنما نعنى به كياناً صالحاً للتداول الرأسمالى شراء وبيعاً. فعيادات الأطباء المعتمدة على الطبيب لا تصلح للتبادل المالى مهما بلغت ربحيتها إلا فى إطار يتجاوز النجومية الفردية. ولهذا وكمثال فقد استحوذت مؤسسة خليجية على شبكة من المعامل للتحاليل بسعر 4٫1 مليار جنيه. فتلك المعامل تحقق أرباحاً خيالية فسعر التجارب البسيطة كتحليل الدم أو فصيلته أو وظائف الكبد والأملاح.. الخ. زهيد جدا بينما يطرح على الجمهور بأسعار مبالغ فيها بحجة استيراد بعض المكونات الكيمائية البسيطة التى تغطى مئات التجارب بالعملة الصعبة. فى مصر (وأشباهها من دول العالم) يقتصر دور الدولة ومؤسسات الصحة العامة وشبه المجانية على التعامل مع الطوارئ فقط، أو تقديم النزر اليسير عند الضرورة. فهم كرجال المطافئ يتعاملون مع حريق يشب فجأة ودون إنذار. المستشفيات العامة فى مصر وبلاد العالم الفقيرة أماكن لا يذهب إليها الناس إلا إذا انعدمت كل الدروب الأخرى. فأغلب المستشفيات أماكن شديدة الازدحام سيئة التهوية ضعيفة الإضاءة تسبح فى بحر من الضجيج والرطوبة فى بلادنا الحارة. يذهب الناس إليها مضطرين. فى تلك الأماكن يلتقى المريض أيضاً بصغار الأطباء وأقلهم خبرة وأكثرهم غطرسة يمارسون ما يتصورونه علاجاً دون إشراف حقيقى مباشر من كبار الأطباء. فالخبراء من الأطباء تجاوزوا فى نظر أنفسهم مراحل العمل المجانى إلا الذين يتمسكون بأهداب ورع يدعى التقوى حيث يضم خدماته الصحية للمرضى الفقراء لبند (الصدقة). حقيقة الأمر أن عامل الندرة هو ما يخلق ثروات هؤلاء الأطباء والجراحين وتتكرر أسطورة الندرة الطبية فى مصر وحول العالم، فمن عيادات أطفال الأنابيب إلى جراحة المناظير أو غيرها تتراكم الأموال تلالاً عند البعض لقاء خدمات وعلم هو فى أساسه عادى أو اعتيادي؛ ويستطيع كل إنسان أو طبيب الحصول عليه إن أتيحت له فرصة التمرين. وتحكم الندرة فى السوق هو مبدأ مفهوم ومعروف.. فكل ما هو نادر آو ابتكار اليوم لا قيمة له ما لم يستطع الناس العاديون القيام به. والأمثلة عديدة فاكتشاف الموجات فوق الصوتية التى كانت حكراً على أطباء قلائل صارت اليوم تقنية وخدمة يقدمها عشرات الآلاف من غير الأطباء كالممرضات. فهناك حول العالم حكومات ودول صممت أن تتجاوز الخدمات الطبية عامل الندرة هذا. فالهدف ليس الدفاع عن مصالح الطبيب إنما تقديم الخدمة الطبية الجيدة لأكبر قدر من الناس بأقل تكلفة وهذا ما حققته دول مثل كوبا وبريطانيا وغيرهما. وهذا التوجه لا يتحقق إلا بوضوح شديد للرؤية أن الصحة والعلاج أهم وأخطر من أن تترك لآليات السوق، وان دخول الدولة مضمار الصحة ضرورة ليس فقط للملايين من الفقراء بل أيضا للطبقة الوسطى التى لا تجد بديلاً إلا أسعاراً خزعبلية نتجت من احتكارات القطاع الخاص فى الطب بشقيه الفردى السلعى البسيط أو الاحتكارى العابر للحدود. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;