تكهنات كثيرة تجتاح الساحة الدولية حول ما ستناقشه قمة هلسنكى لكن المرجح وطبقا للعديد من المرجعيات الاستراتيجية أن تكون صفقة القرن هى القضية المتصدرة باعتبارها قضية الرهانات التاريخية التى طال أمد تسويتها، وباعتبارها القضية التى دأبت عليها الادارة الأمريكية وفعلت طاقاتها أحقابا من أجل بلوغ مخططاتها المطيحة بمصائر الشعوب، كما تأتى تلك القضية كمحاولة لاستقطاب القوة المناوئة بالاغراءات الضامنة لتصبح قوة مهادنة، من ثم يمكن مستقبلا تمرير القضايا الخلافية، ولما كانت القوى الكبرى دائما ما تعتمد فى سياستها على المبدأ الاستراتيجى القائل بتقوية الذات، وإضعاف الآخر فإن دول الأضلاع فى النادى النووى لن تحيد عن منطق الجبروت السياسى والمنافسة على إبادة الجنس البشرى وطمس الهوية الإنسانية وسحق القيم التى استأثر بها سكان الكوكب الأرضى دون غيرهم، وكذلك لن تتزحزح عن التشدق بمدارج الإيمان المطلق بمعانى القوة والاستعلاء، تلك التى لا تترك أدنى مساحة لأن تتبوأ مكانها فضائل أخرى كالعدالة والمساواة والإخاء بين الأسرة الكونية. ولقد أتى تقرير إستكهولم الذى يصدره معهد إستكهولم الدولى لبحوث السلام ترجمة فعلية مباشرة لبعض من ذلك، إذ أكد فى سردياته وإحصاءاته معادلات مذهلة لها كل الخطر على الأمن الكونى ذلك بجانب تلك المخاطر الكلاسيكية الثابتة، فقد أشار فى جملته إلى تراجع ملحوظ فى تعداد الرءوس الحربية النووية هذا العام عن سابقه، ذلك انطلاقا من معاهدة ستارت المبرمة بين الولاياتالمتحدة وروسيا، والتى تقضى بخفض طاقات الترسانات النووية التى يتجاوز حجمها نحو تسعين بالمائة من الثروة النووية العالمية، أما الباقية الهزيلة فقد توزعت بين انجلترا وفرنسا والصين والهند وباكستان واسرائيل وكوريا الشمالية، لكن التناقض الجذرى سياسيا واستراتيجيا يظل يكمن فى مدى التطور التقنى الصارخ لمستويات تلك الترسانات، ودعمها فنيا بإجراء اختبارات متوالية على كافة مفرداتها، وعلى ذلك فالقضية لا تنحصر فى التحجيم النسبى لتلك الترسانات وإنما يقابلها البعد الأفظع، وهو ايجاد منظومة للتطوير والاستحداث، من ثم ما هى قيمة المعاهدة التى أطلقت العنان لانتشار بؤر الخطر الأكبر إذ لم يظل التنافس على الاستكثار بل على طبيعة الكيفية الأداتية لهذه الترسانات والتى صارت العلاقة فيها بين الموجود النووى وتصعيد امكاناته علاقة عكسية بحيث يظل هذا الموجود ثابتا بينما يتغير فى دينامياته تغيرا حادا. وعلى ذلك الى أى مدى ستظل قضية تطوير الترسانات النووية هى القضية المحورية لدى الكيانات الكبرى دون ان تنافسها قضية أخرى؟ وهل بات التصارع المحموم هو قضية العالم المعاصر فى تلك اللحظة الآنية؟ وكيف ارتبطت قياسات التفوق الحضارى بسرعة تعجيل إبادة الجنس البشرى؟ وكيف تستقيم الرؤية الاستراتيجية بين كيانات تحتكر وتفرط فى امتلاك الطاقة النووية واستخداماتها، وبين كيانات تعانى الحرمان والقحط النووى وقبله القحط المعيشى غذاء وكساء ودواء؟ ... ألم تكن فكرة ترييف العالم وجعله سلة غذاء ومخزنا للمواد الخام ومخزونا استراتيجيا للمصانع الأمريكية هى الفكرة المسيطرة على العقل السياسى الأمريكى؟ ألم يقم بتفعيلها بريجينسكى مع تلميذه برينان بالشراكة مع أوباما؟ ألم يكن مشروع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى الذى أنتجته صفوة الرموز الاستراتيجية هو المشروع الذى يستهدف التفكيك المنضبط لاقتصاديات العالم بإشاعة الفوضى الاجتماعية وتوظيفها وإشعال الحروب الأهلية فى محيط الدولة الواحدة من خلال اشاعة الفتن الدينية والعرقية والحدودية؟ إن تقرير إستكهولم لم يكشف غامضا أو مغمورا، وإنما قد جاء ليشرح معلوما مقدمته أن الأقوياء دائما ما يبحثون عن المزيد من القوة، ويسعون نحو التفرد الطائش السامح لهم باحتقار الآخر، وان الضعفاء والمستضعفين لابد أن يدركوا أنه أحيانا ما تكون خطورة اللافعل أسوأ كثيرا من خطورة الفعل نفسه، وان استحواذ هالات الخوف لن تحررنا من سطوة الأشباح وان شرود الوعى أو غياب نسق معرفى سيظل يمثل الخطر الفعلى الماحق للوجود وليس غيره. لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو العلا