يتعرض قانون تنظيم الصحافة والإعلام الذى راجعه مجلس الدولة تمهيدا لإقراره نهائيا من مجلس النواب قريبا لهجمة من قبل بعض الصحفيين، وهى الهجمة التى يراها آخرون أنها محاولة متأخرة لعرقلة إصدار قانون استغرق ثلاث سنوات. وبداية فإن الاختلاف حول أى قانون لم يقر بعد يعد ظاهرة صحية طالما كان الهدف تحصين القانون وإخراجه بالشكل الأمثل. بيد أن السؤال الحاكم هنا هو ما الهدف الحقيقى لمهاجمة القانون فى تلك المرحلة المتأخرة؟ هل هو الدفاع عن المهنة وحريات الصحفيين على نحو ما كان عليه الحال إبان القانون 93 لسنة 1995 الذى توحد كل الصحفيين بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية ضده ونجحوا فى إسقاطه؟ إن إلقاء نظرة على معظم الأقلام التى تكتب مهاجمة للقانون يشير بوضوح إلى ابتعاد الموضوع عن قضية حرية الصحافة وتحويل الموقف برمته إلى ورقة لمناكفة الدولة. فتلك الأقلام هى ذاتها التى دفعها موقفها السياسى والأيديولوجى إلى تبنى مواقف معارضة للدولة مستغلة الصحافة ونقابتها. الموقف من تدخل الشرطة للقبض على متهمين تحصنوا بالنقابة قبل نحو عامين والموقف من قضية جزيرتى تيران وصنافير دليل واضح على ذلك. تصور أن السلطة الحالية والمؤسسات التى أناط بها الدستور إدارة المشهدين الإعلامى والصحفى ومنحها الاستقلالية الكاملة على أنهم متربصون بالضرورة بالصحافة هو أحد الدوافع الرئيسية للحملة ضد القانون. فالقانون شأنه شأن قانون عمل بشرى يعتريه النقصان، ويعكس قدرة أصحاب الشأن على الدفاع عن وجهة نظرهم وإقناع مجلس النواب بها لتضمينها فى القانون الذى يخرج فى النهاية معبرا عن إدراك وقناعة المشرعين (أعضاء مجلس النواب) وليس عن الفئة المخاطبة بالقانون، وإلا لترك إعداد كل القوانين وإصدارها للفئات المخاطبة بها! صحيح أن القانون يحتوى على مواد كانت تتطلب المزيد من الحوار والتفاوض وربما الرفض، فالقانون بكل مواده لا يلبى بالتأكيد كل طموحات الجماعة الصحفية، ولكن إدارة الملف من قبل المعترضين سدت الطريق أمام الأخذ بكل وجهات نظرهم التى استهدفت بكل تأكيد تحصيل أكبر مكاسب للصحفيين على المستويين المهنى والشخصي. ولكن من المهم تذكر أن الانتفاضة ضد القانون 93 كانت مرتكزة على أنه يمثل انتكاسة لحرية الصحافة ولم تدر المعركة بتلك الطريقة التى يتبناها البعض حاليا. فهل يمثل القانون الجديد انتكاسة مقارنة بالقانون 96 لسنة 1996 المعمول به حاليا؟ ذلك هو السؤال الذى يجب أن تكون الإجابة عنه هى المنطلق الأساسى للتقييم أو حتى الدفاع عن القانون أو الهجوم عليه. وهنا فإن جل الاعتراضات الواردة على القانون الجديد لم ترتق بعد لتوصف بأنها انتكاسة مقارنة بالقانون 96. الاعتراضات تستهدف بالأساس الاقتراب بالقانون من تحقيق كل طموحات الصحفيين، ولكنها أيضا تتركز فى الجوانب أو المواد المتعلقة بأوضاع الصحفيين إداريا وماليا، وأوضاعهم داخل المؤسسات الصحفية، سواء فى مجالس الإدارة أو الجمعيات العمومية، وتلك المواد يوجد بشأنها الكثير من وجهات النظر التى لا تخلو من منطقية، وكان من الممكن معالجتها بتغليب نسبة الموجودين فيهما من داخل المؤسسة ليكون لهم القرار النهائى كما كان الحال فى القانون 96. فعلى سبيل المثال المطالبة بأن يكون المد للصحفيين بعد سن المعاش إلزاميا لا يوجد توافق بشأنها، فهناك من يرى أنها ضرورية للاستفادة من الخبرات، وهناك من يرى أنها افتئات على فرص وحقوق الأجيال الشابة، كما أن ذلك المد تحول فى المؤسسات القومية حاليا إلى عبء مالى على تلك المؤسسات إذ تحول من المد للكفاءات المطلوبة إلى مد يشمل كل من يصل لسن المعاش لأسباب شخصية فى الأساس، وصل فى حالات كثيرة للإبقاء عليهم فى مواقعهم الإدارية. إذن المطلوب تفكير آخر فى كيفية الاستفادة من الخبرات الصحفية التى تصل لسن المعاش وبما لا يخل بحق الأجيال الشابة وبما لا يمثل إرهاقا لموازنات تلك المؤسسات المأزومة بطبيعة الحال. ولابد من الإشارة هنا إلى أن معاش الصحفيين المتواضع بل والمهين والمطالبة بتعديله كان الأولى بالتركيز، ولكنه تاه أو كاد وسط الضوضاء ضد القانون! أما المادة مثار الخلاف فيما يتعلق بحريات الصحفيين وهى المادة 29 من القانون التى تقر بعدم جواز الحبس الاحتياطى للصحفيين فى جرائم النشر والعلانية، وهو ما كان يمثل أحد أهم مطالب الصحفيين باستثناء جرائم التحريض على العنف، أو التمييز بين المواطنين، أو الطعن فى أعراض الأفراد، فإن ذلك لا يتعارض مع الدستور كونه استثنى تلك الجرائم من حظر الحبس الاحتياطى للصحفيين بإحالة تقرير العقوبات بشأنها إلى القانون. إذ تنص المادة 71 من الدستور على أنه ( لا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بطريق النشر أو العلانية، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن فى أعراض الأفراد، فيحدد عقوباتها القانون). وأيا ما كانت وجهات النظر الأخرى بشأن تفسير المادة الدستورية ومدى تطابق القانون معها فإن الفصل فى مدى دستورية القانون مسئولية المحكمة الدستورية العليا دون غيرها. كما أنه يصعب تصور أن يرفض البعض توقيع عقوبات حتى لو كانت مغلظة على من يرتكب جرائم تتعلق بالتحريض على العنف والتمييز والطعن فى أعراض الأفراد. فمثل تلك الجرائم لا تمت بصلة بالعمل الصحفى الحقيقى الذى تصبو إليه الجماعة الصحفية. باختصار، فإن الجماعة الصحفية أمام قانون إيجابياته أكثر من سلبياته، بل إن أغلب تلك السلبيات لا يمس طبيعة المهنة مباشرة. وتبقى المشكلة الأساسية فى استغلال البعض اعتراضه على القانون لتحقيق مكاسب سياسية أو انتخابية. وكما جرت العادة فإن هؤلاء جاهزون دائما لاستخدام موقفهم من القانون لتحقيق تلك المكاسب، بل إنهم سيستخدمون فشلهم فى إدخال التعديلات التى قالوا بها مدعين أنهم حاربوا من أجل حريات وحقوق الصحفيين، ولكن الدولة هى التى حالت بينهم وبين إنجاز تلك المهمة! إنها الضوضاء التى إن لم تنفع الأن فإنهم سيحولونها فى الغد القريب إلى سيمفونية فى حب المهنة ودغدغة مشاعر المشتغلين بها أملا فى الحصول على أعلى نسبة من الأصوات التى تهوى مثل تلك السيمفونيات. لمزيد من مقالات ◀ د. صبحى عسيلة