لدينا ميزة في السير البطىء لترام الرمل الذي اصابته الشيخوخة، وتحول إلي علب سردين، أن كان ذات يوم وسيلة راقية ليس فقط لنقل الركاب، بل أيضا للتنزه والمتعة، وهذه الميزة أنه يدفع الركاب إلي تجاذب أطراف الحديث لقطع الوقت في أمر ما، الأمر الذي فتح باب الحديث هذه المرة أنه كانت هناك أربعة مقاعد متواجهة يجلس في ثلاثة منها فتاتان محجبتان وشاب، وفي المقعد الرابع يجلس رجل مسن أنيق، وفي مواجهة الأربعة كان رجل يقف مستندا إلي عصاه، وسار الترام متهاديا، والرجل «الهرم» متحامل علي عصاه دون أن يتحرك أحد من الشباب ليعرض عليه الجلوس بديلا عنه، مما دفع الرجل المسن لأن يقف ويصبر علي أن يجلس مكانه دون أن يستفز ذلك حمية الشاب والفتاتين، وهنا جاء صوت أحد الركاب مجاملا المسن: «معلش يا أستاذ احنا في زمن انعدم فيه الإحساس والأدب والأمانة والنظافة».. لقد وضع الرئيس عبد الفتاح السيسي يده علي موضع الداء، وهو «الخلل الإنساني»، وبالتالي يمكن التوصل إلي الدواء، حيث قال إن بناء الإنسان سيكون من أولويات مدة الرئاسة الجديدة، في بناء الإنسان علي التعليم والصحة، التي يجب أن يقوم علي القيم والأخلاق، فما أغناني عن طبيب يركز تفوقه وجهده في امتصاص عيادته ومستشفاه الخاص المريض لآخر مليم في جيبه، وما أغناني عن مدرس شهير يهمل واجبه في مدرسته ليجبر تلاميذه علي الالتحاق ب «السنتر» الخاص به، ولماذا يترك هؤلاء البشر بلا حساب ولا عقاب. وقد اشار كثير من رواد «بريد الأهرام» إلي تدني الاخلاقيات ومظهرية التدين دون العمل بجوهره، ومنهم من نادي بانتفاضة اجتماعية في الجامعات والمدارس والكنائس والمساجد لبحث أسباب هذا التراجع ووضع ميثاق للقيم، والأخلاق للعودة إلي الأصالة المصرية، ولدي سؤال ملح عن سلبية المشاركة المجتمعية حيال ذلك، فلدينا أكثر من 100حزب سياسي لم نسمع عن قيام أحدها بافتتاح فصول لمحو أمية الكبار، وتثقيفهم، ومن خلالها تتم التوعية بتنظيم النسل، وبث القيم والأخلاق، وفي جانب آخر شركات الاتصالات التي أنفقت ملايين الجنيهات علي الفنانين للدعاية دون أن تعي أن أقوي دعاية لها هي خفض قيمة تعريفة المكالمات مع جودة الخدمة، وهناك مجال أخر قوي للدعاية بالمشاركة المجتمعية بافتتاح فصول تحمل أسماءهم لمحو أمية الكبار وتثقيفهم. لقد سن الرئيس سننا حسنة لا يحذو حذوها الكثيرون من الكبار، عندما تنازل عن جزء كبير من راتبه للدولة، وفي ذهابه بالساعات الأولي من الصباح إلي مواقع العمل دون سابق إنذار ليري الامور علي حقيقتها، وأيضا في دعمه جهاز الرقابة الإدارية للقضاء علي الفساد مهما يكن موقع الفاسد، ولست أدري كيف يقبل مواطن أن يضن بأن يكون شريفا أو مخلصا في تأدية وظيفته التي من المفترض أنه التحق بها لخدمة مواطنيه، في الوقت الذي يشاهد فيه شبابا يجودون بأرواحهم ودمائهم حماية للوطن وللمواطنين، ويضيف الراكب: «قبل أن أترككم في المحطة المقبلة أحكي عن حالة تكسف ضمن أحوالنا المستجدة، في شارع المعسكر الروماني برشدي، حيث توجد مدرسة راهبات القلب المقدس، وقد لاحظت الراهبات إلقاء القمامة فوق رصيف المدرسة فزرعن اشجارا علي الرصيف ثم قمن ببناء حوض بالطوب الملون يعلوه سور معدني قصير علي ناصية سور المدرسة مع شارع «الفريدليان» ثم زرعه بالأزهار ونباتات الزينة فماذا حدث؟ إنهم يلقون القمامة و «كانزات» المشروبات داخل الحوض، وقد تهدم جزء من الحوض، ولا أدري كيف، ورغم كل هذا لم تتحرك المحافظة بوضع، ولو صندوق قمامة واحد في الشارع، وبالمناسبة فإن ساعة الزهور الشهيرة بشرقي معطلة منذ أكثر من عشرين عاما والسلام عليكم أنا نازل»!. ويلتقط الحديث راكب آخر قائلا: مازلت أتذكر أنني منذ كنت طفلا في عهد المحافظ حمدي عاشور عندما كنا نستيقظ في الصباح نستنشق رائحة الشوارع مغسولة بالماء والمطهرات ذات الرائحة، الرائحة الذكية، وكانت الخضرة منتشرة في كل مكان، ويحكي والدي عن محل حلويات شهير بمحطة الرمل كان الرواد حتي بدايات الستينيات يترددون عليه بطريقة «اخدم نفسك»، وكان كل منهم يأكل ما يريد من قطع الجاتوه، ثم يتجه إلي الخزينة ليدفع الثمن وفقا لما تناوله، بأمانته، بل ويذكر لي والدي، وهو من أسوان أن التجار هناك كانوا يذهبون إلي صلاة الجمعة تاركين متاجرهم مفتوحة، ولم يقع حادث سرقة واحد، فما الذي تغير فينا؟.. ويأتي صوت راكب ثالث قائلا: «أهملنا التربية سواء في المنزل نتيجة انغماس الوالدين في مواجهة أعباء المعيشة بعد موجات الغلاء المتتالية» والأخطر أن القيم غابت عن المدارس... هل يتذكر أحد منا بيت الشعر: «قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا». لقد انقلبت المعايير ومنها ما نشر عن قيام تلميذ بمدرسة منوف الزراعية بصفع وكيل المدرسة علي وجهه، ومشاجرة بين أستاذ ورئيس قسم بجامعة سوهاج أسفرت عن إصابات وتحرير محضر بقسم سوهاج!!.. ورئيس قسم بكلية حقوق يشكو عميد الكلية التي يتخرج منها وكلاء النيابة والقضاة لأنه يهدده إذا لم يعطه أسئلة الامتحانات!! ثم لماذا تصمت غالبية مجلس النواب، وهم الأمناء علي مصالحنا عن أخطاء قلة منهم مثل الذين تاجروا بتأشيرات الحج، ومن يجمعون بين ما يحصلون عليه من المجلس، وما يتقاضونه من الوظائف التي كانوا يشغلونها قبل عضويتهم بالمجلس، والتي يعدون في إجازة دون راتب منها!! وأري أن بناء الإنسان يجب أن يسانده امران فيهما تفعيل قانون التعليم الإلزامي ويلحق به خيرة المدرسين، وأفضل مناهج التربية والتعليم، فالتعليم في الصغر كالنقش علي الحجر. وأيضا قانون لتحديد النسل يعاقب، كل من ينجب أطفالا بعد الطفل الثاني بالقيام بخدمة عامة لمدة عام عن كل طفل، حتي لا نتحول إلي علب سردين. لواء محمد مطر عبد الخالق مدير أمن شمال سيناء سابقا