إنه شاعر متفرد لا يوجد شاعر يحمل اسمه فى تاريخ الشعر العربى، فقد تفرد باسمه كعلامة مميزة فلا «أمل» سواه ولا«دنقل» غيره..هكذا كان الاسم غريبا ...وكان شعره فريدا، ففى حين تأثر أترابه من الشعراء الذين ينتمون إلى جيل الخمسينيات والستينيات بالإرث اليونانى من مثيولوجيا فاستوحوا أشعارهم من الأساطير اليونانية التى هى لب الثقافة الغربية الأوروبية ،اتجه شاعرنا العروبى أمل دنقل إلى استلهام التراث العربى وبعث رموزه والإحالة إلى شخصياته الموحية والإشارة إلى حكاياته القديمة التى تكاد تكون أساطير عربية على غرار الأساطير الإغريقية، فنجد عنده زرقاء اليمامة بنظرتها الثاقبة المخترقة للمكان، وعنده أيضا يحيا عنترة بن شداد بقوته وفتوته. ولد شاعرنا فى أسرة صعيدية فى يوم 23 يونيو عام 1940 بقرية القلعة، مركز قفط بمحافظة قنا فى صعيد مصر، سمى أمل دنقل بهذا الاسم؛ لأنه ولد بالسنة نفسها التى حصل فيها والده على إجازة العالمية «الدكتوراه»، فسماه باسم «أمل» تيمنا بالنجاح الذى حققه، واسم أمل شائع بالنسبة للبنات فى مصر. وشكلت نشأته كصعيدى شخصيته سواء على المستوى الإنسانى أو على المستوى الشعرى، لذا كانت قصيدته «الجنوبى» انعكاسا لنشأته.وقد كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف مما أثر فى شخصيته وقصائده بشكل واضح، فقد ورث أمل دنقل عن والده موهبة الشعر، وكان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربى مما أثرى كثيرا أمل دنقل وأسهم فى تكوين اللبنة الأولى لهذا الشاعر. وبدأت مسيرة الأحزان مبكرا عندما فقد أمل والده وهو فى العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيراً واكسبه مسحة من الحزن تجدها فى كل أشعاره، فقد كان شعره عصارة من المرارة والحزن والألم، بسبب ما مر به هو وجيله من انتكاسات وهزائم عصفت به ،واكسبت شعره نغمة الشجن والتمرد. فقد نشا أمل على هزيج إعلامى قوى يروج لأحلام دولة عظمى، فعاش وجيله فى الوهم الجميل راسمين أحلاما وردية ، وغازلين أملا فى غد ذهبى لمصر تهيمن فيه على العالم وتصبح هى الآمر الناهى، ولا يملك أحد سوى الرضوخ لإرادتها،والانصياع لمشيئتها، وياله من حلم جميل يداعب الشباب والرجال فى هذه الحقبة الستينية، وفى سبيل تحقيق هذا الأمل والحلم كان لا بد من التضحية وتحمل المشاق ، فصبروا على فرض الصمت وعدم الخروج على الصف والخط المرسوم ،وتحمل المعاناة والفقر والجوع فى سبيل الخير القادم بلا حساب والمجد الذى يكاد يصبح فى متناول أيديهم. وإذا بهم فى غمرة ذلك يستيقظون على زلزال أو بركان أو إعصار يطيح بكل هذه الأحلام، ويبدد كل هذه الأوهام، فالنكسة الكبرى هوت بكل الطموحات، وإذا بالأرض الحرة محتلة، وإذا بالشعوب العربية العزيزة تعيش فى مذلة، وإذا بأشلاء الجنود وصور الأسرى تلاحق الأعين وتطارد الخيال، مهما حاول الهروب والنسيان، فما كان من شاعرنا إلا أن ينفجر فى وجه من خدعوه، وسلبوا منه حريته وراحته وباعوا له الوهم الكاذب، ولكن لم يكن فى مقدوره وفقا لظروف عصره أن يخاطبهم مباشرة فاستدعى زرقاء اليمامة تلك المرأة العربية صاحبة النظرة الثاقبة والتى حولها إلى رمز لاستشراف المستقبل ليبثها همه فى قصيدة البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»فقال لها : أيتها العرافة المقدَّسةْ .. جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ. أسأل يا زرقاءْ .. عن ساعدى المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة عن صور الأطفال فى الخوذات.. ملقاةً على الصحراء عن جاريَ الذى يَهُمُّ بارتشاف الماء.. فيثقب الرصاصُ رأسَه .. فى لحظة الملامسة ! عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !! ويتساءل الشاعر بمرارة عن حالة الهزيمة والخزى التى يشعر بها وكيف يتصرف حيالها فيقول : كيف حملتُ العار ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسى ؟ ! دون أن أنهار ؟ ! ودون أن يسقط لحمى .. من غبار التربة المدنسة ؟ ! تكلمى .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ تكلمى ... لشدَّ ما أنا مُهان ويستدعى الشاعر سيرة عنترة لتعبر عن حالة التهميش التى عاشها وجيله قبل النكسة ثم استدعاؤهم فجأة ليكونوا فى الصفوف الأولى دون إعداد فيقول: لا تسكتى .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً .. لكى أنال فضلة الأمانْ قيل ليَ «اخرسْ ..» فخرستُ .. وعميت ظللتُ فى عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان أجتزُّ صوفَها .. أردُّ نوقها .. أنام فى حظائر النسيان طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة . وها أنا فى ساعة الطعانْ ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ دُعيت للميدان ! أنا الذى ما ذقتُ لحمَ الضأن .. أنا الذى لا حولَ لى أو شأن .. أنا الذى أقصيت عن مجالس الفتيان ، أدعى إلى الموت .. ولم أدع الى المجالسة !! ويعبر الشاعر عن حالة التشكك التى كان يعيشها قبل النكسة وما عاناه من سخرية واستنكار تماما كما عانت زرقاء اليمامة عندما حذرت قومها من جيش قادم يختبئ وراء الأشجار فيقول لها: أيتها العَّرافة المقدسة .. ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟ قلت لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ .. فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار ! قلت لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار .. فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار ! وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا .. والتمسوا النجاةَ والفرار ! ونحن جرحى القلبِ ، جرحى الروحِ والفم . لم يبق إلا الموتُ .. والحطامُ .. والدمارْ .. وتمر السنون ويأتى زمن السلام وكما عبر أمل دنقل عن صدمته من النكسة وتبعاتها، عبر بقوة عن رفضه للصلح واتفاقية السلام مع إسرائيل عندما قام الرئيس محمد أنور السادات بزيارة القدس ليلتقى قادة إسرائيل فى بداية التحول من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام،فكانت صرخته من خلال قصيدته الشهيرة «لا تصالح» فقال : لا تصالحْ ..ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟ هى أشياء لا تشترى..: لا تصالح لا تصالح، ولو توَّجوك بتاج الإمارة إن عرشَك: سيفٌ وسيفك: زيفٌ لا تصالح ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام وارْوِ قلبك بالدم.. واروِ التراب المقدَّس.. واروِ أسلافَكَ الراقدين.. إلى أن تردَّ عليك العظام! لا تصالح وصارت هذه القصيدة شعارا لكل رافضى التطبيع مع إسرائيل حتى يومنا هذا من المثقفين فى شتى البلاد العربية وليس فى مصر فقط. وقبل أن يصل الشاعر إلى سن النضج الشعرى الذى تتحدد فيه اتجاهاته وتهدأ فيه ثوراته واندفاع الشباب أصيب بمرض خبيث ألزمه سريرا فى معهد الأورام لمدة 4 سنوات صارع خلالها المرض العضال وعايش فيها الألم الذى لا يطاق وعبر عن محنته ومرضه، وقد سجل ضمن ما سجل وجوده فى غرفة العمليات : فى غرَفِ العمليات كان نِقاب الأطباء أبيض لون المعاطفِ أبيض تاج الحكيماتِ أبيض أرديةُ الراهبات الملاءات لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن, قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبة المصلِ, كوبُ اللَّبن كل هذا يُشيع بِقلبى الوَهَنْ كلُّ هذا البياضِ يذكرنى بالكفن. كان هذا فى آخر مجموعة شعرية له بعنوان «أوراق الغرفة 8» وهى الغرفة التى ظل فيها حبيس المرض والسرير حتى تحررت روحه من حبس جسده لترتقى إلى بارئها وهو فى سن الثالثة والأربعين لم يزل، لتنطفئ الجذوة وهى فى أوجها، ويفقد الشعر العربى برحيله فى يوم 21 مايو 1983 واحدا من أجمل الشعراء وأنقاهم فى الوقت نفسه.. رحم الله شاعرنا أمل دنقل.