كان رجل يعمل نجارًا وكان مبدعًا متقنًا طلب من رئيسه فى العمل أن يُحيله إلى التقاعد؛ ليعيش بقية عمره مع زوجته وأولاده، فرفض ورغَّبه بزيادة راتبه، إلا أن النجار أصرَّ على طلبه! فقال له صاحب العمل: إن لى عندك رجاءً أخيرًا، وهو أن تقوم بالإشراف والرعاية على هذا المنزل الأخير، وستحال إلى التقاعد، بعد ذلك وافق النجار على مضض، وبدأ العمل، ولعلمه أن هذا العمل هو الأخير، لم يحسن الصنعة، ولم يتقن العمل، وأسرع فى الإنجاز، دون الجودة المطلوبة، ودون إبداعه المعتاد، فلما أنهاه سلَّم صاحب العمل مفاتيح المنزل، وطلب منه السماح بالرحيل، إلا أن صاحب العمل استوقفه، قائلًا: إن هذا المنزل هدية لك مقابل سنين عملك فى المؤسسة، فصعق النجار من المفاجأة، وندم على الإهمال؛ لأنه لو علم أنه سيؤسس منزله، لأخلص العمل وأتقن الأداء. فى عام 1950 وعندما كانت اليابان تضمد جراحها وتنهض من الرماد، أراد قادة الصناعة اليابانية النهوض باقتصادهم فاستدعوا أبو الجودة، المهندس العبقرى ويليام ديمنغ الذى قام بتأصيل وترسيخ الإتقان فى العقيدة الصناعية اليابانية. وبالفعل قاد الصناعة هناك إلى أعلى مقاييس الجودة وأصبحت المنتجات اليابانية فى مصاف الأفضل والأطول عمراً، ولم تنس اليابان «أبوالجودة» فأسست جائزة الإتقان التى حملت اسم المهندس «ديمنغ» عرفاناً بفضله عليهم، وكررت كوريا الجنوبية التجربة نفسها، ورفعت منتجاتها من مستويات رديئة إلى أعلى درجات الجودة المقرونة بالسعر المنافس، مما جعل المنتجات الكورية تكتسح العالم على حساب المنتج الياباني، وحين تتأمل ارتباط الجودة العالية والرديئة بنجاح الأمم وفشلها، فستدرك كيف أن ترسيخ «ثقافة الإتقان» هو الخطوة الأولى والأهم فى بناء دولة قوية، وعلى العكس، فالتهاون مع انتشار ثقافة إنجاز العمل كيفما اتفق وبأسهل الطرق وأسرعها دون الاهتمام بالجودة والإتقان هو أحد مؤشرات الفشل الأكيدة. إننا بحاجة ملحة لأن يكون الإتقان والجودة عقيدتنا فى كل شيء ، وليس فقط فى الصناعة، وهذا الأمر لن يكون يسيراً بعد أن تجذرت فينا الحلول السهلة والطرق المختصرة التى لا تضع الإتقان فى أولوياتها بل ما يهم هو الإنجاز ولو كان عبر حلول مؤقتة، والسؤال: كيف يمكن أن نؤصل هذا المبدأ فى مجتمعنا؟.. ويكمن الجواب دائماً فى المدرسة، فاليابان عندما أرادت أن تنهض وضعت أفضل المعلمين فى الصفوف الابتدائية، فمن خلالها نستطيع غرس ما نريد ونكون مطمئنين إلى أن ما تعلموه لن يتم هدمه بسهولة.. إن الإتقان المطلوب يكون فى الأداء, سواء أداء الفرد أو الفريق أوالمؤسسة , فلاشك أن ثقافة الإتقان هى سبيل التقدم. محمد مدحت لطفى ارناءوط موجه عام سابق بالتعليم