يبدو الفصل بين السياسى والثقافى فصلا تعسفيا، يصنعه المهرة من منظرى الإطارات الشكلية، فالشكليون فقط هم من يتعاملون مع الثقافة بوصفها منعزلة عن الواقع، والمثاليون وحدهم من يعتقدون فى فكرة الأبراج العاجية التى يجب أن يظل داخلها المثقف مشغولا بنفسه، ساعيا لخلاصه الفردي، وعلى الرغم من أهمية العزلة بوصفها ضرورة لاتساع الذات وامتلائها كما كان يردد المفكر والفيلسوف الألمانى نيتشه، إلا أنه وفى واقع مسكون بالمشكلات، تصبح العزلة ترفا، والخلاص الفردى أملا مستحيلا، ننشده ولا نناله؛ ولذا فإن فى اللحظات الفارقة من عمر الأمم تعرف الجماعات البشرية ذلك النمط من المثقفين الفاعلين، الذين يعبرون بجدارة الاستحقاق عن نموذج المثقف العضوى المنتمى إلى ناسه، والفاعل فى واقعه، هذا المثقف الذى يشير إلى قيم التقدم بوصفها الملاذ الحقيقى لمجاوزة النفق المعتم إلى أفق أكثر رحابة وإنسانية. لكن عصر الأجوبة النهائية انتهى للأبد، والروح اليقينية التى تغلف نظرة الكثيرين للعالم لم يعد لها محل فى واقع سيار ومتحول، يبدو فيه التغير سمة أصيلة، والثبات عارضا. إن عزل البعض للثقافة عن محيطها الاجتماعى مسألة كارثية، فالجدل بين البنية التحتية زالقوى وعلاقات الإنتاج» والأخرى الفوقية «الثقافة» يظل حاضرا دوما؛ ولذا فإن تشريح المجتمع وإدراك مكوناته الداخلية، يبدو عملا أصيلا للمثقف فى سعيه لتقديم خطابه للجماهير، التى لم تعد الآن متلقيا سلبيا له، بل صارت شريكا فاعلا معه فى إنتاج المعرفة، ومن ثم ففكرة احتقار الجماهير التى نجدها أحيانا لدى بعض النخب تبدو دليلا على وعى محدود بالعالم، بل وبتطور نظرية المعرفة ذاتها، حيث لم يعد هناك ما يسمى بالنخب المعبرة عن جماهيرها، وكأن هذه الجماهير بحاجة دائما إلى من يتحدث باسمها، ويفكر لها، ويمنحها صك الوجود الفكري؛ ولذا كانت أحد أهم أسئلة الثقافة والتنوير تتصل بضرورة أن يفكر الناس بأنفسهم، وليس عبر وسيط، لأن هذا يفتح بابا من الجحيم تجد فيه حضورا متزايدا لأدوار مفتعلة لتجار الرطان، ومستغلى الدين، والراغبين فى الهيمنة. فمعنى أن يفكر المرء بنفسه يعنى أن يكون موجودا باختصار. وفى خضم تلك اللحظات الهاربة من عمر التاريخ، والتى ألجأ العقل العربى نفسه فيها إلى متون الكتب الصفراء، وحضن الماضى البعيد، المنفصل عن الراهن، والمخاصم له فى وقت واحد، ستكون أسئلة الثقافة متصلة بأسئلة الخروج من الكهف المظلم، هذا الخروج بمعناه المجازى والواقعى أيضا، حيث يجب أن يغادر الوعى العربى أفق الماضى بمظاهره وأفكاره، ليس لأنها خرجت من رحمها فحسب كل الرؤى الظلامية التى ندفع جميعنا أثمانا باهظة لها يوميا، بل ويدفع العالم جميعه ثمنا متواترا من دماء الأبرياء الذين تقتلهم التصورات الرجعية قبل أن يقتلهم الرصاص، ولكن أيضا لأن ثمة حاجة حقيقية إلى بناء مغاير للإنسان فى هذه المنطقة الجغرافية من العالم، فالوقوع فى أسر التفكير الخرافى ومصادرة التفكير العلمي، يشكل كارثة حقيقية، تجعل من هذه البلدان تابعا مستمرا، يرفض الآخر ويخضع له فى آن. إن التجارب التى مرت بها الأمة المصرية والعالم العربى فى السنوات الأخيرة بفعل الثورات التى حدثت، والتغيرات الدراماتيكية التى شهدتها المنطقة، جعلتنا أمام حالة من الاستقطابات السياسية والفكرية التى يكتشف المرء من خلالها كل صباح أن إدراك قيم مثل الديمقراطية وحرية الرأى والتعبير، وحق الاختلاف يحتاج إلى إدراك نفسي، ومعرفي، مثلما يحتاج إلى رشد فكري. ومن تجديد الذهنية العربية يمكننا أن نبدأ، ومن صياغة الوجدان العام على نحو متعدد لا أحادي، ومن تقبل الآخر والاعتقاد بأهميته للأنا، بوصفه وجها آخر لها، ومن تغليب قيم التسامح يمكننا أيضا أن نواجه مأساتنا، ولعل مفردة التسامح التى لا تجد حضورا فى واقع مثقل بالمشكلات، وتبدو غريبة عنه، تعد مفتاحا أصيلا للتكريس للجمال فى مواجهة القبح، ولا تنفصل قيم الاستنارة عن معنى التسامح، فاستيعاب المختلفين ومواجهة الأفكار بالأفكار، والتخلى عن الاعتقاد بامتلاك الحقيقة، مسائل جوهرية فى الدفاع عن العقلانية جوهر التنوير ومراده. وبعد.. كان الكاتب المسرحى الشهير هنريك إبسن يعلن دائما أن علينا ان نطرح الأسئلة بدلا من أن نقدم الحلول والإجابات الجاهزة، ولذا فإن السؤال دائما عين الجواب ومقدمته أيضا، ولا شك أننا لم نزل بحاجة كبيرة إلى مساحات أوسع من التأمل الفكرى للعالم والأشياء، من مطاردة سلاح التكفير عبر التفكير النقدي، وإعطاء مساحات للأسئلة المتصلة بالواقع لا الخرافة. هنا وعبر هذا الفهم يمكننا أن نصنع وعيا ممكنا باللحظة، وقدرة عقلانية على استشراف ما يليها، متجهين صوب مستقبل يستحقه الإنسان، هذا الكائن الفريد فى ضعفه وقوته معا. لمزيد من مقالات ◀ د.يسرى عبدالله