بناء على الأسس النظرية للتنوير التى تحرك منها مجلس الثقافة والتنوير بجامعة القاهرة، والرغبة فى تحويل جامعة القاهرة إلى جامعة من جامعات الجيل الثالث، فإننا نؤكد استعادة فكر الآباء المؤسسين فى التنوير والعقلانية والمدنية والتعددية، مع فتح مسارات جديدة للتقدم والانتقال إلى أفق جديد فى حركة التاريخ العالمي، فالجامعة كما قلت فى المقال الاول كانت عند إنشائها فى «عصر جامعة الجيل الأول» والهدف الآن هو الدخول فى عصر جامعة الجيل الثالث». وفى هذا السياق لابد من التأكيد على مجموعة من الأفكار الأولية للمبادئ التى تحكم هوية الجامعة وتحدد مسارات عملها، وهى مطروحة للنقاش المجتمعي، وموضوعة على طاولة اجتماع مجلس الثقافة والتنوير فى جلسته المقبلة، ويمكن بلورتها كالآتي: جامعة القاهرة مدنية، عقلانية، والحرية مكون أصيل من مكوناتها، وتأكيد حق الاختلاف، وتنوع الفكر الخلاق. ومن ثم عدم التعصب لتيار ضد تيار، وعدم التمييز بين الطلاب اجتماعيا أو فكريا أو دينيا. تأكيد هوية مصر المستنيرة القائمة على قيم التعايش وتقبل الآخر؛ خصوصا أن الجامعة شريك فى صياغة هذه الهوية. تحديد مفهوم التنوير بوصفه ممارسة عقلانية تقترن بالجرأة على استخدام التفكير العقلانى النقدى بالمعنى الحداثي؛ فالتنوير هو التفكير العقلى بشجاعة. تكوين خطاب ثقافى ودينى جديد يعتمد على التأويلات العقلانية المتعددة والقراءة العلمية للنصوص الدينية بوصفها البديل عن التفسير الواحد والحقيقة المطلقة. تأسيس تيار عقلانى عربى مقاوم للإرهاب والتطرف والرجعية والأصوليات المتطرفة التى تدعو إلى إبطال إعمال العقل فى فهم الواقع أو النص الديني. الانفتاح على تجارب التنوير الأخرى والتيارات العالمية وتاريخ الأفكار والفنون وتنوع مصادر المعلومات من منظور المصلحة الوطنية. بناء نسق فكرى متحرر ومتطور فى مواجهة النسق الفكرى المحافظ والجامد، يقوم على التفكير الإبداعى الخلاق والوعى النقدى بعيدا عن القوالب الجاهزة التى تعيق الإبداع والتطور، وضد العقل السلبى القائم على الحفظ والتلقين والتسليم بالحقيقة الواحدة التى لا تقبل التغيير. صنع الشخصية القادرة على العمل الفكرى والسياسى والإدارى هو مهمة العملية التعليمية والأنشطة الإبداعية؛ لأن التعليم هو العامل الأكثر تأثيرا فى معادلة بناء شخصية إنسانية متوازنة الأركان: روحا وجسدا ووجدانا ونفسا تحت قيادة عقل واع يقود ويوجه. إزاحة التعليم المولد للإرهاب، فتخلف مناهج التعليم أحد أهم أسباب مشكلة الإرهاب؛ ومناهج التلقين تصنع عقولا مغلقة. والتحول السريع والجذرى من حالة العقم التعليمى إلى مناهج جديدة عصرية تستفيد من مناهج الدول المتقدمة، وتطبق طرق التعلم الحديثة التى تستهدف تكوين عقول منهجية مفتوحة، عقولا تبحث وتفكر وتوازن وتنقد وتختار وتبتكر. الضلع الأهم من العملية التعليمية، هو «طرق التدريس التقليدية» بوصفها مسئولة عن العجز المجتمعى عن الدخول فى حوار منتج. ولذا نجد وجوب التوجه نحو انتهاج طرق تدريس جديدة قائمة على فن الحوار المولد للحقيقة دون التلقى السلبى من المعلم، وانتهاج التربية الحوارية Dialogical Pedagogy، والتى تهدف إلى تخريج شخصية حرة واعية قادرة على الحوار وغير متعالية أو رافضة له فى الآن نفسه؛ مما ينشأ عنه النمو فى تكوين المواقف والآراء الجديدة دون الخروج عن روح الفريق الواحد أو الدولة الواحدة. أهمية تطوير «محتوى التدريس» بحيث لا يتم الضغط على الطالب بحفظ المادة العلمية إلى الدرجة التى لا يستطيع معها أن يفكر فيها على مسافة كافية منها. ولذا يلزم الارتقاء بالمحتوى التعليمى الذى يتواكب مع تشجيع «روح الاكتشاف» لدفع الطلاب إلى مستويات جديدة من التعلم القائم على الأساليب التجريبية والفكر التحليلى والإبداع فى حل المشكلات، وتنمية ملكة الابتكار، والخروج من حدود المقرر إلى سعة البحث العلمى لحل المشكلات الواقعية، وهذه هى أهم أداة فى الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطي. لا ينفصل عن هذا ضرورة إعادة تطوير أساليب التقويم وأسئلة الامتحانات لتختبر المهارات وطرق التفكير، ومخرجات التعليم على أساس «النتائج» بدلا من التركيز فقط علي عملية التعليم والحفظ والتلقين التى تعد الأساس الخصب لتكوين عقول مغلقة لا تفكر، ويستطيع أن يوظفها بسهولة صانعو الإرهاب الذين يلعبون لعبة الموت فقط، الموت من أجل حياة بعينها يفرضونها على الجميع! العمل على تغيير نمط الحياة وترسيخ أخلاق التقدم وتغيير منظومة القيم الحاكمة للسلوك وتغيير الشخصية السلبية إلى الشخصية الخلاقة فرديا واجتماعيا وعلميا. عدم التمييز على أساس دينى أو عرقى أو اجتماعى أو غيره من أسس التمييز التى تتعارض مع فكرة المواطنة، فالجميع محكوم بمبدأ المواطنة، والجميع سواء أمام القانون، والكل متساوون بوصفهم مواطنين، والديمقراطية هى أكبر ضامن للسلام الاجتماعى وهى الأسلوب الأمثل فى إدارة الخلاف بين الجميع. ولا يمكن أن تحقق الديمقراطية أغراضها، دون نبذ العنف والإرهاب والتطرف وتفكيك الأصوليات المغلقة. اكتشاف المواهب وفتح المسارات الإبداعية أمامها سواء العلمية أو الفنية أو الثقافية أو الرياضية أو غيرها، وتوسيع رؤية ورقعة النشاط الطلابى حتى يصل الطلاب إلى قيم المعايشة والتنوير ولا يتحقق ذلك بندوات أو حفلات معدودة وإنما بخلق حالة من الزخم الثقافى والتنويرى للوعى الحقيقى لا الوعى الزائف، الوعى بمفردات الدولة الوطنية ومبادئها المرتبطة بالحرية والديمقراطية، وذلك على نحو يجعل مبادئ الدولة الوطنية مكونا من مكونات المناهج والدورات التدريبية. هذه هى مبادئ التنوير التى تقوم عليها جامعة القاهرة، وبدون الالتزام بها ونشرها من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلي، يكون مصيرنا الخروج من التاريخ العالمى وحركة التقدم. لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت;