أتابع بريدك بانتظام، وأتأمل تجارب قرائه فى الحياة، وقد وجدتنى أكتب إليك حكايتى، طلبا للمشورة فى الأزمة العاصفة التى ألّمت بى، والتى لم أتصور يوما أن أتعرض لها، فشتّان بين الحلم الذى راودنى منذ سنوات شبابى الأولى، والحقيقة المرة التى أتجرعها الآن، وتفوق قدرتى على الصبر والتحمّل، فأنا سيدة فى سن الثلاثين، لدىّ طفل عمره خمس سنوات، وبدأت حكايتى يوم مولدى، حيث جئت إلى الدنيا بضمور فى العصب البصرى، وأنا الوحيدة المصابة به بين أشقائى الثلاثة «بنتين وولد»، وورثته عن والدى الذى كان يعمل موظفا فى الحكومة قبل إحالته إلى المعاش، ولم يدخر أبى جهدا فى سبيل إنقاذ بصرى، وعرضنى على العديد من المستشفيات، وقطع شوطا كبيرا فى علاجى، وتمكن الأطباء بفضل الله من محاصرة المرض، فاحتفظت ببصيص من نور يسمح لى بالرؤية لبضع خطوات، ولمّا بلغت سن المدرسة، استشعرت حجم المشكلة التى أمر بها بسبب ضعف إبصارى الشديد، وكدت أتوقف عن التعليم، ولكن أبى بارك الله فى عمره ألحقنى بمدرسة للمكفوفين، كان لها الفضل بعد الله فى استعادتى ثقتى بنفسى، ومواصلة دراستى حتى تخرجت فى الجامعة، وحصلت على البكالوريوس من إحدى الكليات النظرية، وتأهبت لمرحلة جديدة فى حياتى لإثبات أننى قادرة على العمل، وأن كل ما أريده، فرصة ضمن نسبة الخمسة فى المائة المخصصة لذوى القدرات الخاصة، ولا أقول المعاقين، فنحن من اختبرهم الله بهذه الظروف الصحية لا نقل مستوى عن غيرنا من الأصحاء جسديا، بل لا أبالغ إذا قلت أن حماسنا أكبر منهم فى بعض الأحيان، وحصلت على شهادة تأهيل مهنى، وطرقت أبواب العمل فى العديد من المصالح والشركات، وظللت ثلاث سنوات أعرض أوراقى هنا وهناك، ووفقنى الله إلى العمل بشركة خاصة، وفيها تعرفت على شاب يعانى نفس ظروفى الصحية، وكان زميلا لى فى الكلية، ونحن من محافظة واحدة، لكنه من مدينة تبعد عن مدينتنا عدة كيلومترات، وله ثلاثة أشقاء «ذكور» أحدهم مكفوف البصر، وتتقارب أسرتانا فى كل شىء، ولذلك لم أتردد فى الموافقة عليه عندما فاتحنى فى الزواج منى، وساندته فى شراء الأثاث، ولم أشعّره بأى جوانب نقص فى هذه الناحية، والحق أن أسرتى شجعتنى، ووقفت بجانبى، وظللت مخطوبة له لمدة عام، ولم أر منه إلا كل خير، مما جعلنى أقبل على عقد القران والزفاف، وأنا مطمئنة إلى هدوئه، وحسن معاملته. وللأسف فإن ما رأيته منه ليلة الزفاف، جاء عكس ما توقعته تماما، إذ وجدتنى أمام شخص مدمن وبلطجى، وغير واثق فى نفسه، ولم يتورع عن ضربى وإيذائى وسبى وإهانتى بلا سبب، وكان يأتى بأصدقائه الذين لم يحدثنى يوما عنهم إلى البيت، ويتعاطون المخدرات على مسمع ومرأى منى، وكلما نبّهته، بأنه لا يعقل أن يسهر السكارى عندنا، فقد يتهجم أحدهم علىّ، وهو فى حالة لا وعى، ويحدث ما لا تحمد عقباه، فإنه يرد علىّ، بأنه لن ينظر إلىّ أحد، ثم يسخر منى بكلمات أعف عن ذكرها، ولم أخبر أهلى بما يفعله، وتحملت إيذاءه عسى أن يبتعد عن هذا الطريق المدمر، فهو يتعاطى المخدرات، ويتاجر فيها، وقد أثرت عليه جسديا، ونفسيا، فيهيج ضدى كلما فشل فى علاقتنا الزوجية، وينهال علىّ بسيل من الشتائم والبذاءات. وذات يوم أحسست بتعب شديد، فأخذنى إلى الطبيب، وخضعت لبعض الفحوص والتحاليل، وتأكد أننى حامل، وبدلا من أن يفرح بأنه سيكون أبا، مثل كل الأزواج، إذا به يضربنى فى بطنى بشدة، قاصدا إجهاضى، فسقطت على الأرض مغشيا علىّ، ولما أفقت من الإغماء، تركنى وخرج إلى شلته، وهو يتوعدنى بالتعذيب حتى الإجهاض، وساورته الشكوك فىّ بسبب عدم قدرته على إتمام العلاقة الزوجية، فهرولت إلى عمى لإنقاذى منه، فهو أقدر من أبى على مواجهته، وحدثت بينهما مشادات كلامية، ثم اتفقا على عودتى إلى بيت الزوجية بشرط أن يحسن معاملتى، ولم أبلغ أحدا بشكوكه فىّ حتى الآن، حفاظا على صورتنا أمام الناس، ولكن بعد أسبوع واحد من اتفاقه مع عمى، وعقب سهرة مع أصدقاء السوء، ضربنى بوحشية، ونزع أساورى الذهبية من يدىّ، ثم بعث إلىّ بأمه وزوجة أخيه، فانهالتا علىّ ضربا بوحشية، ثم تركتانى له، فطردنى إلى الشارع، وأغلق الباب فى وجهى حتى لا أفكر فى العودة إليه، وتخبّطت فى الشوارع، وأنا لا أعرف الطريق جيدا، ولولا لطف الله بى لحدث لى مكروه، إذ ساعدتنى سيدة كريمة فى الوصول إلى أهلى، ولم أكن قد أكملت ثلاثة أشهر على زواجى. كانت عملية الطرد البشعة التى تعرضت لها، هى بداية النهاية لعلاقتنا الزوجية، إذ رفعت عليه دعوى طلاق للضرر، وحررت ضده محاضر فى قسم الشرطة، ومع ذلك لم يحرك ساكنا، بل إنه رفع دعوى علىّ اتهمنى فيها بأننى تهجمت عليه، فى محاولة لتضييق الخناق حولى لكى أتنازل عن حقوقى مقابل الطلاق، لكنى لم أستسلم، ووضعت ابنى فى غيابه، فلم يسأل عنه، لا هو ولا أهله، وحصلت على الطلاق بعد عامين كاملين، ولم آخذ حقوقى منه حتى الآن برغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على الطلاق، أما هو فقد انخرط تماما فى عالم أصدقاء السوء، ووجد من ساعده فى الحصول على وظيفة بالجامعة، وافتتح كشكا فيها لبيع أجهزة المحمول، وبالطبع فإنه لم يتخل عن تجارته الأخرى الممنوعة، ولم يتركنى لحالى، إذ تتبع أخبارى، وكلما علم أن شخصا ما ينوى الزواج منى، يلاحقه، إلى أن يفر هاربا بلا عودة، وآخرهم شاب رأيت أنه سيعوضنى عما لاقيته من عذاب، ووافق عليه أهلى، فبعث إليه بلطجية تهجموا عليه بالسكاكين، ومع توالى الضغوط عليه ابتعد عنى، ولم يستمر فى مشروع زواجنا، وإنتهى كل شئ! لقد بلغ ابنى خمس سنوات، وهو كل حياتى، وكلما نظرت إليه، تترقق الدموع فى عينىّ، حزنا على حالنا، حيث إن دخلى من الوظيفة التى أعمل بها خمسمائة جنيه فقط، ويعتبر كإعانة للمعاقين، وهى وظيفة ليست مستقرة مثل الوظائف الحكومية، ووالد ابنى موظف، ولديه مشروعه الخاص، ويصرف كل دخله على «الكيف»، وليس لإبنه نصيب فى أمواله، ولا يراه إلا كل شهرين أو ثلاثة أشهر، وحتى فى هذه الزيارات القليلة، لا يأتيه بهدايا، ولا يعطيه مصروفا، ويحزننى أن «العين بصيرة واليد قصيرة» كما يقولون»، فابنى يرى لعبا كثيرة فى أيدى أبناء أختى، وهو ليس لديه أى لعبة، كما يأخذون مصروفا ثابتا، ويشترون الحلوى، وهو بالكاد يحصل على أقل القليل منها، وزاد من تعاستى أننا نسكن فى شقة أبى، وهى بالإيجار القديم، وقريبا لن يكون لى مكان فيها، حيث سيتزوج أخى مع الأسرة، وبرغم أننى حاضنة، فلا يوجد مكان لنا فى بيت مطلقى، إذ كنا نعيش فى شقة بالإيجار الجديد، ومرتبى كله لا يكفى إيجار شقة صغيرة بدون فواتير المياه والكهرباء، وإذا كان مطلقى يفعل كل ما يفعله ضدى لكى يجبرنى على التنازل عن ابنى، فلن أتنازل عنه، وقد فكرت كثيرا فى عمل مشروع يدر علىّ عائدا، ولكن ما هو هذا المشروع الذى يتناسب مع ظروفى؟، ومن أين لى برأسماله؟.. وكم حذرت مطلقى من ممارساته فى الحياة، وقلت له كثيرا إنه سوف يندم على أخطائه الفادحة، وتصرفاته المشينة لكنه ماض فى طريق الضلال، مستهزئا بما أقوله، وقد فوضت أمرى إلى الله، فهو وحده أعلم بحالى، وغنى عن سؤالى، وله الأمر، وهو على كل شىء قدير. ولكاتبة هذه الرسالة أقول: فى الحقيقة إننى أتعجب كثيرا من الأزواج الذين لا يكفون ولا ينتهون عن ظلم زوجاتهم وإضاعة حقوقهن وحياتهن إذا لزم الأمر، فهم يعيشون حياتهم فى نهم لا يشبعون، ومطلقك واحد من هؤلاء الظالمين، فلقد شغله طريق السوء الذى مشى فيه، ولم يعتبر بعاقبة الظالمين فى الدنيا، ومن كانوا أشد قوة وبأسا فى ظلمهم، وكيف أنهم خسروا الدنيا والآخرة بما كسبت أيديهم، وفاته أن الحياة مليئة بالخيرات، وأكبر من أن نعيشها فى مطامع أبدية غير منتهية تجلب سعادة مؤقتة للطامع، وتكون سببا فى شقاء آخرين، فلا يحصل إلا على كراهيتهم له، وتنصب عليه اللعنات بدلا من الرحمة والدعاء، وكما قال أمير المؤمنين على رضى الله عنه: لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدراً فالظُلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضِى إلى النَّدَمِ تنامُ عَيْنُكَ والمَظْلومُ مُنَتَبِهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنم إن حياة الظالم تمر كلمح البصر، فهو لا ينتفع بها، ولا تكون فيها بركة، فمطلقك على النحو الذى ذكرتيه يضيع حياته فى جنى ما لا ينفعه من مال وملذات، فويل له فى الدنيا والآخرة جزاء بما يعمل ويجترف من الآثام، فلقد ظلمك حين حاول بشتى الطرق إجهاضك، بعد أن تملكه الشك لعدم قدرته على إتمام العلاقة الزوجية بالشكل الطبيعى، نتيجة عوامل عديدة منها المخدرات التى يتعاطاها التى تؤثر على الأعصاب، ولها آثار سلبية لا حصر لها، ولكن مادام الشك قد بلغ به هذه الحال، فإن ذلك من أعظم أسباب انحراف الحياة الزوجية عن سبيل السكن والمودة والرحمة ، إلى جحيم الظنون والهواجس والمتاعب، والنتيجة هى هدم البيت من أصله، وقد كان، ولا سبيل إلى إصلاح ما أفسده بنفسه. والحقيقة أننى توقفت أمام رسالتك طويلا، ولم أجد فيها ما يثير الريبة أو الشك فى تصرفاتك، ولا أدرى كيف تسرب إليه هذا الشك بما يسيء إليك فى شرفك من غير أدلة يقينية؟، فلقد كان الواجب عليه أن يتقى الله، وأن يحذر مخالفة الشرع فى وجوب اجتناب ظن السوء لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم وَلا تَجَسَّسُوا» (الحجرات12)، وقوله أيضا «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (النور23). فالواجب على كل زوج أن يقطع شكَّه ووسوسة الشيطان له تجاه زوجته بدفعه والتخلص منه بما يعلمه من صلاحها وعفتها ومحافظتها على شعائر دينها، ويمكنه أن يواجهها بما يقع فى قلبه من شك وريبة، فلعلَّه يزول بكلمة أو توضيح منها، وما أكثر ما يكون الظلم للآخرين بخطأ التحليل وسوء التقدير مع الجهل بأحكام الشرع، ولنتأمل ما حصل من صحابى جليل عرَّض بامرأته بأمارة ضعيفة، وكيف أنه راجع فى ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يستسلم للوساوس والشكوك، وكانت المشاورة والمراجعة مفيدة فى نقاء قلبه وصلاح أسرته بأن زال ما فى قلبه من الشك، وهى حادثة عظيمة ينبغى أن تكون درساً بليغاً لأصحاب الشكوك والوساوس، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ لِى غُلَامٌ أَسْوَدُ فَقَال: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا: قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ (سواد غير حالك): قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى ذَلِكَ، قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ» (رواه البخارى ومسلم)، فعوامل الوراثة لا تقتصر فقط على ملامح الأبوين القريبين؛ بل ربما تمتد فتأخذ من الأصل البعيد، وتخالف الوالد القريب، ولذلك فإن مطلقك لم يكن على حق عندما طالبك بالإجهاض، لأنه إذا وجد الحمل، فإنه يجب المحافظة عليه، ويحرم على الأم أن تضر به، لأنه أمانة أودعها الله فى رحمها، وله حق فلا يجوز الإساءة إليه، أو الإضرار به. وإذا كنت قد اخترت الإنفصال عنه، وهو الحل المناسب فى مثل هذه الظروف، فإن النفقة على ابنكما ورعايته من الأمور الواجبة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أنْ يضيِّعَ مَن يعول»، وليعلم إن ابنه أمانة ثقيلة فى عنقه لقوله عزّ وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» (التحريم 6). والحقيقة أنه لم يكن فى بقائك معه خير، وهو مصرٌّ على المضى فى طريق الإدمان والمخدرات، فالأصل فى الرابطة الزوجية، الاستقرار والاستمرار، ولذلك يحيطها الإسلام بكلِّ الضمانات التى تكفل استقرارَها واستمرارَها، لكن هناك حالاتٍ تتهدَّم وتتحطَّم برغم جميع الضمانات والتوجيهات، وهى حالات لا بد أن تواجَه مواجَهة عملية؛ اعترافًا بمنطق الواقع الذى لا يجدى إنكارُه حين تتعذَّر الحياة الزوجية، ويصبح الإمساك بها عبثًا لا يقوم على أساس، ومن هنا فإن انفصالك عنه لم يكن منه بد، وصار عليه الآن أن يتقى الله فى ابنه، فلا يعقل أن يعانى طفله الحرمان من الأشياء والمستلزمات التى بإمكانه أن يوفرها له، وعليه أيضا الحرص على زيارته، والبقاء معه وقتا كافيا، فينشأ الولد نشأة طبيعية، ويشعر بأن هناك من يهتم به ويرعاه شأن كل الأطفال الذين ينعمون بالحياة بين آبائهم وأمهاتهم.. أما عن الوظيفة التى تطلبينها، فإن قانون الخمسة فى المائة من الوظائف للمعاقين يتيح لك الالتحاق بعمل مناسب لمؤهلك الدراسى، وأما بالنسبة للمشروع الذى تبغين عمله، فأرجو أن تدرسيه من جميع الوجوه وفقا لظروفك الصحية، مع التأكيد على ذكائك وقدرتك الذهنية، فمن خلال إصرارك على تحقيق وجودك فى الحياة، أراك عنوانا للنجاح سواء فى الدراسة أو فى ميدان العمل، فالإعاقة الجسدية لم تكن يوماً مشكلة تكبل صاحبها عن التعايش مع الحياة، وإنما الإعاقة النفسية هى الأقسى، فلا تيأسى، إن فرج الله قريب، وهو وحده المستعان.