ما بين إعلان ترامب إلغاء قمته التاريخية مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون وما بين تراجعه مرة أخرى ليؤكد انعقادها فى موعدها فى 12 يونيو, تقف الصفقة وراء هذا الشد والجذب بين الطرفين. فظاهريا اتهم ترامب كوريا باتخاذ مواقف عدائية تجاه بلاده بعد اتهام بيونج ينانج لنائب الرئيس مايك بنس ومستشار الأمن القومى جون بولتون بالجهلة والغباء على خلفية تصريحاتهما التليفزيونية التى قالا فيها أن على كوريا الشمالية أن تنزع أسلحتها النووية بالكامل كما فعلت ليبيا وإلا ستواجه بمصير القذافي, لكن فى الباطن فإن حقيقة المواقف الكورية والأمريكية تقف وراءها الخلافات بين الجانبين حول طبيعة ومضمون الصفقة التى ستنجم عن قمة ترامب- كيم. فبالنسبة لترامب، الذى تعتمد عقيدته فى السياسة الخارجية على مفهوم الصفقة, يعتبر أن القمة ستكون تتويجا لاتفاق شامل يتم التوصل إليه مسبقا يقوم على نزع كامل لبرنامج كوريا الشمالية النووى والباليستي, مقابل رفع العقوبات الدولية والأمريكية عنها وفك عزلتها الدولية وتقديم المساعدات الاقتصادية لها، ولذا يحرص ترامب، الذى وجهت له انتقادات عديدة داخل الولاياتالمتحدة بأنه يعطى الشرعية للديكتاتور, على ألا تكون القمة مجرد لقاء تليفزيوني, ومن الصعب أن يجازف بعقد القمة قبل إبرام الصفقة التى يمكن من خلالها تحقيق مكاسب كبيرة لإدارته تتمثل فى تقديم نموذج كوريا الشمالية كنجاح لسياسة العصا التى اتبعها وممارسة أقصى الضغوط, بما يمكنه من تكرار نفس السيناريو مع الملف النووى الإيراني, كما أن صفقة كهذه ستدعم شرعيته الداخلية التى تتعرض لهزات كبيرة وتدعم موقف الحزب الجمهورى قبل انتخابات الكونجرس فى فى نوفمبر المقبل. وبالنسبة لكوريا الشمالية تعنى الصفقة لها التفكيك التدريجى والمرحلى لبرنامجها النووي، مقابل الحصول أولا على ضمانات حقيقية بعدم تعرض النظام لأى ضغوط من أجل إسقاطه، وثانيا الرفع الكامل للعقوبات الدولية والأمريكية التى أثقلت كاهل الاقتصاد وجعلت النظام الكورى يواجه مخاطر السقوط من الداخل مع استمرار تلك العقوبات القاسية التى شملت كل أوجه الاقتصاد وكل موارده الخارجية, وثالثا استقبال المساعدات الدولية خاصة من الولاياتالمتحدةوكوريا الجنوبيةواليابان للتغلب على تلك الصعوبات الاقتصادية, ورابعا الحصول على ضمانات بعدم تراجع أمريكا وحلفائها عن ذلك الاتفاق, كما حدث فى التجربتين السابقتين إبان عهد والده كيم يونج إيل, خلال فترة المحادثات الثنائية بين الولاياتالمتحدة وكوريا فى عهد الرئيس الأسبق كلينتون, أو خلال تجربة المحادثات السداسية التى ضمت إلى جانب أمريكاوكوريا الشمالية, كلا من روسياوالصينواليابانوكوريا الجنوبية, فى عهد الرئيس الاسبق بوش الابن وفشلت تلك المحادثات عبر خمس جولات فى التوصل لاتفاق لإنهاء أزمة الملف النووى لكوريا الشمالية. لكن مفهوم الصفقة لم يقف عند هذا الحد بالنسبة لأمريكاوكوريا الشمالية, فقد دخلت الصين على الخط لتوسع من مفهوم الصفقة لتشمل وضع القوات الأمريكية فى كوريا الجنوبية والتى تصل ل 28 ألف جندي، وضرورة رحيلها كذلك سحب الولاياتالمتحدة لمظلتها النووية الحمائية لكوريا الجنوبية وسحب أساطيلها العسكرية وغواصاتها النووية من بحر الصين الجنوبي, وهو ما يزيد من تعقيد إبرام الصفقة, بل إن تعثر المفاوضات المكثفة السبب وراء إعلان إلغاء القمة ثم التراجع وإعلان عقدها. فالصين تسعى لأن تكون صفقة شاملة لكل الجوانب، أى نزع السلاح النووى لكوريا الشمالية مقابل ترتيبات أمنية شاملة فى شبه الجزيرة الكورية وتحدد مستقبل الوجود العسكرى الأمريكى على حدودها، بينما تلعب كوريا الجنوبية دورا مهما فى إتمام الصفقة ولكن وفقا للمنظور الأمريكي، أى نزع السلاح النووى مقابل رفع العقوبات فقط، دون التطرق إلى الوجود العسكرى الأمريكى فيها باعتباره ضمانة لأمنها وخشية من تراجع كوريا الشمالية مرة أخري. وقد سعت سيول إلى التوسط لإنقاذ عقد القمة, حيث عقد الرئيس الكورى الجنوبى مون جاى إن قمته الثانية مع كيم جونج أون على المنطقة الحدودية وأقنع حلفاءه الأمريكيين بضرورة عقد القمة. إتمام الصفقة يصب فى مصلحة كل الأطراف, فكوريا الشمالية سوف تنجو من مصير السقوط من الداخل, والولاياتالمتحدة ستوظف عملية نزع السلاح النووى الكورى الشمالي, رغم خسارتها لمبيعات الاسلحة لحلفائها اليابانوكوريا الجنوبية على خلفية التهديد الكورى الشمالي، أما الصين فإنها تسعى لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وقطع الطريق على اليابان لتطوير سلاح نووى لردع تهديدات بيونج يانج، أما كوريا الجنوبية فإنها تسعى لأهداف أبعد من نزع السلاح النووى عبر إعادة توحيد الكوريتين بما تمتلكه من قدرات اقتصادية كبيرة تجعل لها الكلمة العليا فى عملية التوحيد. لكن إتمام الصفقة يواجه بعقبات وتحديات كبيرة أبرزها الاختلاف فى الرؤية بين الصينوكوريا الشمالية لمفهوم الصفقة المرتقبة, عن المفهوم الأمريكى ومعه كوريا الجنوبيةواليابان, إضافة إلى الموقف الروسى من تلك الصفقة والذى يميل للمفهوم الصيني، وبالطبع نجاح التوصل إلى إبرام تلك الصفقة ومن ثم نجاح قمة ترامب وكيم, أو فشلها، يتوقف على مدى التنازلات التى سيقدمها كل طرف. لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد