يحفل عالم السياسة الدولية بالمفارقات التى قد تبدو للوهلة الأولى خارجة عن المألوف، أو عن القاعدة التى توجه العلاقات بين الدول؛ ألا وهى المصالح الثابتة للدول، وهى المصالح المتعارضة فى الكثير من الأحيان، والمتوافقة فى أحيان أخرى، المفارقة التى نقصدها هنا هى تلك الصداقة القائمة بين الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» وبين الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون»، فكلاهما ينتمى إلى فضاء سياسى مختلف عن الآخر، فالأول (ترامب) ينتمى إلى اليمين الجمهورى والثانى (أى ماكرون) يبدو حتى الآن أنه خارج التقسيم التقليدى (يمين يسار) وقادم من مؤسسات العولمة المالية، والأول رجل أعمال يفتقد إلى الحساسية الثقافية، ويعرف جيداً لغة الأعمال والصفقات، بينما الثانى مثقف ومتأدب ذو صلة بعالم الفلسفة والآداب. ورغم غموض هذه الصداقة التى جمعت بين الرئيسين الأمريكى والفرنسى والتناقضات التى تنطوى عليها بين الزعيمين، إن على الصعيد الثقافى أو السياسى أو الشخصى، فإنه وإذا ما نحينا هذه التناقضات جانبا، فيمكننا حينئذ أن نكتشف الأرضية الحقيقية والفعلية التى ترتكز عليها هذه الصداقة وهى أرضية المصالح، والتى يعززها البعد الشخصى، فترامب بحاجة إلى ماكرون ربما بقدر حاجة هذا الأخير إليه، فالأول (أى ترامب) يعانى منذ صعوده إلى مقعد البيت الأبيض من عزلة داخلية ودولية من جراء تقلبات سياساته وعدم اكتراثه بحلفاء أمريكا التقليديين ومصالحهم، وماكرون بالنسبة له نافذة يطل منها على أوروبا ويحتفظ بالخيوط التى تربط الولاياتالمتحدة بحلفائها القدامى، كما أن ماكرون يتحدث باسم فرنسا وهى الطرف الآخر فى الثنائية الألمانية الفرنسية، التى لعبت الدور الأساسى فى نشأة الاتحاد الأوروبى منذ الخمسينيات، بل ولا يزال الاتحاد الأوروبى رهن بقاء هذا الثنائى، ومن ثم فإن ماكرون بالنسبة لترامب طوق نجاة من العزلة الدولية، كما أن الرئيس الأمريكى يقدر دور فرنسا العملى فى مقاومة الإرهاب بشكل عام فى إفريقيا ومالى خاصة فى عام 2013. فى مقابل ذلك فإن ماكرون بحاجة إلى حضور فرنسى فى إدارة الشئون الدولية، وهو الدور الذى يؤمنه توافق فرنسا مع الولاياتالمتحدةالأمريكية إزاء سوريا والمشاركة فى الضربة الصاروخية لمواقع الأسلحة الكيماوية المزعومة فى دمشق، أى أن توافق ماكرون وتوطيد علاقة بلاده مع أمريكا يمثل مفتاح عدم تهميش فرنسا فى صناعة القرار الدولى واستعادة مكانتها كقوة كبرى تحظى بمقعد دائم فى مجلس الأمن، يعتقد ماكرون أنه يستطيع أن يقنع ترامب ببقاء القوات الأمريكية فى سوريا، ويعلم أن القوات الفرنسية لا تستطيع البقاء بمفردها إلا فى إطار تحالف دولى تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية، والأهم أن ماكرون يحاول إقناع ترامب بتعديل الاتفاق النووى مع إيران وليس الانسحاب منه ومع ذلك فقد اعلن الرئيس الامريكى الانسحاب من الاتفاق. تمكن الرئيس الفرنسى ماكرون من خلال صداقته الشخصية مع ترامب وتطوير العلاقات بين البلدين من أن يصبح ممثلا ومتحدثا باسم الاتحاد الأوروبى، فيما يخص القضايا محل الخلاف بينهما. خاصة أن علاقة ترامب بتيريزا ماى وميركل يشوبها الفتور وسوء الفهم، وهذا الأمر على نحو خاص ينطوى على ميزة مزدوجة فهو يعزز من مركز فرنسا الأوروبى ويعزز حضور الاتحاد الأوروبى فى القرارات الأمريكية، أو على الأقل التأثير فيها على نحو أو آخر، حتى وإن حظى هذا الأمر بصعوبة بالغة نظرا لشخصية ترامب وعناده وإصراره على شعار «أمريكا أولا» وحرصه على تنفيذ وعوده الانتخابية. هذا التوافق الكلى فى بعض القضايا أو الجزئى فى بعضها الآخر، لا يقلل من أهمية القضايا التى لا تزال موضوعا للاختلاف والخلاف، فى مقدمتها انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية من اتفاق المناخ، الذى وقع فى باريس، وكذلك الحرب التجارية التى يخوضها ترامب ضد الحلفاء وغير الحلفاء ومواقف ترامب إزاء القدس وحل الدولتين فى صراع الشرق الأوسط وكذلك تصميم ترامب على «الأحادية» فى اتخاذ القرار المتعلق بالقضايا الدولية فى الوقت الذى يدعو فيه الرئيس الفرنسى إلى «تعددية» فى صنع القرار المتعلق بالشئون الدولية ويعول على القيم المشتركة التى ينبغى الدفاع عنها، التى تمثل الضمانة الأساسية لتحقيق المصالح الجماعية للبلدان الغربية والديمقراطية ولا شك أن موازين القوى الدولية حتى إشعار آخر ترجح كفة الولاياتالمتحدة فى العديد من هذه القضايا، وتمنحها العديد من الأوراق الاقتصادية والعسكرية والسياسية التى تمكنها من فرض إرادتها، فى حين أن فرنسا لا تمتلك ثقل الولاياتالمتحدة فى تقرير الشئون الدولية، ويقلل ذلك بطبيعة الحال من طموح الرئيس الفرنسى نحو التأثير على قرارات ترامب الدولية وقد يمنح «ترامب» فرصة للتأثير على القرار الفرنسى، ومع ذلك فإن حدود التأثير المتبادل لم تتضح بعد. وبالرغم من آفاق ومرتكزات العلاقات الفرنسية الأمريكية فى عهد ترامب وماكرون، فإن مصير هذه العلاقات يتميز بالتناقض، ذلك أن نجاح هذه العلاقات من وجهة نظر أحد أطرافها قد يبدو فشلا للطرف الثانى، لأن الجمهور الذى انتخب «ترامب» يعارض ما يمثله الرئيس الفرنسى ماكرون، أى العولمة والانفتاح ورفض البحث عن «أكباش فداء» بسيطة كالإسلام والهجرة، خاصة أن ماكرون لا يزال متمسكا «بالميراث الديجولى الميترانى» فى السياسة الخارجية الفرنسية، أى الاستقلال، وذلك لم يمنع بالطبع فرنسا الديجولية والميترانية فى لحظات الأزمات الدولية الكبرى أن تكون حليفا قويا للولايات المتحدةالأمريكية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد