كان الدكتور فهمى عبد السلام، طبيب الأسنان، وأستاذ الجامعة، والقاص، من أقرب الناس للشاعر الراحل الكبير «أمل دنقل»، حتى إنه كان يلتقيه يوميا لعشر سنوات متصلة، حتى عرف «أمل الإنسان»، كما عرفه شاعرا، وصامدا فى الحياة فى مواجهة ظروف الحياة القاسية، وتقلبات الأحوال، وتناقضات البشر. ولأنه يعرف حقيقة أمل، لم يحتمل أن يسكت عن تصورات غير صحيحة يشيعها البعض حوله، حتى بعد رحيله بعشرات السنوات. فقرر أن يكتب كل التفاصيل التى عرفها عنه، وعاصرها معه، ليس لتصحيح صورته لدى الناس وحسب، بل لإكمال الصورة، «الشاعر والإنسان» ليراهما معا كل من يحب التعرف على حقيقته. فأصدر عنه كتاب «مذكرات الغرفة 8»، من «دار المحروسة»، ليرصد فيه كل ذكرياتهما معا، وكل الأحداث التى كان شاهد عيان عليها، ليضع الحقيقة المجردة تحت أعين الجميع. من دون ترصد لأحد، ولا ملاحقة. يقول فهمى عبد السلام: «استللهت فى هذا الكتاب قول «هاملت» حين خاطب صديقه هراشيو وهو يحتضر: « إذا كان قلبك قد احتوانى يوما. فلا تمت.وارو عني، أنا هاملت أمير الدنمارك», «وها أنا قد رويت عن صديقى الشاعر الكبير الراحل أمل دنقل». أخيرا صدر كتابك عن الشاعر الكبير الراحل «أمل دنقل» الذى توفى فى 1983، فلماذا تأخر كل هذا الوقت، وما الذى دفعك لكتابته الآن. هل هو خوفك من تسارع الزمن وضعف الذاكرة، أم رغبة جادة فى إعادة تذكير الناس به؟ الحقيقة لم يكن خوفا من الزمن ولا ضعف الذاكرة، بل لأنى وجدت تصورات مغلوطة عند كثيرين حول «أمل دنقل»، فبعضهم أشاع عنه العدوانية والشراسة على خلاف حقيقته، أو لأنهم لم يعرفوه إنسانيا بشكل صحيح. وأسعدتنى عودة أشعاره بقوة فى ميدان التحرير خلال ثورة يناير،لكن الأقوال المغلوطة عن شراسته وعدوانيته عادت، وكأن هناك من يتعمد ترويجها. فقررت وضع هذا الكتاب للتصدى لتلك التقولات. كثير من الشعراء كتبوا قصائد ثورية، لكن أشعارأمل دنقل كانت الأبرز فى الميدان أيام الثورة، فلماذا بتقديرك؟ القصيدة عند أمل لم تكن مجرد أشعار ثورية فقط. لكن جماليات الشعر، وفنيّاته، ورؤاه العميقة حصنت قصائده ضد التقادم، وهو ما جعلها صالحة ثوريا وفنيا كما رأينا فى الميدان. ذكرت بعض الأسماء صراحة فى كتابك بوضوح، وبعضها بالرمز، والتجهيل. مع أنك ككاتب لا تنقصك الشجاعة لذكر الأسماء الحقيقية. خاصة أن بعض الوقائع المذكورة تمثل إدانة لجوانب من الوسط الثقافى فى عقدى السبعينات والثمانينات؟ من المعروف أن أصحاب القلم منذ عصر الجاحظ الذى ذكرهم فى كتاب الرسائل أنهم أهل حسد وتباغض، وربما يوضح هذا سبب عن عدم ذكرى كل الأسماء. لأنى لم أقصد بكتابى أبدا التشهير بأحد، ولا تصفية حسابات مع أيِّ ممن أدركتهم حرفة الأدب، وتعمدت فى الوقت نفسه أن يكون شهادة على بعض المسكوت عنه فى الحياة الثقافية المصرية فى تلك الفترة المضطربة والقلقة. إضافة إلى تحاشى تجريح أحد، ولم يكن تهربا بحال من المساءلة القانونية. وورود أسماء حقيقية مثل يوسف السباعي، ويوسف إدريس، وعفيفى مطر، وأحمد اسماعيل، وفاروق عبد القادر، هو شهادة للتاريخ،بالإنصاف أو الإدانة لمن يستحق. أما أصحاب الأسماء المستعارة أو المُجهلة, فقد قصدت أن أبعث لهم رسالة مشفرة، ليعرفوا رأيى فيهم، ربما لعجزى عن قولى لهم مباشرة. الكتاب أيضا يكشف عمق علاقتك بأمل دنقل. فما الذى جعل علاقتكما على هذا المستوي؟ هل كانت هى الاهتمامات الثقافية، أم المحبة الإنسانية فقط؟ ظللت ألتقى الشاعر الراحل الكبير يوميا لمدة 10 سنوات تقريبا، وهى كانت مدة كافية لمعرفة «أمل الإنسان». كما يراه قارئ الكتاب، «شخصية استثنائية»، فقد كان يتمتع بفراسة مدهشة فى قراءة البشر ومعرفة دواخلهم، والتعامل معهم بما يليق بكل منهم. فرحمة الله عليه كان قادرا على التصدى للمعتدين والظالمين، وصد الثقلاء ممن كانوا ومازالوا موجودين فى حياتنا الثقافية، وفى الوقت نفسه كان يتمتع بأخلاق الفرسان فى نجدة الضعيف ونصرة المظلوم حتى وإن أدى هذا إلى صدامات عنيفة مع بلطجية الحياة الثقافية.وبالرغم من فقره لم يكن يقبل التدنى متسلحا بعزة نفسه وكبريائه. وكان حين يتوافر فى يديه المال يصبح كريما لأبعد الحدود. باختصار. كان شاعرا كبيرا ذا نفس كبيرة، فى رقَّتِها ونبلها،كان برأيى شخصية أسطورية. عرضت بالنقد والتحليل لكثير من قصائد أمل دنقل،بعضها معروف، وأخرى أقل شهرة،وهذا ميل نقدى جديد لديك، فلم تكتب غير القصة، ولم تتعاط الشعر ولا الرواية قبلا؟ الفضل فى تذوقى الشعر يعود للراحل العظيم، دنقل، فهو من دلنى على عيون الشعر العربى الحديث، وأدخلنى إلى عالم البيّاتى والسيّاب وأدونيس، وكنت قبل ذلك شغوفا بالقصة والرواية. أمّا تحليل الشعر فتعلمته على يد أستاذنا الكبير «يحيى حقي» فى كتابه «هذا الشعر» الذى ينبغى على أى شاعر، وكل مهتم بالشعر قراءته، ليتعلم كيف يتذوق القصيدة، وكذلك كتاب «شوقى شاعر العصر الحديث» للدكتور «شوقى ضيف»، وكتابات العظيم «طه حسين» النقدية فى مجلة الرسالة.واختيارى القصائد الواردة فى الكتاب كان وفق ذائقتى وقراءة كثير مما كتب عن أمل وشعره، ولم يرق لي، فمعظمها كتابة أكاديمية، لن أقول سقيمة، لكنها اهتمت بالتنظير على حساب الفن وجماله. فقررت أن أكتب عن شعر أمل دنقل مسترشدا بما كتبه يحيى حقى عن شعر أحمد شوقي، وروائع المتنبي، ورباعيات صلاح جاهين.فمثلا قصيدة «فى انتظار السيف»، وهى ليست من أشهر قصائده، ينبع جمالها من استلهام التراث العربي،وكونه كتبها فى زمن الهزيمة أمام العدو الصهيوني, فتظهر لنا شخصية الحسن الأعصم أحد قادة القرامطة الدمويين:«عاد الحسن الأعصم والموت المغير بالثوب الأرجوانى والوجه اللصوصى والسيف الأجير..»، وتتجلى هنا قوة التعبير والإحكام الشعري،ثم ينهى القصيدة بالحديث عن لزوجة الاعتياد:«تقفر الأسواق يومين وتعتاد على النقد الجديد تشتكى الأضلاع يومين وتعتاد على السوط الجديد يسكت المذياع يومين ويعتاد على الصوت الجديد»، وهنا بكلمة المذياع يسقط الشاعر رؤيته على الواقع المعاصر. وذكرت كذلك بعض المقالب التى كان يدبرها أمل دنقل لبعض الانتهازيين فى الساحة الثقافية، فماذا قصدت من وراء هذا؟ أوردت تلك الوقائع لأظهر الجانب الساخر المرح فى شخصية «أمل دنقل» التى تنفى عنه صفة العدوانية التى تشيع عنه من أنصاف الموهوبين الذين ملأوا الدنيا حقدا وتشنيعا على موهبته الأسطورية. فمثلا نرى نموذجا للكاتب الرجعى اليمينى الذى نجح أمل فى كشفه، من ثورى تقدمى إلى كاتب يشيد بالقذافى من أجل البترودولار, فأصبح أضحوكة الوسط الثقافي. فرد ذلك الشخص فى عموده الشهير«إحذروا الشاعر الصايع» بينما هو متورط بالتناقض. وهومتفق مع رؤية الكاتب الساخر «محمود السعدني» حين قال إن هناك بعض الكتاب مثل العجلة تسطيع أن تستأجرهم بالساعة. اتهم البعض الراحل الكبير بالتربح من دول جبهة الرفض مثل العراق وليبيا ثمنا لمواقفه السياسية المعارضه لسياسات الرئيس السادات. فهل هذا صحيح؟ لو كان ذلك صحيحا لظهرت عليه علامات الثراء. فقد عاش فقيراً محاصراً مهمشاً، يعيش من مقهى إلى مقهي, وكان تحيزه للفقراء واضحا من شعره. وكنت شاهدا على عتاب الشاعر للنائب البرلمانى عن حزب التجمع «قبارى عبد الله» وحين سألته عن سبب العتاب أجابنى إن الاتحاد السوفيتى كان يمنح «جائزةاللوتس الأدبية» التى تعادل جائزة نوبل، وكانت هناك نيّة لمنحها لأمل إلا أن حزب التجمع أنكروه. ومنحت الجائزة وقتها لشاعرآخر، وخجل يومها قبارى ولم يستطع تبرير موقف الحزب. ووقتها كان أمل فى أشد الحاجة لقيمة الجائزة لظروف زواجه. والسؤال الذى يطرح نفسه أن أمل كان شاعر اليسارعن جدارة، لكن التجمع لم يغفر له أنه لم يكون عضوا به. حيث إن أمل كان يرفض أى قيد حزبى قد يحد أو يوجه شعره. وموقف التجمع من الكاتب الراحل أحمد اسماعيل، والناقد السينمائى كمال القاضى يدل على سوء الحسابات الشخصية والسياسية التى تعانى منها الأوساط الثقافية. مرض أمل دنقل كان مأساة حقيقية، حيث توفى فى الثالثة والأربعين من عمره. وعنوان كتابك مأخوذ من رقم غرفته فى معهد الأورام حيث توفي. فكيف رأيته فى مواجهة الموت؟ كما كان استثنائيا فى حياته وشعره، كان استثنائيا فى مواجهة المرض والموت. وقد شبّه رحلة العلاج فى قصيدة السرير بأنها رحلة عبر نهر الأفاعي. ولم أر أحدا فى مثل شجاعة أمل فى مواجهة المرض الرهيب، فلم يضعف عزيمته،ولم تفارقه الضحكة،وظل متوهجا. وكنا نتحلق حول سريره فى الغرفة 8، لم يشتك، ولم يعش دور الضحية، ولا رثاء الذات. وفى اللقاء التليفزيونى الوحيد مع فاروق شوشة رفض التحدث عن مرضه، قائلا:«مرضى شأن شخصي».