في إحدى زياراته للأهرام للقاء الزميلة الراحلة الصحفية القديرة بهيرة مختار البطلة الحقيقية لقصة «خلى بالك من زوزو» حيث كانت تزوده بالكثير من تفاصيل ذكرياتنا الجامعية في فناء الجامعة وداخل المدرج وفرقة التمثيل، للاستعانة بها فى لقطات الفيلم الذى كتب قصته وأخرجه وأسند السيناريو فيه لصلاح جاهين، وتدور أحداثه في رحاب الجامعة ليظل معروضا بغالبية دور العرض أكثر من عام كامل في 1973 كأول مرة في تاريخ السينما المصرية.. يومها سألت مخرج الروائع حسن الإمام كيف يُفَهِّم الممثل اللقطة المطلوبة منه؟! فأجابنى: «أمثلها أمامه ثم أتركه يؤديها أمامى قبل أن يبدأ التصوير».. وهل تترك أحدهم يؤدي دوره كما يحلو له ثم تحكم بعدها علي جودة الأداء؟.. أجابنى: «بل أريد في الممثل أن يكون في كل لفتة من لفتاته حسن الإمام».. وإذا ما كانت اللقطة تحمل بكاء فكيف تفهمه إياها؟ قال: «ليس شرطًا أن أبكى، بل المهم أن أرسم صورة التعبيرات علي قسمات وجهى ليحفظها الممثل وينقلها إلى وجهه، وبعدها يبكى على طريقته الخاصة وفق مقتضيات الرواية».. ولأنه كان قد أخرج ثلاثية نجيب محفوظ «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» التي سبقها إخراجه لفيلم «زقاق المدق» عام 1963 سارعت أكيل أسئلتي الملحّة بين يديه وعلي رأسها إمكانية إضافة السينمائى شيئًا من رؤياه الخاصة إلى العمل الأدبى أم أنه مجرد مترجم للعمل فقط، خاصة وأنه قد تعرض لحملة نقدية ساخنة اتهمته بأنه حوَّلَ أحداث الأعمال الخالدة لنجيب محفوظ إلي روايات بطلاتها من الغوانى، فجاءنى دفاعه الذى قمت بنشره وقتها بأن «زقاق المدق» كان فاتحة الأسابيع الطويلة في السينما المصرية تمامًا مثل الأفلام الأمريكية العالمية «كوفاديس» و«بن هور» ومضى يُفند بنود الاتهام وحكايته منذ بداياته: «أيام عرض (زقاق المدق) كنت أقوم بإخراج (بين القصرين) في استوديو الأهرام، ثم حدث أن جاءنى تليفون مؤلم يحمل لى نبأ وفاة والدتي في المنصورة، فسافرت علي الفور لتصاحبني كل أسرة الفيلم من فنانين وفنيين وعمال (يحيى شاهين، ومها صبرى، وعبدالمنعم إبراهيم، وحتي هند رستم التي لم تكن تعمل معى)، وفي الليل وأنا أتلقي العزاء داخل السرادق جاءت الجرائد القادمة بقطار الصحافة، فإذا بى أقرأ في مانشيت الصفحة الأخيرة بالجمهورية (اشطبوا اسم المخرج حسن الإمام من نقابة السينمائيين) وكان كاتب المقال هو أحمد عباس صالح، وازداد كربي، وتساءلت لماذا؟! يقول عباس إننى لم أفهم نجيب محفوظ.. أنا!!!.. أنا الذى أقرأ له منذ قصته الفرعونية (رادوبيس).. أنا!.. إن هوايتي الأولي هى القراءة، وعندما أقرأ أفتش ما بين السطور، وطول عمرى أعيش مع نجيب محفوظ في كتبه، وعلي الحقيقة في كازينو أوبرا عندما تجمعنا النرجيلة.. كيف لا أفهمه وهو يكتب بالعربية وليس باليابانية؟! ثم إن جميع شخصيات نجيب محفوظ يخيل إلي أنني أعرفها معرفة شخصية ففيهم أبي وأمى وبنت عمى وجارتي حبي الأول!! وعدت أفتش عن أسباب تهمة عدم الفهم، فوجدت الأمر كما ذكر الكاتب أن نجيب محفوظ في (زقاق المدق) كان يقصد بحميدة أنها رمز لمصر، وأننى إذ لم أفهم ذلك لابد وأن يشطب اسمي من سجلات السينما، والحمد لله أنه لم يطلب شطب اسمى من سجلات المخلوقات التي تمشي علي ساقين ونقلها إلي بند المخلوقات الزاحفة أو التي تحركها الزعانف.. وجلست أتمعن في شخصية حميدة كما فهمتها في رواية نجيب محفوظ.. حميدة تلك التي رأيتها رأى العين.. فعلا كانت هناك مليون واحدة من الكومبارس مرت علىّ أيام الحرب العالمية الثانية كلهن حميدة.. رأيتها في عماد الدين.. وتراكمت أحزان العزاء، إلي جانب دعوة عزلى بقلم عباس صالح ليدفع بى صهدها للانهماك في عمل يشار إليه بالبنان.. عدت لأكمل (بين القصرين) وكنت أعد لتنفيذ مشهد مظاهرة ثورة 19 فحضرنى نشيد (بلادي بلادى) لسيد درويش، ولم يكن هناك في مصر من يتذكره في تلك الفترة، فطلبت من الموسيقار علي إسماعيل إعادة توزيعه، وصورت مشهد المظاهرات الذى جاء بفضل الله أفضل ما صوِّرَ لثورة 19 في تاريخ السينما المصرية. أنا مثل الصياد أحيانا يأتينى في السنارة حوت،وأحيانا لا أجد سوى قوقعة فارغة! حسن الإمام1919-1988
وعدت اسأل صاحب مدرسة الميلودراما في السينما التى قدم لها أكثر من مائة فيلم لم يخرج منها إلا بشهادة تقدير حكومية إذا ما كان قد التزم في إخراجه لأعمال نجيب محفوظ بفكر الكاتب في كل عمل، فأخذه العجب العجاب: «أدب محفوظ قمة فى أدب القصة، فلماذا أخرج علي فكرها الأساسى.. إن (بين القصرين) من وجهة نظرى يتلخص مشهده الأساسى في موت فهمي برصاص المحتل الإنجليزي، وتعد (قصر الشوق) القنطرة ما بينها وبين (السكرية) التي يدور موضوعها الرئيسي حول صراع ما بين الأجيال.. وفي كتابة الأديب العبقري يشعر القارئ بأن أمامه مخرجًا يصوّر أعماله بالقلم، فمثلا عندما يكتب جملة (وظهر عبدالجواد) فأنت أمام حدث درامي قائم بذاته في شخصية تتصدر المشهد بوقعها وزخمها وإطلالتها وتأثيرها، وهذا نوع من الإخراج، وعندما يكتب (وهو يدب بعصاه علي الأرض) فأنت كقارئ تسمع وقع العصا مع دبيب الخطوات، وهذا إخراج.. وعندما يكتب (واتجه نحو النافذة) فهذا يعد (ميزانسن) أى أنها حركة توصل لمشهد مرتقب عبر النافذة، أى حركة لمشهد تمهيدي.. إن نجيب محفوظ يشرح بالقلم ما يصوّره المخرج بعين الكاميرا، وهذا شأن كِبار الكُتاب.. وحقيقة لقد وجدت نفسي في الثلاثية، فعبدالجواد هو أبي، وأنا الابن (يس)، بل إننى أيضا عبدالجواد، وأمينة هى أمى، حتى الأجواء التي كان يسهر فيها عبدالجواد أعرفها جيدًا بعطرها وصخبها وأغانيها وذيول ضحكاتها وقهقهات مريديها.. وربما أكون غير راض تمامًا عن (قصر الشوق) لأن الخلفية السياسية في الرواية لم تظهر بما فيه الكفاية، وأظنها كانت عن صراع صدقى باشا والأحزاب، في حين شدني أكثر انعكاسًا لمفهوم دراما أوديب لشكسبير وذلك بغرام عبدالجواد وابنه يس بزبيدة العالمة، وعمومًا أعتبر نفسي بالنسبة لأى قصة أخرجها عازفًا جيدًا يمسك بالكمان وأمامى النوتة، فإذا ما قالت النوتة أمينة.. عزفت أمينة.. وإذا قالت زبيدة أبدعت في تلحين زبيدة.. ولقد عشت سنوات طويلة مع عوالم شارع محمد علي الذين كان يطلق عليهن في زمانهن لقب (الهوانم) وكن بالفعل هوانم شكلا وهامة واحترامًا.. وعلي دِرب هوانم (أبوعلى) قدم مخرج الروائع فيلم (بديعة مصابني) بطولة نادية لطفي ونبيلة عبيد وفؤاد المهندس، بعد فيلمى (شفيقة القبطية) و(بمبة كشر) في عام 1963، ليعقب ذلك (بنت بديعة) و(سلطانة الطرب) و(امتثال).. وتمر عقود السنين ويدفعنى القرب من نجيب محفوظ إلي تذكر حوارى مع المخرج حسن الإمام في عام 73 فاسأل صاحب نوبل عن ذلك الهجوم الذى تعرَّضَ له حسن الإمام من جراء إخراجه للثلاثية، ومن أنه لم يفهم أن حميدة زقاق المدق هي في الأصل رمز لمصر، فقال لى سيد الكتابة: «جميع رواياتى الواقعية الأولي كنت أثناء كتابتها مستغرقًا في الزمان والمكان والأشخاص، وليس في ذهنى ولا في نيتى أى رمز على الإطلاق، حتي أننى عندما قرأت للمرة الأولي أن حميدة تمثل مصر حدثت لي دهشة شديدة، وأظن أن ذلك جاء في مقال للأستاذ نبيل الألفي بمناسبة ظهور (زقاق المدق) كمسرحية، فالمؤلف في غالبية الوقت منكب في القصة الواقعية لا يُفكر إلا في موضوعه.. فى الناس الأحياء، وفي الزمان، وفي المكان، لكن الناقد يحاول بعدها تفسيرًا، وقد يستشف من وراء الشخصية رمزًا يكون قد خرج من اللاشعور لدي المؤلف، وهذا حقه، لكن ما ليس من حقه فرض تصوره علي الآخرين.. هو كناقد وجد في حميدة مصر، بينما حسن الإمام لم ير ذلك وكلاهما حر.. ولس من حق الناقد أن يُلزم أحد باكتشافه فهو ليس مرجع الكون، أما أن يطالب بشطب اسم حسن الإمام فهذا هو غير المعقول بعينه».. وعدت اسأل نجيب محفوظ ألا يزعجك أن تتحول قطعة من ذاتك علي يد فنان آخر هو المخرج السينمائى إلى شكل فني جديد ربما يضيف إليها رؤياه الخاصة؟!.. فى إجابته كان الأستاذ قاطعًا: «هذا لا يزعجنى بالمرة، لأنى أعرف أن ذلك من بدهيات العمل السينمائى، ثم إننى ككاتب سيناريو للعديد من القصص لكبار الكتاب مثل (إحسان عبدالقدوس) أعلم جيدًا أن للكتابة السينمائية تكنيكًا خاصًا مختلفًا، وأن المهم ألا يغيّر العمل السينمائى من فكرى الأساسى، أو يضيف ما ليس من معتقداتى، وهذا ما لم يقم به حسن الإمام علي مدار أعمالي حتي فى فيلم (دنيا الله) الذي استمر عرضه 15 أسبوعًا في عام 85 بطولة نور الشريف».. واسأله: ألم يزعجك أبدًا أن تمتلئ بعض روايتك في أفلام حسن الإمام بالرقص والغناء؟!.. أجابني: «أبدًا.. أبدًا.. لم يزعجنى ذلك لأنه كان من مستلزمات العمل السينمائى» قلت: ألم يحدث أن استأت من الأسلوب الذي عرضت به إحدي رواياتك؟ قال: «حدث، لكن ليس مع حسن الإمام، فقد عرض لي المسرح القومى إحدى رواياتى، وإذا بالكاتب الذى مسرح الرواية يشتم الوفد ومصطفي النحاس، مما أثار غضبي لأن ذلك ضد مبادئى وأفكارى».. ولأن التُهمة كانت مزدوجة ومشتركة تجاه كل من نجيب محفوظ وحسن الإمام في أن صورة المرأة فى أعمالهما تغلب عليها شخصية العالمة، وأبرزها زبيدة في الثلاثية، ومن هنا جاء دفاع كاتبي الجليل: «ما دمنا الآن نتحدث بالذات عن الثلاثية وهى رواية طويلة فهي تعطى فكرة عن مختلف أنواع النساء لاستعراضها لأجيال متعددة متعاقبة، فهناك جيل التراث الممثل في أمينة، والمرأة الأكثر استنارة وإن كانت التقاليد مازالت تحكمها بشدة وذلك في خديجة وعائشة، والجيل الثالث من البنات الذى تحرَّرَ وعَمَلَ، بل اشتغل بالسياسة فى نموذج البنت التي كانت تعمل في الجريدة المتطرفة فى (السكرية).. جميع أصناف المرأة في الروايات، أما أن البعض يُخيل إليه أن الغانية موصوفة أحسن.. فهذا غير صحيح.. كل ما هناك أن الذين يتصورون ذلك هم الذين يضعون عيونهم علي الغانية.. وارجعى إلي عدد الكلمات.. هل زبيدة وصفت أكثر ما وصفت أمينة.. أبدًا.. إنما الذى يقول بهذا هو اللي أول ما لقى زبيدة فتّح عينه.. آدى الحكاية كلها من طقطق لسلامو عليكم.. وعمومًا أنا شفت بمبة كشر، وكانت سمينة جدًا وترتدى ملابس كلها بالترتر، وكانت نظرًا لسمنتها ترقص وهي واقفة مطرحها لا تتحرك، وكان الترتر يضوى ويخطف بصري وأنا صغير.. حسن الإمام هو الذى جعل صورة الأم أمينة حية ومؤثرة.. ماذا يطلب منه أكثر من ذلك، أما ما يُقال عن رأينا الشخصى، وهل نعتبر محافظين أو تقدميين فهذا موقف يستشفه الناقد ليس فقط من كتاباتنا، وإنما أيضا من حياتنا ومواقفنا، يعني أنا مثلا كيف ربيت بناتى فاطمة وأم كلثوم.. هل أكرهتهما علي البقاء في البيت.. أبدًا.. متعلمتان وتخرجان يوميًا للعمل».. علي مشارف مئوية المخرج حسن الإمام الذى ولد في 6 مارس 1919 ورحل في 29 يناير 1988 تاركًا مسيرة فنية بارعة ورائعة يعد فيها أحد أبرز رواد جيل صناعة السينما المصرية عبر أربعين عاما (1946 1986) وهى الفترة ما بين إخراجه لأول أفلامه (ملائكة في جهنم) وبين آخر أفلامه (عصر الحب) عن رواية أيضا لأديبنا الكبير نجيب محفوظ حيث أخرج 80٪ من روائعه التي شهدت بها لجنة نوبل وخلال تلك المسيرة اليسيرة العسيرة التي اكتشف فيها نجوم ولآلئ الشاشة المصرية ومنها: فاتن حمامة، وفريد شوقي، ونادية لطفى، وماجدة الصباحى، وهدي سلطان، وثريا حلمى، وهند رستم، وزوزو نبيل، وزيزى البدراوى وحسن يوسف، ورشدى أباظة، وشكرى سرحان، وماجدة الخطيب، ويوسف شعبان، وعبدالمنعم إبراهيم وصلاح قابيل، ومحمد نوح، ونور الشريف..الخ.. كانت هناك أحداث ووقفات ومحطات وترشيحات وصعوبات واعتذارات ونجوم ونجمات.. منها اعتذاره عن إخراجه قصة (الحب الضائع) لطه حسين مقابل ثلاثة آلاف جنيه في عام 1966 لأن أحداث القصة وقعت في الريف الفرنسى، وهو رجل منصورى عاش فى ريف الدقهلية ولا يستطيع أن يتعرض لإخراج أى فيلم من أجل الفلوس، فقد كسب الألوف وخسر الألوف، ولم تعد تغريه الأموال بالتضحية باسمه مهما يكن الثمن، وفي بنود اعتذاره أن مثل هذه القصص يجب أن تُخرج وتصوَّر في أماكنها الطبيعية بواسطة أجانب يقدموا صورًا حقيقية وواقعية عن الحياة هناك كما عاشها المؤلف الدكتور طه حسين.. ومنها أنه أول من صوَّر هجرة قرية كاملة لإصلاح أرض بور وتحويلها إلي أرض خضراء في فيلم (لن أبكي أبدًا)، وأول من جعل المشاهد العربي يستمع إلي آيات من القرآن الكريم من فاتن حمامة في (اليتيمتين)، وأول من أدخل الآذان في الفيلم المصري، بل لقد جاء بالشيخ مصطفى إسماعيل ليتلو آيات من القرآن الكريم فى فيلم (وبالوالدين إحسانا).. ومنها فترة التحضير لفيلم (الخطايا) الذي أخرجه لعبدالحليم حافظ الذى قال عنها: «كانت فترة تشبه فترة الحمل لامتدادها لتسعة أشهر.. أحمد عثمان قدم الفكرة، وعندما بدأنا السيناريو كان يجلس معنا محمد عبدالوهاب، ومصطفي أمين، وكامل الشناوي، وإذا بهم رقباء من طراز رفيع علي كل مشهد وكلمة حوار، ولم أضق ذرعًا بما يحدث، بل اعتبرته ضمانات نجاح، خاصة أن اسم حليم كان قد ارتفع في عالم الطرب العربي للسماء وجميع أغانيه مضمونة كورقة البوستة، ولكن أى فشل سينسب إلي المخرج.. وأخذنا وقتا في إعداد الأغانى التي لحنها محمد الموجي وكمال الطويل ومنير مراد.. الموجى لحن (مغرور)، والطويل (الحلوة) ومراد (وحياة قلبي وأفراحه) وقدم عبدالوهاب لحنه الوقور (قل لي حاجة أى حاجة)، وطلبت من عبدالوهاب أغنية (لست أدري) ليغنيها عبدالحليم بتوزيع جديد فوافق، ومن هنا تكاملت للخطايا كل عناصر النجاح، وكنت أتصور نقطة الضعف الوحيدة في مطربنا العندليب لأنه ليس ممثلا في الأصل، وقررت بذل الجهد ليكون ممثلا بقدر ما هو مطرب، وإذا به يتجاوب معى في هذا ويزكيه، ويطيع ما أشير به ويلبيه، حتى جاء يوم أخطر مشاهد الفيلم الذى يصفع فيه عماد حمدى عبدالحليم علي وجهه، فسألت عبدالحليم: هل تريدها صفعة تمثيلية نستعمل لها خدعة ومؤثرات صوتية؟ فقال: بل أريدها صفعة حقيقية تقنع المتفرجين.. واحتبست الأنفاس في البلاتوه حين قلت (بارتيه)! وصفع عماد عبدالحليم صفعة معقولة لكن عبدالحليم قال بعدها: (لم أقتنع بالصفعة ليس هى ما أريد) وأعدنا المشهد وتلقى صفعة أقوي وهتفت: (اطبع!) وهذه معناها في قاموسنا الإخراجى أن المشهد انتهى، فإذا بعبدالحليم يقول: (لا)، ووقع عماد حمدي في الحرج وقال: (يا عبدالحليم الصفعة الثانية أقوي من الأولي ويمكن أن تحدث التأثير المطلوب)، فقال حليم: «أنا أريد الأقوى، أريد أن أبكي من الصفعة بكاء حقيقيا!» وفي المرة الثالثة صفقنا، وإذا به يقول: «هذه الصفعة أقل من سابقتها».. و..لقد صفعه عماد حمدي سبع مرات فلم يقتنع إلا بالصفعة التي طار لها صوابه، وذرف بها الدمع من عينيه، ووجم البلاتوه إثرها فلم يصفق أحد، وارتمى عبدالحليم علي مقعد فلم أزعجه بكلمة، فأنا أحب أن أترك للممثل فرصة لإفراغ كل شحنة المشهد بعد أن ينتهى منه!.. فلما وقف وقد استرد أنفاسه انفجر البلاتوه بالتصفيق.. وكنت أول المصفقين! وصفقت لى الجماهير في (الخطايا) وتلقيت من آيات التكريم ما لا يمكن نسيانه.. في ليلة العرض الأول دس في يدي محمد عبدالوهاب السعيد بالنجاح إلي أبعد حد ظرفًا فيه 200 جنيه! وعلي نفس دربه دس حليم ظرفًا مثله بنفس المبلغ، وقيل لي إن هناك سيدة في انتظارك ووجدتها العظيمة (روزااليوسف) التي قبلتنى بحنان، ومن هذا الفيلم حملت لقب (مخرج الروائع) الذي أعطته لي جهة أجنبية.. الخواجا سبيرو اليونانى صاحب سينما (ديانا) الذى قدَمَ لىّ طبقًا من الفضة مكتوبًا عليه.. (إلي مخرج الروائع حسن الإمام).. ورغم كل تلك الأفلام التي أخرجها حسن الإمام للسينما فإن المسرحية الوحيدة التي قدمها علي خشبة المسرح كانت (يا حلوة ماتلعبيش بالكبريت) وأقسم بعدها ألا يقرب من دقات رفع أى ستار في مسرح، لأن الممثلين يخرجون عن النص ويؤلفون كما يريدون ببساطة واستهانة متناهية.. وقدم للإذاعة مسلسل «سماح» و«ناعسة وأيوب» و«عيد ميلاد نادية» إخراج بابا شارو، ولقطاع الأفلام التسجيلية مجموعة عن منجزات مصر في عهد السادات تحت عنوان «اعرف بلدك» ليتلقي منه برقية رئاسية يقول له فيها: «إنى علي ثقة بأن الفنان المصرى الذى شارك علي امتداد التاريخ في رقي الحياة وإنهاض الإنسان بما قدم من فن رفيع سيواصل مثلك حمل رسالة الإبداع والخلق الجديد علي أسس راسخة من الحق والعدل والسلام الاجتماعى».. أما المسلسل التليفزيوني الوحيد الذي أخرجه فهو «صاحب الجلالة الحب» عن قصة الكاتب والصحفي الكبير مصطفي أمين حيث لعب البطولة فى 15 حلقة نبيلة عبيد وشهيرة وحسين فهمي وحمدي غيث وحمدي أحمد ومشيرة وغيرهم.. إلا أن المسلسل وئد في عرضه الأول.. ولم يكتمل.. ليقول عنه مخرجه (لا تحاسبوني علي عمل بترت ذراعاه وساقاه) حيث شوهت الحلقات الثلاث الأخيرة بالاختزال العبثى بأوامر من المسئولين، وصدر قرار من السيد وزير الإعلام صفوت الشريف بمنع إعادة عرض المسلسل مرة أخرى، ومنع تصديره للخارج! والحكاية أن مصطفي أمين يقول في كتابه (صاحب الجلالة الحب) عن قصة الفيلم: «إن هذه القصة قد تكون قصة إحدي العمارات في مصر، وقد تكون قصة مصر كلها، وقد تكون أحداث هذه القصة قبل ثورة 23 يوليو، وقد تكون قد وقعت بعد الثورة، وقد تكون الحرب المقصودة هي حرب 1967 لكن البطل الأول في القصة هو الشعب المصري.. إنها قصة الصراع بين الحق والقوة، بين أصحاب النفوذ والسلطان ومواطنين مسوقين بلا نفوذ ولا سلطان! قصة كبار بالاسم صغار في الحقيقة وضعفاء في الحياة وهم أقوي الأقوياء!! إنها قصة كل المصريين يقيمون في عمارة واحدة».. تلك هي كلمات مصطفي أمين التي قدم بها كتابه الذي قام بتأليفه في السجن وتم عمل معالجة تليفزيونية له عرضت علي رقابة التليفزيون وقتها، كما عرض الكتاب نفسه، ووافقت الرقابة علي تحويله إلي سيناريو، ثم عرض السيناريو ذاته ووافقت الرقابة علي تصويره، ثم عرضت الحلقات ووافقت الرقابة علي عرضها علي الشاشة الصغيرة، وعرضت الحلقات في رمضان عام 83 حتى وصل المسلسل إلي الحلقة الثانية عشرة، ولم يتبق منه إلا ثلاث حلقات.. وفجأة اكتشف المسئولون أن الأحداث التي تدور بين قصور الملك السابق وحرب فلسطين عام 48 ليس مقصودا بها سوي الفساد الداخلي في مصر قبل 67.. ذلك أن مصطفي أمين كان يريد بهذه القصة أن يقول إن التاريخ يعيد نفسه، وأنه طالما يوجد فساد في الداخل فلابد أن نخسر الحرب.. وهنا أصدر وزير الإعلام أوامره بإنهاء المسلسل بحلقة أخيرة تذاع في اليوم التالى، ومنع تصديره مهما تكن الأسباب، واجتمعت السيدة سامية صادق رئيس التليفزيون وقتها بممدوح الليثى مدير أفلام التليفزيون وتم عمل دوبلاج باتر للحلقات الثلاث وضمها في 40 دقيقة أذيعت في اليوم التالي وانتهى الأمر، ليُعلق المخرج حسن الإمام علي ما أثاره المسلسل من ردود فعل كثيرة للالتباس في الأحداث ما بين ما قبل الثورة وفترة النكسة: «أنا لا أفهم في السياسة ولا دخل لي بها.. أنا رجل مصرى عايش في وادي النيل.. أرض مسطحة.. وليس لدي غموض.. فأنا لست فرنساويًا عايش في رعب الاحتلال الألمانى وأخرج المسرحيات اللامعقول.. أنا عندي سيناريو مكتوب فيه (دق الجرس في مكتب رئيس الديوان) ما معني هذا.. معناه قبل الثورة يعني في ديوان جلالة الملك.. وما معني هذه الجملة أيضا (هرول الأستاذ أبوالسعود ليضع طربوشه بسرعة علي رأسه) وهنا يعني الطربوش أنه قبل الثورة التي نزعت الطرابيش، ثم إن مصطفى أمين وضع في قصته شخصية الأمير (عادل عمر) يعنى أحداث ما قبل الثورة وأخرى اسمها الراقصة (ببا فهمى) نصف الكتاب عنها.. ما شأنى أنا.. لماذا يلومونني إذا ما كانت هي محور الأحداث في قصة مصطفى أمين.. قدرى أن بطلة المسلسل راقصة وليس في عائلتي راقص إنما هذا قدري وحظى، ولقد أدت نبيلة عبيد دورها ببراعة وعبقرية.. وفي عيد ميلاد الملك داخل القصة مثلا لم أقدم رقصة، وإنما قدمت قصيدة أدتها سيدة تشبه أم كلثوم، والحفلة كانت في قاعة الاحتفالات في قصر عابدين.. أنا لم أضف شيئًا من عندي لتحاسبونى علي الكتاب، وليس لي تعليق علي بتر الحلقات الأخيرة التي كانت من أروع الحلقات سوي الخرس».. ولعل حسن الإمام لم يكن المخرج الوحيد الذى بصم بالعشرة بأن سعاد حسنى أصبحت من بعد «خللي بالك من زوزو» ممثلة لا تحتمل داخل البلاتوه، فقد أصابت تدخلاتها المخرج صلاح أبوسيف بالضغط المرتفع، وخلال عملي معها في المسلسل «هو وهى» الذى قمت بكتابته اضطررت للتدخل عدة مرات لعقد الصلح بينها وبين المخرج يحيي العلمي، إلا أنه في ثورة غضب عارمة قام بهد المعبد وبتر الحلقات الثلاثين ليكتفي بعشرة فقط رغم اكتمال كتابتها وديكوراتها وذلك بسبب خروج سعاد عن نص مسئوليتها كبطلة ملتزمة، وها هو حسن الإمام يحكى عن تعامله مع سعاد في فيلم «أميرة حبي أنا»: لم تعد سعاد حسنى التي عرفتها في فيلم (مال ونساء) أو سعاد (خلى بالك من زوزو)!.. كانت إنسانة مختلفة تمامًا، فقد نضجت في أفلام متعاقبة، ولكنها مقابل ذلك احتلها الطاووس.. وآلمني هذا.. إنها تريد أن تُسيِّر العمل، وتقترح كيف أخرج المشاهد.. وأنا ما قبلت من أحد هذا أبدًا.. ولا أحب أن يناقشنى في الاستوديو أحد، فأنا ملك البلاتوه.. وكل من فيه رعيتى، وأنا مسئول عن رعيتي.. وتركت الفيلم ثلاث مرات.. وفي كل مرة كان المنتج والموزع يتدخلان لعقد الصلح بيني وبين سعاد.. وذهبنا إلي الاسكندرية لنصوّر أغنية (بمبي) التي لحنها كمال الطويل، فإذا بي اكتشف أن سعاد حسني علي خصام مع حسين فهمي.. فكيف يمكن أن يمثل الحب متخاصمان؟ كيف؟! وحسين يقول عنها (ليست هذه سعاد حسنى التي أعرفها)، وتقول هى عنه (ماذا جرى لحسين فهمي ليتغير هكذا؟).. وكان المفروض أن نمكث في الإسكندرية لثلاثة أيام.. ولكن الخصام مدها لعشرة.. وأحسست ذات يوم بدوار.. وأحضروا لي طبيبا اكتشف أنها هجمة سكر!.. جابولي السكر!.. وعندما بدأنا المونتاج وجدت سعاد تزج بنفسها بيني وبين مساعدتى إيناس الدغيدى، فقلت لها هذا اختصاصنا وحدنا.. واشتبكنا.. ورغم هذا أقول إن سعاد حسنى ثروة قومية.. تملك أجمل وجه أطل من الشاشة، وهي موهوبة إلي حد الإعجاز.. لكن قاتل الله طاووسًا سكنها قبل الأوان!..». ولأنه كان متسامحًا مع الجميع وقلبه طيب وينسي الأسية ويبادر بالتصالح وقليل المشاكل في الوسط الفني بوتقة جميع المشاكل، لكن خلافه الأشهر في الوسط كان مع الفنان عمر الشريف الذي رفض بطولة فيلم (أهل الكهف) قصة توفيق الحكيم من إخراج حسن الإمام واصفًا إياه بالمخرج التقليدي، مما أثار غضب الإمام الذي ردَّ عليه في خطاب نشرته جريدة الأخبار عام 1982 جاء فيه «أنت تذكرنى بالماضي، يوم أن كنت أرفض وساطة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة لإسناد الأدوار إليك» وعلّل الإمام سبب رفض الشريف لبطولة الفيلم، لأنه مكتوب بلغة عربية سليمة، وأن عمر الشريف سيكون ضعيفًا في الإلقاء وجهورية الصوت أمام محمود ياسين وعبدالله غيث.. ويمسك المخرج على عبدالخالق بسيناريو فيلم «مدافن مفروشة للايجار» وأثناء تحليله لشخصيات الفيلم يقف عند شخصية المعلم كبير الترابية في المدافن، وهو الشخصية الأساسية في الفيلم، فتقفز فى ذهنه صورة حسن الإمام، وبتردد وحرص شديدين، وبعد تمهيد يهمس للمنتج بالفكرة الجنونية فيوافق علي الفور، ويفاجأ العاملون في الفيلم فى أول أيام التصوير في ديسمبر 85 برجل ضخم يرتدي الملابس البلدية ويخفي نصف وجهه خلف كوفية يصرخ فيهم وسط المقابر: بتعملوا إيه هنا؟!! ويصفر وجه المخرج، ويكاد يُغمى علي البطلة نجلاء فتحي، ويتقدم نجاح الموجى للرد برعشة بادية: احنا بتوع السيما وهانعمل فيلم.. عادى!! ويزيح الرجل الملثم الكوفية عن وجهه، فقد أتى المخرج النجم حسن الإمام بملابس دور كبير الترابية الذى يقوم بتأجير المدافن مفروشة لراغبي الحياة تحت سقف يحميهم ولو جاوروا الأموات وشواهد القبور.. وليست المرة الوحيدة التي وقف فيها حسن الإمام أمام الكاميرا فقد قام من قبل بدور الشحات أمام بشارة واكيم في فيلم «طاقية الإخفاء» إخراج نيازي مصطفي، وقام بدور الدليل الإفريقي أمام عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار في فيلم «وادى النجوم».. ولأن الأشبال من ذاك الأسد فقد كان للمخرج الكبير الابن حسين الذى رحل عن دنيانا وكان له باع طويل في عدة مجالات فنية كالإنتاج والتمثيل وتقديم البرامج والظهور كشيف يُعد الوجبات المبتكرة، ومن أبرز أعماله فيلم «كابوريا» ومسلسل «مزاج الخير» و«آدم وجميلة» المذاع حاليا، وموسيقي عدة مسرحيات منها «باللو».. وتألق مودي الإمام في عالم الموسيقي التصويرية للأفلام مثل «الإرهاب والكباب» و«سمع هس» و«اضحك الصورة تطلع حلوة» وغيرها.. وليس أجدر من «زينب حسن الإمام» زميلة الصحافة والقلم والأهرام وصالة التحرير من الحديث عن الأب صانع النجوم فتقول: «لم يقترن اسم حسن الإمام بفنان إلا وقد أصبح هذا الفنان جزءا لا يتجزأ من السينما المصرية، فهو الذى قدم كمثال فريد شوقي في أول دور بطولة، وأعاد فاتن حمامة للسينما.. والدى كانت أمى حبه الوحيد ليطلق اسمها «نعمت» علي جميع بطولات أفلامه، فقد كانت بالنسبة له بمثابة تعويذة نجاحه.. كان عدة رجال في رجل واحد.. شخصية ثرية بجميع الأبعاد والمستويات والارتفاع والعمق.. ابن بلد ونجم مجتمع وإنسان عاطفي مرهف وشفاف ومحب للحياة والمعرفة والإطلاع، ويهتم بالبعد الإنسانى للشخصية التى أمامه، ومُسرفًا في كل شيء سواء في عواطفه أو أحزانه أو أفراحه وكذلك في فلوسه.. وكان ابن نكتة.. لقد أخذنا معه لحياته وتركنا نعيش حياتنا، وأبدًا لم يكن في بيته سي السيد إلا في أمر واحد فقط وهو ألا يجلس أحد علي السفرة قبله.. وقد فرض علينا حب القراءة وكانت أول مرة في حياتى أترجم فيها نصًا في سن السابعة عشر بدافع منه.. وطبعًا في ذلك الوقت تمنيت العمل في مجال الفن فسألني عن مدي تصميمي فأبديت له رغبتي الشديدة، إلا أن رده كان «أنا خايف عليك»، وطلب مني التفكير علي مهلٍ فتراجعت أمام تخوفه الذى انتقل لى ورغم ذلك فقد ربىّ فينا حب الفن والتذوق، وتعلمت البيانو وكذلك حسين وأحمد تعلما العزف علي الآلات منذ الصغر.. ويا زينب.. قلبي معك في مهمتك القومية التي ألقاها والدك علي عاتقك بكامل ثُقلها خاصة بعد الرحيل المباغت لحسين الشقيق.. مهمتك يا غالية حفظ تراث المخرج الرائد كجزء من تاريخ مصر، وتخليد فنه، وإضاءة ساحات اسمه، وتأصيل إبداعاته كحقبة فاصلة عاشتها أجيال متعاقبة بحلوها ومرها وفنونها وساستها وثوراتها وثقافتها ورموزها وضيوفها وخريجوها في جامعة شارع محمد علي.. زينب.. زميلة مهنة البحث عن المتاعب علي بلاط صاحبة الجلالة الصحافة.. دقت ساعة العمل وبدأ العد التنازلي لتوقيت مئوية الوالد القادمة علي عجل لوضعها في عين الاعتبار.. فليس كل الآباء حسن الإمام. لمزيد من مقالات سناء البيسى