صورة أخري من إدمان الضياع هذه هي الخلاصة التي وصل إليها أستاذنا الكاتب الكبير أنيس منصور في عاموده الشهير بالأهرام' مواقف'.. وطرح أستاذنا الكبير ما اكتشفه وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد زكي بدر في زيارته للمدارس فوجد أنها لا مدارس ولا فيها تربية ولا فيها تعليم وكان رأي الأستاذ أنيس أنه من الصعب أن نجد شعاع أمل فيما أكتبه في هذا المكان.. وأن المشكلة صعبة وخطوات الإصلاح أصعب.. وأن الدولة عليها أن تختار بين الرغيف أو زجاجة الدواء أو الكتاب.. وقد يسمح لي أستاذنا بأن أقول له إنني حتي اليوم لم أفقد الأمل في إصلاح التعليم وإلا لتوقفت عن الكتابة.. ومازلت علي يقين من أن إصلاح التعليم سوف يحقق كل جوانب الإصلاح الأخري السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرها.. ومازلت علي يقين من أن نقص الإمكانيات المادية لا يمكن أن يكون سببا للقبول بتعليم لا يرضي عنه أحد والقضية ببساطة هي أننا نحاول بكل قوة إعادة اختراع العجلة أو اكتشاف النار وكأن التعليم هو أحد الطلاسم الخفية.. رغم أن التعليم في كل الدنيا ليس سرا وإصلاحه لم يعد لغزا.. ومقومات التعليم محددة ومعروفة سلفا وأولها وجود استراتيجية تعليمية مستقرة وهو أمر لم ولن يتحقق في ظل غياب مجلس أو هيئة علمية تضم الخبرات والعقول العلمية ويكون لهذه الهيئة استقلالها الكامل بحيث لا تخضع لسيطرة وزير التربية والتعليم أو وزير التعليم العالي.. وتتولي هذه الهيئة إقرار وتحديد استراتيجية التعليم المصري ومتابعة تنفيذ هذه الاستراتيجية ويكون دور الوزير رسم السياسات التنفيذية ومتابعتها علي أرض الواقع دون زيارات مفاجئة أو معروفة سلفا.. وإذا كان الدكتور أحمد زكي بدر قد فوجئ وأصيب بالدهشة من صورة مدرسة رآها مزبلة حسب تعبيره فمعني ذلك أن علي كرسي وزير التربية والتعليم يجلس وزير لم يكن يعرف شيئا عن مدارس مصر قبل توليه الوزارة, فالمدرسة التي وصفها بأنها مزبلة أفضل من نصف مدارس مصر والحقيقة أن ما يجري حاليا ومنذ أكثر من40 عاما عاصرتها في شئون التعليم المصري هو عبارة عن مشهد يتكرر بصورة مملة.. يخرج الوزير من موقعه ويتولي وزير جديد يعلن في البداية أنه سيواصل تنفيذ استراتيجية الوزير السابق ولكن بعد أسابيع أو شهور علي الأكثر يعلن الوزير الجديد عن استراتيجية جديدة تنبع من تجربته الشخصية.. وهكذا يتكرر نفس المشهد' البايخ' علي مدي السنوات الماضية وليس بعيدا عن الأذهان ما جري مع' سنة سادسة' التي ألغيت ثم عادت ولن يكون غريبا لو ألغيت مرة أخري.. وحكايات الثانوية العامة بين العلمي المتأدب والأدبي المتعلم والتحسين وإلغاء التحسين وثانوية السنة الواحدة ثم ثانوية من سنتين ومواد اختيارية وأخري إجبارية وثالثة مؤهلة للقبول بالجامعات. إن الحكم علي سلامة وجودة أو عدم جودة أي نظام تعليمي يحتاج إلي12 عاما علي الأقل هي سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية حتي يمكن تقويم منتج هذا النظام وهو التلميذ وصلاحية إعداده للتعليم الجامعي أو لسوق العمل.. وللأسف نحن لم ننعم باستقرار سياسة تعليمية أكثر من خمس أو ست سنوات علي الأكثر. وكان نتيجة ذلك أن أصبح التعليم هو المنبع الأساسي للأمية في مصر حتي أصبحت مصر ضمن أكبر9 دول في العالم من حيث عدد الأميين بها؟! لأننا منذ أكثر من65 عاما نكافح الأمية رسميا بموجب أول قانون صدر لمحو الأمية عام1942, ومعني ذلك أن الأمية كانت ستختفي من مصر بفعل الزمن لو أن التعليم توقف فقط عن توريد أميين جدد ليصل عددهم في مصر رسميا إلي17 مليونا!! أما عن الإمكانيات فإننا يمكن كوطن وشعب أن نعيش وفقا لظروفنا وإمكانياتنا.. نركب أو نسكن أو حتي نأكل' علي قدنا' كما يقولون, ولكن عندما نريد أن نتعلم فليس أمامنا سوي أن نتعلم كما تتعلم الدنيا كلها أو لا نتعلم وليس هناك' تعليم علي قدنا' ولا ينفع مبرر الإمكانيات المحدودة عندما نتكلم عن التعليم وأظن أن إمكانياتنا أكبر بكثير من دول أخري عديدة أقل منا شأنا ومع ذلك سبقتنا تعليميا.. والسبب هو أن هذه الدول وضعت التعليم في الترتيب الصحيح لأولوياتها.. لن نتحدث عن تركيا أو ماليزيا أو اليابان ولكن أمامنا تجربة الهند.. تلك الدولة الفقيرة والتي اشتركت مع مصر عام1955 في مشروع لصناعة الطائرات, وكانت مصر تصنع المحرك والهند تصنع هيكل الطائرة.. وفي نفس هذه السنة1955 قال الزعيم الهندي نهرو كلمة شهيرة قد تفسر لأستاذنا أنيس منصور لماذا وصلت الهند إلي ما هي عليه الآن ولماذا نحن اليوم علي ما نحن فيه!! قال نهرو:' إن الهند بلد فقير جدا لدرجة أنه مرغم علي أن ينفق علي التعليم بسخاء' فالفقر سبب أدعي للإنفاق علي التعليم, وبذلك يحسم الاختيار بين رغيف العيش والتعليم. المزيد من مقالات لبيب السباعى