تابع المراقبون السياسيون المشكلات المتعددة التي واجهتها عملية تشكيل الوزارة الجديدة برئاسة رئيس الوزراء المكلف الدكتور هشام قنديل. وترددت أخبار أن كثيرا من الشخصيات التي قابلها الدكتور قنديل اعتذرت عن قبول ترشيحها للمنصب الوزاري, إدراكا منها لجسامة المهمة وتعقد المشكلات التي يواجهها المجتمع المصري بعد ثورة25 يناير. وقد صرح الدكتور قنديل بأنه قابل في سياق محاولاته تشكيل الوزارة ثمانين شخصية, وأنه درس بعناية كما قال- سيرهم الذاتية. ولو حللنا هذا الخبر لأدركنا أن الدكتور قنديل لم يدرك وهو بسبيله للاختيار بين عشرات المتخصصين الذين يطلق عليهم عرفا التكنوقراط, أن المسألة تتجاوز السير الذاتية المهنية التي قد تكون زاخرة بالانجازات العلمية أو المهنية التي حققها هؤلاء, ولكنها تتعلق أساسا بالرؤية السياسية لهؤلاء! والخطأ نفسه وقع فيه عديد من الناشطين السياسيين الذين طالبوا الرئيس مرسي بتشكيل حكومة من التكنوقراط, تلافيا لتشكيل حكومة إخوانية خالصة, متصورين بذلك أن هذه الحكومة ستكون أقدر من غيرها علي حل المشكلات. والواقع أن التفرقة السائدة في الخطاب السياسي المصري بين الوزراء السياسيين والوزراء التكنوقراط لا أصل لها في عالم السياسة الواقعي, كما تمارس في النظم الديمقراطية المستقرة! فالوزير بحسب التعريف وأيا كان تخصصه العلمي أو المهني- لا بد له أن يمتلك رؤية سياسية للمجال الذي سيكلف بإدارته. وموضوع الرؤية السياسية التي تتضمن توجهات إيديولوجية محددة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة محسوم تماما في النظم الديمقراطية الغربية. وذلك لأن التطور السياسي الطويل المدي الذي قطعته الديمقراطية في هذه النظم أدي إلي تصنيف سياسي مستقر, بناء عليه يميز بين المفكرين والقادة السياسيين والأحزاب السياسية. وهذا التصنيف يمتد من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار مرروا بالوسط. ولو طبقنا هذا التصنيف علي المشهد السياسي الديمقراطي الفرنسي علي سبيل المثال- لوجدنا في أقصي اليمين حزب لون المتطرف الذي يتبني اتجاهات عنصرية إزاء الأجانب المقيمين في فرنسا ويدعو إلي ترحليهم إلي بلادهم, في حين أن اليمين نجده ممثلا في الأحزاب التي تتبني الرأسمالية كمذهب اقتصادي وخيار إيديولوجي. ثم نجد الوسط وفيه بعض الأحزاب التي تقتبس بعض أفكار اليمين وبعض أفكار اليسار. ثم نجد اليسار ممثلا في الأحزاب الاشتراكية, التي يمثلها الآن أولاند زعيم الحزب الاشتراكي الذي انتخب رئيسا للجمهورية بعد انتصاره التاريخي علي ساركوزي ممثل اليمين, ونجد أخيرا الحزب الشيوعي الذي يمثل أقصي اليسار. بناء علي هذه الخريطة السياسية تنزل الأحزاب السياسية إلي الانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية بشخصيات معروفة سلفا توجهاتها السياسية بحكم انتمائها إلي أحزاب سياسية معلنة ومعروف برامجها, وكذلك أحزاب سياسية شتي. والناخب الفرنسي حين يصوت بناء علي هذه الخريطة السياسية المعروفة فهو يختار اليمين أحيانا إذا راقت له سياساته, وقد يختار اليسار إذا فشل اليمين حين يستلم الحكم أنصاره في تطبيق سياسات ترضي الجماهير العريضة, كما حدث بالفعل في معركة ساركوزي مع أولاند. ولكننا في مصر مازلنا نعيش في أوهام سياسية مبناها أن هناك وزراء تكنوقراط, ولا يهمنا رؤاهم السياسية ولا انتماءاتهم الحزبية! وكأن الوزير من هؤلاء مجرد كبير الموظفين في وزارته, يواجه المشكلات بغير رؤية سياسية جامعة ملزمة لجميع الوزراء. وترد المشكلة إلي أن رئيس الجمهورية في السوابق التاريخية عادة ما يوجه خطابا إلي رئيس الوزراء المكلف يحدد له فيه المهام التي علي وزارته القيام بها, ويكون ذلك عادة في سياق إيديولوجية معلنة تطبقها الدولة. علي سبيل المثال في عهد وزارات ثورة23 يوليو كانت خطابات التكليف تنص عادة بالإضافة إلي تعظيم الإنتاج وتنويعه علي تحقيق مشروع العدالة الاجتماعية الذي تبنته الثورة, وخصوصا فيما يتعلق بترقية أحوال الفلاحين والعمال والطبقة الوسطي, مما يفرض علي الوزارة سياسات متنوعة تحقق هذا الهدف. وحين غير النظام السياسي المصري توجهاته في عصر الرئيس السادات بالانتقال من الاشتراكية إلي الرأسمالية التي بدأت بما أطلق عليه الانفتاح الاقتصادي, كان من الطبيعي أن يتضمن خطاب تكليف رئيس الوزراء تركيزا علي إقامة المشروعات الرأسمالية, وايجادمناخ موات للاستثمار يضمن جذب المستثمرين الأجانب ويشجع المستثمرين المصريين. وبناء علي ذلك تحول النظام السياسي في عصر الرئيس السابق مبارك إلي نظام يقوم علي أساس الدفاع المطلق عن الطبقة الرأسمالية بعد أن أصبح القطاع الخاص يقوم بسبعين في المائة من عبء التنمية, حتي لو جار ذلك علي حقوق الفلاحين والعمال والطبقة الوسطي وهو ما حدث فعلا. فقد ظهرت فجوة طبقية كبري بين من يملكون ومن لا يملكون, وزادت أعداد الفقراء وأصبح لدينا لا أقل من عشرين مليون مصري تحت خط الفقر, وهذه الحقيقة كانت أحد أسباب اندلاع ثورة25 يناير, التي رفعت شعارات العيش والحرية والكرامة الإنسانية. والسؤال الآن هل الوزارة الجديدة ملتزمة حقا بمشروع النهضة بما يتضمنه من توجهات وإستراتيجيات مقترحة للتنمية, الذي انتخب علي أساسه الدكتور محمد مرسي؟ وهل الوزراء الذين تم اختيارهم علي علم حقا بمفردات هذا المشروع؟ وهل عرض هذا المشروع علي نطاق الحوار القومي حتي لا يكون مجرد مشروع اقترحه حزب الحرية والعدالة ليصبح مشروعا قوميا تشارك في صياغة جميع القوي السياسية والائتلافات الثورية, بالإضافة إلي خبراء التنمية في الجامعات ومراكز الأبحاث؟ لم يحدث شيء من ذلك, وبالتالي فالسؤال علي أي أساس سيمارس كل وزير في وزارته, هل بناء علي خبرته العلمية أو المهنية الذاتية, أو في ضوء سياسة عامة للوزارة؟ ولكن هذه السياسة لم يتم وضعها ومناقشتها علي مستوي الوزارة, بل إن كل وزير انطلق يصرح عن الأولويات التي سيركز عليها هو في الوزارة بغير تنسيق سابق مع باقي الوزارات. ومن هنا يمكن القول أن المشكلة الحقيقية لم تكن دراسة السير الذاتية للوزراء, ولكن دراسة رؤاهم السياسية وتوزعهم بين اليمين واليسار, وأهم من ذلك كله ضرورة وجود سياسة متكاملة تتم صياغتها ومناقشتها علي مستوي مجلس الوزراء بناء علي المشاورات اللازمة مع رئيس الجمهورية, والذي هو علي رأس السلطة التنفيذية, وهو الذي سيتحمل عبء الفشل أو مزايا النجاح. المزيد من مقالات السيد يسين