عرفتها منذ شهور فقط. وأذهلنى أن عينى لم تقع على اسمها من قبل، رغم انتظامى بقراءة الأدب منذ أكثر من أربعة عقود. والتهمت كل ما أتيح لى من أعمالها دفعة واحدة. منها «السمكة الفضية، وأوراق قديمة، ودوم..تاتا..دوم، والبيت والنخلة، والعين، وعود السنابل، ِورواية «فك شفرة»، الفائزة مؤخرا بجائزة الشيخ خليفة، فوجدت نفسى أمام موهبة كبرى، عزوفة عن الأضواء، وأديبة تعرف ما تفعله بدقة، ليس تجاه الأطفال واليافعين وحسب، لكنها تملك قدرة مدهشة على التأثير فى الكبار تماما مثل الصغار، وتسعى خلفها الجوائز باطمئنان. تزوجت فى سن مبكرة، وعملت بوظيفة فى التليفزيون، وحازت ليسانس آداب فرنسى وهى أم. وبعده دبلوم إعلام قسم إذاعة، ثم ماجستير فى التحقيق التليفزيونى، ودكتوراه من إعلام القاهرة عن «أزمة تليفزيونات الخدمة العامة بعد سقوط الاحتكار». ومارست الإخراج وإعداد البرامج، وكتابة سيناريو تسجيلى، والتحقيقات، وأنتجت أعمالا تسجيلية وروائية قصيرة حاز بعضها جوائز من مهرجانات مصرية وعربية. وتولت رئاسة الإدارة المركزية لقناة النيل للدراما. بجانب عملها بالتدريس الجامعى، وإلقاء المحاضرات فى جامعات ومعاهد متعددة، منها «عين شمس»، وآخرها إعلام جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة. لهذا كله. لم أستغرب حصولها على شهادات تقدير وجوائز كثيرة، من مهرجان بولونيا 2006، وجائزة سوزان مبارك لأدب الطفل فى 2006 و2007. ووضع اسمها بقوائم شرف المجلس العالمى لكتب الأطفالIBBY ، ومشروع ال101 كتاب على مستوى الوطن العربى. وجائزة الشيخ زايد لأدب الطفل عن روايتها «البيت والنخلة»2011. وجائزة «أنا ليند» لكتب الأطفال 2011. وجائزة اتصالات لكتاب الطفل 2013. وأخيرا فازت روايتها «فك شفرة» لليافعين بجائزة خليفة التربوية 2018 وتتسلمها قريبا فى احتفال حاشد بأبو ظبى. وقدمت أبحاثا عن «المادة الوثائقية فى التليفزيون المصرى»، و«السينما التسجيلية إلى أين؟»، و«المادة الثقافية فى التليفزيونات العربية»؛ و«دور المرأة المهنية فى صناعة السينما»، و«دور البرامج الثقافية فى التليفزيونات العربية». بجانب كتابة مقالات صحفية. وهى عضو جمعية نقاد السينما، ونقابة المهن السينمائية، واتحاد الكتاب. ووالدة الديبلوماسية «أمل مراد» مساعد وزير الخارجية، والمهندس الاستشارى «عمرو مراد». أعمالك كلها «حمَالة قيم»، وبدون نفس وعظى مباشر، فكيف أمكنك تحقيق هذه المعادلة المربكة.. تسريب القيم مع تفادى فجاجة النصح المنفر، كما نرى فى رواية «فك شفرة» الفائزة بجائزة الشيخ خليفة مؤخرا، والتى ستتسلمينها خلال أيام؟ أغلب الكُتّاب يُسربون القيم فى ثنايا قصصهم، لكن الأهم من وجهة نظرى هو نوع القيم، فالتشدد قيمة، ومنع خروج المرأة قيمة، وهذه القيم إن لم تعد بنا للوراء، تُبقى المجتمع ثابتا جامدا، يجب أن نقدم قيما حداثية، كالدعوة للتعليم وحرية المرأة، قيما تساعد على التنمية والتغيير للأفضل، ثم الخطوة الثانية: كيف تقدم هذه القيم داخل القصص؟ هل تُقدم بطريقة مباشرة، أم غير مباشرة. أعتقد أننى أقدم قيما حداثية فى كل ما أكتبه! متجنبة نبرة الوعظ، أو المباشرة، كما تقدم لنا الحياة القيمة فى التفاصيل، من تراكم أحداث ومشاهد وأقوال، القيمة ضمنية بلا صنعة أو افتعال، حتى المعلومة يجب أن تقال فى شكل درامى ويتم تفعيلها داخل القصة، محاكاة الحياة بما تُسرّبه من قيمة، هذا هو الفن، أحاول تحقيق هذا مثلما فعلت فى قصة «سيكون لى أصدقاء»، ليس بالسرد فقط، بل عبر الرسوم المصاحبة للقصة أيضا. وهذا التكنيك يدخل إلى وجدان القارئ أسرع وأسهل، ويخاطب أحاسيسه أكثر من عقله السطحى، ويجب أن يعمل الكاتب على تعاطف القارئ مع شخصياته داخل العمل، وهذه خطوة مهمة لتقبل القارئ قيم الشخصية ذاتها، دون ترويج معلن، ومن الممكن إبراز قيم بالية وعتيقة لإدانتها، ففى رواية «فك شفرة» الفائزة، والتى أشرت إليها فى سؤالك، العم يُصرّ على تزويج ابنته صغيرة السن، لأن هذه قيمة عنده، والرواية تدين تلك القيمة البالية، بإبراز أهمية التعليم أولا. والدعوة إلى قيم حداثية، عبر أحداث طبيعية. المكان فى معظم أعمالك، كما فى روايتيك «أوراق قديمة»، و«البيت والنخلة»، وفك شفرة، شريك جوهرى فى الأحداث، ويلقى بظلاله على الأشخاص، فهل هذا مقصود أم أنها تداعيات حياة ? أى عمل مثل الحياة يدور فى مكان وزمان، فالجغرافيا والتاريخ ثنائى مهم جدا، أحيانا يقصد الكاتب اللامكان، لكن المكان يجب أن يتحلى بخصائص تحدد طبيعة الشخصيات ويخدم الأحداث. فى «فك شفرة» يلقى المكان بظلاله على تماضر والأطفال. «بيت بعيد وناء وقديم» أسهم فى بناء الأحداث، الأطفال كان لديهم مفهوم إن كل قديم بال، لكن تعايشهم جعلهم يغيرون مفهومهم هذا! ببساطة هو جو عام منح قدرا من الغموض، لكنه غيّر مفاهيم الأطفال بأن ليس كل قديم سيئا، مثل فكرة الناموسية، فبعد اكتشاف الكثير من الأدوية لم يجد الأطباء أفضل منها للوقاية من الملاريا. هكذا تم تمرير القيمة، حيث يجب ألا نرفض الإنترنت كله ونحكم على الشبان الممسكين بالموبايلات طيلة الوقت بأنهم سيئون! فالجيل الأقدم، لأنه فقط لم يستخدم الإنترنت، وليس مستعدا لتقبل استخدامه، يحكم على الأشياء الحديثة كلها بالسوء. وأتذكر، مثلا، اندهاش أمى من سماعنا لأغانى عبد الحليم حافظ!. واندهاشى فيما بعد من موسيقى «الهارد روك» و«الميتال» و«الكلاسيك» التى كان يسمعها ابنى، قبل أن أستوعب أن لكل جيل ظروفه وذوقه. وكذلك موقف الجيل الجديد من كل ما هو قديم، والتواصل بين الأجيال يمكن أن يوضح هذه الجزئية. والبيت فى رواية «فك شفرة» كان من وحى خيالى، وفى «أوراق قديمة» فتقريبا هو بيت جدى، أحيانا أستلهم من الأماكن التى مررت بها مكانا وأعيد وصفه، لأنه ترك بداخلى تأثيرا كبيرا!. أيضا قيمة الصداقة فى رواية «أوراق قديمة»، وجمال ما فعله «الجد» لصديقه، بأن ترك له فدانا يزرعه ليكفيه شر العوز؟. لقد مرّرت فى هذه القصة قيمة اشتراكية أو إنسانية، أى مساندة الفقراء. احتفظ الجد بإنسانيته مع صديقه طوال عمره، وتسربت تلك القيمة إلى إحدى حفيداته. وإذا كان البيت يخص جدى فالشخص هو «حماى». فأحيانا يتم خلق بعض القصص بتوليفة من الواقع، مضافا إليها شخصيات خيالية لاستكمال الأحداث، والكاتب يخلق قصصه وأشخاصه وأماكنه من بازل الواقع ليُكوِّن عالما جديدا! لديك ميزة لافتة فى حكاياتك. وهى تآخى الكائنات، فهناك حوار صريح بين الإنسان والطيور والسمك والنخيل، بل والجماد نفسه يتحرك ويشارك فى صناعة الأحداث، فهل هذا ناتج عن إيمانك بشراكة الكائنات فى الحياة عموما، أم لعب مشروع على شغف الأطفال ومرونة مُخيّلاتهم؟ الأطفال بشكل عام يحبون الحيوانات، ستجد حوارا دائرا فى « البيت » بين الولد والنخلة، الأشياء قادرة على أن تتواصل، وفى صغرى كتبت موضوع إنشاء عن الشاعر الفرنسى «لامرتين»، الذى قال فى إحدى قصائده: «يا أيتها الأشياء التى بلا روح، هل عندك روح ترتبط بنا وتجبرنا على الحب؟». ففى بعض الأحيان تتصل بعلاقة روحية مع الأشياء، مثل الجماد والحيوان، مثل التفاهم الخفى بين «بهانة» والحمار فى «البيت والنخلة»، كل كائن مهما كان له شفرة ولغة، الإنسان عليه أن يعرفهما! فى «فك شفرة» عرف الطفل «شهاب» من نغمة نباح الكلب أن القادم ليس غريبا فحسب، بل سيكون غريبا وشريرا! ربما يُهيأ لك أنك توصلت إلى هذه اللغة، لأن الإنسان لديه نظرة متعالية تجاه الكائنات الأخرى، ونتيجة لامتلاكه الحواس الخمس، لكن باقى الكائنات لديها ما يخصها من حواس! وطوال حياتى أقيم علاقة مع أشيائى، ويسألنى الأطفال أحيانا: «هى السمكة بتتكلم؟!». وهنا دور الفنان أن يوهم الطفل بأن السمكة تتكلم، ويوافق على هذا الإيهام!. فقدرة الكاتب على تفتيح إمكانيات الفهم والإدراك لدى الأطفال تتوقف أولا على جعلهم يصدقون القصة، مثلما حدث فى نهاية «البيت والنخلة»، الأولاد صدقوا أن «البيت والنخلة» مشيا مثل البشر ليشاركا فى إنقاذ فارس، من اللطيف أن يحدث هذا فى الرواية!. أدبك فى إجماله يستمتع به الكبار مثل الأطفال، حتى الحكايات المخصصة فقط للصغار، كأنه عابر للأعمار، وليس لمرحلة سِنِّية مُعينة، ما سر هذا؟ هل هى قدرتك على تسريب القيم بطريقة جذابة، أم حيل السرد المحببة؟ الأدب الذى يعجب الأطفال فقط ليس جيدا، من وجهة نظرى واحترامى للأطفال يعنى ألّا أستهين بهم، فيجب أن نقدم لهم أدباً حقيقياً، وبحبكة مضبوطة، وبناء شخصيات جيد، واستخدام مفردات ملائمة، وتجنب التناقض داخل القصص، وهذا يستوجب التنبه لكتابة المكان والزمان بشكل مشهدى كأنك تتحرك داخل القصة، وتراعى حركة الشمس والظلال مثلا كما يعايشها الأشخاص. ولدى مشكلة فى تصنيف الكتب كلما استعان بى أحد، فمن الممكن لطفل أكمل عشر سنوات أن يستوعب قصصا لأطفال فى سن أكبر، والعكس أيضا، فقصتى «عود السنابل» بالمفهوم العلمى للتصنيف، نص يخصص لمن هم أكبر من اثنتى عشر عاما، لكن أطفالا أصغر أحبوه! فنسب الحكم على قدرة الأطفال على الاستيعاب متفاوتة حسب قدراتهم الذهنية، وليست أعمارهم. ما يجعل حكيها للصغار أمرا مشوقاً وممتعاً، وهذا نوع من تشجيع الأطفال على القراءة ومثلها استمتاع الكبار بالقصص نفسها. الرسوم أيضا متميزة لدرجة «منافسة النص فى جماله»، فأى «قلب سخى» هذا الذى يقبل اقتسام النجاح مع فنان آخر؟ »هنادى سليط» رسمت «عود السنابل» فى عامين، وحصلت على جائزة غير جائزة «عود السنابل». والرسّامون معى يجهزون لكل فقرة رسمة خاصة، والرسوم المتعددة تشجع الرسامين على الإبداع أكثر، كما أن عملى كمخرجة بالتلفزيون جعلنى أفكر بالصورة، ولغة الصورة أكثر توصيلا. حتى مفرداتى لا تكون أحكاما بل هى وصف لما يحدث، تعتمد فى نقل المعانى على علامات طبيعية أكثر مما تعتمد على الإخبار. فى كل أعمالك لا بد من وجود «الشخص مخزن القيم»، مثل «الجدة» فى «البيت والنخلة»، و«الجد» فى «أوراق قديمة»، و«تماضر» فى «فك شفرة»،فهل تعتقدين أنهم يمثلون ظهيرا للمجتمع، ويلهمون الناس كيفية إدارة الحياة، وهل تؤمنين بدور الزعامات الصغيرة وحراس القيم فى المحيط الأسرى؟ الصدق فى الكتابة يولد المعانى العظيمة والرؤية! وكبار السن فى أعمالى، ربما لأنى جدة كبيرة السن أريد أن أقوم بالوصل بين الأجيال، ربما لم أكن ألحظ هذا لو كنت أصغر. وغياب المثل الأعلى والقدوة للشباب أمر فى منتهى الخطورة، فعندما تسأل الأطفال والشبان عن مثلهم العليا الآن يقولون أسماء غريبة، لا لشيء غير أنه يكسب الملايين، القيمة تحولت إلى المال. قبل سنوات لم يكن ضروريا أن يكون القدوة من المشهورين والعظماء، ربما يكون مدرسا بسيطا لكنه يحمل قيما عظيمة، غاب الجيل الذى يقول لشخص مر فى حياته: «أنت علمتنى كذا وكذا، أو حبّبتنى فى فعل شيء ما». لو نعرف أهمية أن نكون قدوة للأجيال الآتية لقمنا بأفعال عظيمة. بدأت الكتابة فى سن متأخرة نسبيا، فما الذى أغواك بالإبداع؟ ألا يبدو هذا مخالفا لطبائع الأمور، هل كنت ك جدة تشاغلين أحفادك بالحكى، فشجعك هذا على تحويل مروياتك إلى كتابة؟ تأخرى غريب بعض الشيء، لكنه لم يمنع البدء فى الكتابة! سبقتها بكتابة تعليقات للأفلام، وإعداد رسالتى الماجستير والدكتوراه. ثم، تزوجت بشهادة الإعدادية، ودخلت امتحان الثانوية العامة بنظام الثلاث سنوات بعد زواجى بثلاثة أشهر، وأكملت التعليم الجامعى بين حمل وآخر! بكل ما فى الحمل من إرهاق! وتأخرى فى الكتابة غير نمطى كسيرتى الذاتية! لم آخذ الحياة كمعركة، بل أحببت التفاصيل واستمتعت بتربية ابنتى وابنى، وبأشغال البيت، وبعملى كمخرجة، وفى النهاية، بالكتابة الإبداعية.