فى ملتقى القاهرة الدولى السادس للرواية العربية، الذى اختتمت فعالياته بالقاهرة الأربعاء 18 مارس الماضي، بحضور ومشاركة أكثر من مائتى كاتب وروائى وناقد عربى، أعلن فوز الكاتب الكبير بهاء طاهر بجائزة الملتقى وقيمتها 200 ألف جنيه، لتتوج هذه الجائزة رحلة إبداع طويلة وعامرة بروايات وقصص باتت من روائع الأدب العربى المعاصر، وحفرت اسم صاحبها بحروف من ذهب فى سجل الإبداع المصرى والعربى على السواء. ردود الأفعال المرحبة بفوز بهاء طاهر بجائزة ملتقى الرواية دفعت الكثيرين من عارفى قدره ومقدرى أدبه وقارئيه إلى الإعلان عن سعادتهم الكبيرة بهذا الاحتفاء والتكريم المستحق، معتبرين أن الكاتب الكبير لا تنقصه الجوائز ولا الاعتراف بمنجزه وما قدمه من أعمال ستظل تحتل مكانها فى تاريخ الرواية العربية، لكن الأهم من وجهة نظرهم ويحمل دلالة خاصة لهذا الفوز الأخير هو إجماع اللجنة المشكلة لمنح الجائزة (10 أسماء من كبار الكتاب والنقاد العرب ومنهم مصريون) على أن قيمة بهاء وأعماله تستحق التكريم فى كل وقت وتلفت الأنظار، خاصة بين الأجيال الجديدة الشابة، إلى النظر فى أعماله ومطالعة منجزه، والتذكير دائما بأن من لا يحتفى بالقيمة يهدرها ويهدر حق أجيال ناشئة فى التعرف على الكبار حتى وإن ظن البعض توهمًا أنهم نالوا ما يستحقون من تكريم واحتفاء. ست روايات، وخمس مجموعات قصصية، بالإضافة إلى كتب فى نقد الرواية والمسرح وترجمات لأعمال درامية، أنجزها بهاء طاهر خلال ما يزيد على أربعة عقود، ومنذ صدرت مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة وقصص أخرى» عام 1972، تم الإعلان عن ظهور كاتب كبير يمتلك حساسية فنية فائقة ورؤية ذات خصوصية ولغة فريدة، واستقبلها القراء والنقاد على السواء بحفاوة بالغة ورضا كبير، مما دفع الكاتب الكبير والمؤصل الشرعى لفن القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى يوسف إدريس إلى القول عنه بأنه «كاتب لا يستعير أصابع غيره»، لتكون هذه المقولة شهادة ميلاد بهاء طاهر الأدبية، وتعميده ككاتب قصة من أبرز وأهم أصوات جيله، جيل الستينيات الشهير. أما رحلة بهاء طاهر مع الرواية فبدأت مع صدور روايته اللافتة «قالت ضحى» عام 1983 التى وصفها الناقد الراحل الكبير على الراعى بأنها «أصدق محاولة لتضمين التراث المصرى الأدب المعاصر»، نشر بهاء طاهر روايته الأولى وهو يكاد يقترب من الخمسين من عمره، ولم يكن حينها أصدر سوى مجموعة قصصية وحيدة هى «الخطوبة»، لكن خلال السنوات الثلاث (1983-1985) أصدر بهاء طاهر روايتين ومجموعتين قصصيتين، ليملأ الدنيا ويشغل الناس لسنوات طويلة. كانت روايتاه «قالت ضحى» و«شرق النخيل» إعلانًا صريحًا وكبيرًا عن مولد روائى من عيار ثقيل، روائى مثقف ينضح بالموهبة والخصوصية، لا يعول على الكم، ولا تستثيره شهوة النشر، كان مدركا أن كل كتابة عظيمة هى وليدة معاناة ورحلة بحث أعظم، وبما أنه شديد الاعتداد والاعتزاز والفخر بتلمذته على الكاتب الكبير وأحد آباء القصة المعاصرة فى تاريخنا الأدبي، يحيى حقي، فقد تشرب منه واعيا ومدركا متطلبات ولوازم الصنعة الأدبية، وانحفرت فى وجدانه وعقله مقولته الذهبية التى لا يمل من ترديدها والتذكير بها فى كل مناسبة مواتية «خير لى أن أكون مقلا من أن أكون مدلسا»، هكذا يكون الكاتب الكبير. خلال الفترة من 1983 وحتى نوفمبر 2006 أصدر بهاء طاهر 6 روايات؛ بمعدل رواية كل خمس سنوات تقريبا، بدءا من «قالت ضحى»، و«شرق النخيل»، مرورا ب «خالتى صفية والدير» 1991، و«الحب فى المنفى» 1994، وصولا إلى «واحة الغروب» 2006، التى حصدت باقتدار الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر 2007) فى أول دورات انعقادها. بدا واضحا أن بهاء طاهر، يكتب بهدوء ويتأنى بين كل عمل والذى يليه، لا يعنيه الكم ولا السرعة فى الكتابة قدر ما يعنيه أن تكون الرواية التى يكتبها، مختلفة وصادقة لا تجتر ولا تكرر تجارب سابقة، يُعنى عناية شديدة بالأسلوب ولغة الكتابة، ويحفر بهدوء ودأب وصبر فى مدونة الإبداع الروائى كيف يختط لنفسه طريقًا مغايرًا، طريقًا فريدًا، لا يقلد أحدا ولا يسعى أبدًا لأن يكون كذلك. الأجيال الجديدة بهاء طاهر من الكتاب الذين يضربون نموذجا شديد الروعة فى التواصل مع الكتاب الجدد من الأجيال الأحدث، مستعيدا تجربته الذاتية مع أستاذيه يحيى حقى ويوسف إدريس، يبدى طاهر حفاوة بالغة بالتجارب الجديدة الجيدة ويحتفى بأصحابها الموهوبين، ومن ينسى حماسته الصادقة ودعمه الكبير لكل موهبة شابة جديدة، وإيمانه الحار بضرورة التواصل بين الأجيال، وكم من اسم واعد بشر به بهاء طاهر فى القصة والرواية، على سبيل المثال وليس الحصر أشرف الخمايسى وأدهم العبودى وسعد القرش وغيرهم، وأذكر أننى عندما سألته فى حوار أجريته معه قبل سنوات بعيدة عن رأيه فى ظاهرة التفاف بعض الشباب حول بعض شيوخ الكتابة الكبار مثل إبراهيم أصلان وخيرى شلبى وغيرهما، هل هى ظاهرة صحية ولها مردودها على الكتاب الشباب أم من الأفضل أن يستقلوا فى بداياتهم عن القرب من كبار الكتاب خشية الوقوع فى دائرة التأثر غير المرغوب، فأجابنى ضاحكًا:(وماذا فى هذا؟ أنا كان شيخى يحيى حقى وكنت مريده وأفخر بهذا وأعتز به، هذا ليس عيبا وطول عمره موجود.. طه حسين كان يقول شيخى «فلان»، أنت ككاتب ناشئ تحب وترغب فى أن تتواصل مع كاتب من كتاب الجيل الأسبق، ثم يزيدنى نورًا فيقول: «أظن أن المسألة ليست فقط مسألة شيوخ ومريدين أو تابع ومتبوع، المسألة مسألة الكلمة المناسبة التى ذكرتها أنت فى سؤالك، وهى التى تلخص الموضوع كله، وهى (التواصل).. أعتقد أن هذا (التواصل) واجب وفرض على الطرفين، على الجيل السابق وعلى الجيل الحالي، وغياب هذا التواصل شيء خطير جدا». وحينما سألته عن مدى استعداد هؤلاء الكتاب والاشتغال على تكوينهم المعرفى والثقافى والأدبى للتأهل للكتابة، أجاب: «من الظلم البين أن نطلق حكما عاما شديد العمومية على جيل كامل أو أجيال كاملة من مبدعى الأدب، وأن نفترض أنهم أو معظمهم تصدق عليهم فكرة أنهم غير مستوعبين للتراث السابق عليهم، وأنهم ليسوا مؤهلين بالقدر الكافى ثقافيا وفكريا لممارسة الإبداع.. ربما يصدق هذا الحكم على البعض ولا يشمل الكل، فبعض الشباب من القراء الجدد هم قراء ممتازون للأدب، وهم على قدر عال من الجدية والانضباط وعلى قدر عال من محاولة إثبات الذات فى كتابتهم عن طريق الإبداع وليس عن طريق الدعاية والإعلان.. قد لا يكونون هم الأكثرية لكنهم لهم وجودهم وإبداعهم المستقل». ما وراء الرواية بهاء طاهر عاشق قديم للرواية وأحد المسحورين بغوايتها منذ كان طفلا، فهو عاشق لها قراءة وكتابة.. ولا متعة لديه تفوق متعة قراءة الرواية، فهو يبدأ بقراءة الرواية بنوع من البطء يقرأ صفحات قليلة فى أول يوم ثم يتركها. وفى اليوم التالى يتسلل سحر الرواية إلى نفسه فيقرأ أكثر، ثم بعد ذلك يكاد يصل الليل بالنهار منغمساً تماماً فى القراءة إن كانت الرواية طويلة الحجم، وتصبح أحداث الرواية وأشخاصها عالمه الحقيقي، هكذا يكشف بهاء طاهر عن كواليس العشق فى كتابه اللافت والمهم «فى مديح الرواية» وهو من الكتب القليلة التى كشف فيها أحد مبدعينا الكبار ملامح تجربته مع فن الرواية، قارئا، قبل أن يكون كاتبا ويروى بهاء طاهر فى هذا الكتاب جانبا من تجربته الذاتية مع قراءة الرواية والتمتع بها واكتساب مهارات قراءاتها وتذوقها. يقول طاهر فى كتابه إن القارئ المدرب قادر على اكتشاف الرواية الحقيقية من الزائفة، كما أن كل رواية تحتاج إلى اجتياز اختبارين مهمين؛ الأول هو «حكم الجمهور» غير أن هذا الحكم قد يصيب وقد يخطئ؛ أى أن بعض الروايات قد تلقى بعد صدورها رواجاً ونجاحاً لأسباب لا علاقة لها بالفن، بينما روايات أخرى عظيمة قد تفشل ويعجز القارئ عن تذوقها، إلا أنه فى كثير من الأحيان يكون حكم الجمهور صائبا. والاختبار الثانى أو الحكم النهائى هو اختبار الزمن فمع مرور السنين تسقط من ذاكرة الجمهور والأدب الروايات التى لا تستحق الاعتبار فى حين تصبح الروايات الحقيقية جزءا من الذخيرة الباقية للفن الروائى وتكتسب حياة متجددة مع الأجيال المتتابعة من القراء. ويعتبر طاهر أن هذا هو أهم ما تعلمه من تجربته كقارئ للرواية وكاتبا لها فلا تخدعه مهرجانات المديح بروايات بعينها ولا حملات الهجوم على غيرها.