فى التصعيد الدولى الأخير بخصوص الصراع الدائر فى سوريا تكرر القول إن الرئيس بشار الأسد تجاوز الخطوط الحمراء باستخدامه السلاح الكيماوى ضد شعبه ، وبالتالى فإنه لا مناص من عقابه.و يلفت النظر هنا أن هذه الخطوط الحمراء لا ترتسم إلا حين يكون هناك تقدم للقوات السورية وحلفائها فى حلب مثلا أو فى الغوطة الشرقية ، أما حين تغزو القوات التركية الشمال السورى متخفية وراء المعارضة المسلحة أو حين يقصف الطيران الإسرائيلى المرة تلو الأخرى أهدافا على الأراضى السورية بل حتى حين تجاهر إسرائيل بأنها هى التى قصفت المفاعل النووى السورى فى عام 2007 فإن مثل هذه التطورات تعد من عاديات العلاقات الدولية ، الإشارة أمامها خضراء ولا حديث أبدا عن انتهاك الخطوط الحمراء. فى هذا السياق أودّ التذكير بأنه فى أبريل 2017 اتُهِم النظام السورى بمسئوليته عن الهجوم الكيماوى على مدينة خان شيخون بغاز السارين، وفى أكتوبر من العام نفسه أكد تقرير أممى هذا الاتهام لكن روسيا نفته لاعتماد التقرير على شهادات المعارضة وحدها دون زيارة لموقع الهجوم . ومع ذلك فلم يتصاعد التهديد الدولى ب «محاسبة» النظام السورى على واقعة خان شيخون إلا قبل أسابيع قليلة، و بالتزامن مع اقتراب الأسد من التوصل لاتفاق مع جيش الإسلام فى الغوطة . وإذا سألنا لماذا لم يحدث التصعيد الدولى قبل ذلك ؟ فالإجابة أن معركة جيش الإسلام فى الغوطة كانت تبدو معقدة وكان الانطباع السائد أن الغوطة ليست مثل حلب لكن المفاجأة أن غير المتوقع حدث ، وتقدمت قوات الأسد وحلفاؤها على أرض الغوطة لكن بقيت عقدة إجلاء جيش الإسلام ، حتى إذا تقدمت مفاوضات الخروج من الغوطة أثيرت واقعة القصف الكيماوى لدوما وألقيت مسئوليتها على الأسد وحلفائه، وإذا بالقطع البحرية الغربية تتحرك فى اتجاه الشواطئ السورية مع بدء العد التنازلى لمعاقبة «الحيوان» أو «الوحش» أو ميكانيكى «ميكيافيلي» وجميعها صفات أطلقها مسئولون أمريكيون وفرنسيون على الأسد ، وإذا بعشرات الخطوط الحمراء ترتسم على خريطة الصراع السوري. الملاحظة الأخرى على مسألة «الخطوط الحمراء» هذه هى أن راسميها ظهروا غير معنيين ولو شكليا بالنتائج المترتبة على التأزم الشديد فى العلاقات الأمريكية -الروسية ، والمنطق يقول إن هكذا تأزم ينبغى أن يحاط بأكبر عدد ممكن من دوائر اللهب . فمن متابعتى لكل التفاعلات المحيطة بقضية استخدام السلاح الكيماوى فى دوما تذهلنى هذه المفارقة الغريبة بين تشخيص الأزمة الدولية الحالية باعتبارها تهدد السلم والأمن الدوليين وتنذر باحتمالات مواجهة عسكرية أمريكية -روسية ، وبين الخفة الشديدة فى التعامل مع الحدث لا بل التخبط الشديد الذى ميز هذا التعامل . فمازال دونالد ترامب يخطط لهجوم صاروخى كبير بسيل من التغريدات المتتالية والمتضاربة ، فبعد أن يتغزل عبر إحدى التغريدات فى أسلحته وصواريخه «اللطيفة» والذكية والجديدة ويحذر روسيا من قرب هطولها على سوريا ، إذا به يعرب فى تغريدة أخرى عن استعداده لمساعدة الاقتصاد الروسى ورغبته فى أن «تعمل كل الأمم معا» علما بأن الفارق الزمنى بين تغريدتيه السابقتين أقل من ساعتين! ( الأولى فى 12،57 ظهر يوم 10 أبريل والثانية فى 1،37 ظهر تاليوم نفسه ).وبينما تقول المندوبة الأمريكية فى مجلس الأمن إن الولاياتالمتحدة ستتصرف بمفردها بغض النظر عن قرار المجلس، تصرح المتحدثة باسم البيت الأبيض بأن ترامب لم يتخذ بعد قراره بتوجيه ضربة إلى سوريا وإن كل الخيارات مطروحة على الطاولة . بل الأنكى أن أحدا لم يلتفت لما قاله المندوب السورى بشار الجعفرى فى جلسة مجلس الأمن حول تصريح خطير تلوزير الدفاع الأمريكى چيمس ماتيس قبل شهرين هذا نصه «لا أدلة على أن الأسد استخدم الغاز السام ضد شعبه». ونظرا لأن الشاهد مسئول كبير من «أهل» الإدارة الأمريكية تفإن من المهم أخذ شهادته بالجدية اللازمة ، وهذه الشهادة موثقة فى مقال كتبه إيان ويلكى بتاريخ 8 فبراير الماضى فى النيوزويك ويمكن الرجوع إليه، وبالتالى فإنه إما أن وزير الدفاع الأمريكى يجامل بشار الأسد ويحميه وهذا مستبعد بالتأكيد، أو أن المطلوب هو إذلال روسيا ومن ورائها الأسد بغض النظر عن عدم مسئوليتهما عن خان شيخون وهذا يذكرنا بكذبة السلاح الكيماوى العراقي. الفارق الوحيد بين العراقوسوريا أن شهادة وزير الخارجية الأمريكى على كذبة الكيماوى جاءت بعد غزو العراق أما شهادة وزير الدفاع الأمريكى فتسبق الهجوم على سوريا . بطبيعة الحال هناك تفاهمات تحت الطاولة بين الأمريكيين والروس ، وقد سبق لترامب تحذير بوتين من ضربة مطار الشعيرات وهو فى الأزمة الأخيرة لم يكتف بتحذير بوتين وحده بل كشف أوراقه أمام العالم كله. كما أننا شاهدنا القبلات المتبادلة بين المندوبة الأمريكية والمندوب الروسى بعد جلسة مجلس الأمن العاصفة قبل أيام ما يعنى أن هناك حدا أدنى من الود بين ممثلى الدولتين ، والمتحاربون لا يتوادون ولا يتبادلون القبلات . نعم هذا كله صحيح لكن من الذى يضمن ألا تقود سياسات حافة الهاوية إلى الهاوية ؟ ما الذى يمنحنا ثقة ترامب فى ذكاء صواريخه «اللطيفة» وقد طاش أكثرها حين استهدف مطار الشعيرات ؟ وكيف نتصور رد فعل روسيا على هكذا تطور بل وما الذى يجعلنا نطمئن إلى انضباط رد الفعل الروسى حتى وإن لم تُصِب الضربة الأمريكية جنوده؟ ت خلاصة القول إن القوى الكبرى بحاجة إلى مراعاة شيء من الاستقامة فى الخطوط الحمراء التى يرسمها سواء فى داخل سوريا أو فى خارجها، فلا أحد يبرئ بشار الأسد من جرائمه بحق الشعب السورى لكن فى الوقت نفسه فإنه لا أحد فى سوريا لم يتورط فى قتل شعبها. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد