كسرتُ قواعد السلوك المتحضر و أعراف «الإيتيكيت»، داخل الصرح الذى تتزاوج فيه عراقة الحضارة المصرية مع سلطة الذوق العصرى فى الفنون والآداب. دستُ على الحشائش واقتربت من مقعده العالى، كان فى كامل أناقته كالمعتاد. يضع ساقا فوق ساق . رفع يده اليمنى لتصنع صدى لأنفاسه ، إيكو ينظر فى حالة بين الدندنة وانتظار الوحى . يتابع بنظره من فوق مقعده العالى، ووفود المريدين وعشاق الموسيقى. مددت يدى برفق، لم يمد يده، اقتربت بحذر نقرت على حذائه اللميع بأطراف أصابعى. أصدر رنة كالطبل الأجوف، اندهشتُ، وكتمتُ غيظى، وخطرت لى فكرة انتقلت على أثرها للجانب المقابل الذى يجلس على ناصيته الموسيقار الروسى العالمى تشايكوفسكى، صاحب سيمفونية «الجميلة النائمة» مددتُ يدى وطرقتُ على صدره، أصدر صوتا نحاسيا ممتلئا وراسخا وثابتا، على قاعدته كانت الكتابة تشير إلى صانعه الفنان المصرى أسامة السروى. تمثال تشايكوفسكى من البرونز.. قادر على أن يتحدى الزمن، أما تمثال محمد عبد البوهاب، .. صاحب الدار والمقام الرفيع فهو من الأكريلك . ونفس الخامة إلى جواره تقف أم كلثوم بمنديلها الذى كان من الحرير الأبيض ، والعندليب عبد الحليم حافظ، كل قاماتنا فى ساحة دار الأوبرا عرايا فى مواجهة عوامل التعرية! قلت لنفسى فلأحتفل ب «صاحب النهر الخالد» على طريقتى الخاصة . ولم أجد فى ذكرى رحيله أفضل من سرد طرف من حكايته للأجيال، وكيف بدأها وارتقى حتى عاش على قمة المجد عقودا واليوم بعد 71 سنة من رحيله بقى على القمة محاصرا فى قلوب عشاقه فقط، أما فى ساحة الأوبرا مجرد تمثال من ورق ... وهذه بداية الحكاية صدفة سعيدة أقر الله عيون الشيخ عبدالوهاب المؤذن وقارئ القرآن بمسجد باب الشعرانى وزوجته ذات العفاف فاطمة حجازى بطفلهما الثانى محمد بعد حسن وقبل أحمد أرسله والده إلى كتَّاب الحى فحفظ القرآن فى الرابعة من عمره.. وبعدها شق الطفل محمد عبد الوهاب محمد عيسى أبو حجر طريقه خلف موهبته.. وانطلق .. التحق بالمدرسة الابتدائية وانتقل الأب إلى جوار ربه، احتمى الطفل فطريا بالغناء، كان ينتهز الفرص لحضور ليالى الطرب التى يحييها صالح عبدالحى.. ثم التحق بفرقة «فوزى الجزايرلى» على مسرح «الكلوب» المصرى باسم مستعار«محمد البغدادى» خيفة افتضاح أمره، مقابل 5 قروش فى اليوم عام 1917، لاحظ أخوه الشيخ حسن أن شقيقه ينشد باتقان بعض مقاطع للشيخ سلامة حجازى وأدهشه العمل فى السيرك، كان يتوق للعمل فيه، اكتشفوا أنه يليق فى دور البلياتشو وأصروا عليه، بينما أصر هو على الغناء فقط، فطردوه، انتقل للعمل فى مسرح عبدالرحمن رشدى بأجر ثلاثة جنيهات فى الشهر، كان يغنى كل ليلة فى مسرحية «الشمس المشرقة»، وتحكى الدكتورة رتيبة الحفنى.. كان لقائه بأحمد شوقى فارقا فى مسيرته، فقد كان أمير الشعراء يتردد على المسرح، لفت نظره ما يكابده كل ليلة، استدعى الحكمدار وسأله: كيف يقف هذا الطفل الصغير على الخشبة ويسهر كل ليلة حتى الفجر، فأمر الحكمدار بقطع صلة الطفل مع المسرح، شعر شوقى بك بالذنب بينما اعتبره الطفل نذير شؤم فكان يتحاشى مقابلته، والتقى بسيد درويش لأول مرة عام 1919 فاستمع اليه وكانت شهادته: هذا الولد «المفعوص» سيشقلب الدنيا، واختاره لدور البطولة فى مسرحية شهرزاد، حيث شاهده أمير الشعراء مرة أخرى، ولكن عن عمد، وأصر على أن يجعله قريبا منه، وشجعه على تعلم أصول الموسيقى فى ناديها المخصوص، أو عند الموسيقار المشهور محمد القصبجى، كما ساعده على تعلم قواعد اللغة العربية. وأعطاه أمير الشعراء جواز مرور إلى مجتمعات أهل القمة، وطبقة الأمراء ومجالس كبار المثقفين .. وأمن له الفتى، وعض على منحة الأمير بالنواجذ، فلم يفارق شوقى بك فى إقامته وأسفاره الفنية والمحافل الثقافية فى الشام وسوريا واسطنبول وباريس ولندن.. وحين مرض شوقى بك انتقل للإقامة معه فى بيته «كرمة ابن هانئ»، ورعاه وحين مات أمير الشعراء غنى محمد عبد الوهاب فى حفل تأبينه بمسرح الأزبكية كلمات الشاعر أمين عزت الهجين، أعزب وأصدق ألحانه الشخصية فى وداع أستاذه ووالده الروحى: حطموا الأقداح مثلما حطمت حزنا قدحى ودعوا الأفراح طوى اليوم بساط الفرح مات خير الشعر فابك يا قلبى فذا وقت البكا خلدوا ذكراه فى كل القلوب خلدوها مجدوا ذكراه شبانا وشيب مجدوها الفتى الأول مرت الأيام.. وتزوج عبد الوهاب السيدة زبيدة الحكيم وكانت ثرية ارستقراطية فأكملت رسالة أحمد شوقى فى دعمه وتنظيم لقاءاته مع العظماء فى صالونه الخاص، أما التى ألهمته أرق الأغنيات والموسيقى والأولاد فهى إقبال نصار ، انجب منها الأولاد عائشة وعصمت وعفت ومحمد وأحمد بالإضافة إلى ابنها طارق من زواج سابق. كما صار طفل الأمس فتى الغناء الأول ومعجزة الموسيقى العربية، وسافر إلى الشام مع فرقة الريحانى، وفى عام 1925 صاغ بعض الألحان التى تحمل رؤيته المتجددة فى الموسيقى، ولحن وغنى مسرحيات كليوباترا وخلال مسرحية مارك أنطونيو توفى سيد درويش فأكمل عبد الوهاب الغناء والتلحين، وغنى من كلمات أحمد شوقى للملك فؤاد «فى الليل لما خلى» عام 1929 وظل يعلو ويعلو فى السينما والمسرح حتى استغنى عن الغناء فى الحفلات عام 1940.. وواصل مسيرته الموسيقية حتى صار مطرب الملوك والأمراء وموسيقار الأجيال ولواء الفن ودكتور الموسيقى. عبقرية من نوع فريد طوال حياته الممتدة من ميلاده عام 1902 حتى رحيله فى 13 مارس عام 1991، وسجل التاريخ فى سفره الخالد أن «موسيقار الأجيال كان مصريا بالميلاد وبالعطاء الفنى الذى ملأ القرن العشرين، أبدع 78 أغنية وطنية غطت هموم الوطن وانكساراته وغنى بنفسه 266 أغنية كما لعب بطولة 9 أفلام، ولحن لأم كلثوم 9 أغنيات طويلة وكان لقاؤهما فى «هذه ليلتى» قرارا سياديا بأمر من عبد الناصر ونقلة فارقة فى تاريخهما وتاريخ الغناء العربى، وقوة مصر الناعمة. لحّن لكبار النجوم منهم عبد الحليم حافظ وفايزة أحمد ونجاة ، كان عبد الوهاب مصريا باستلهامه للتراث الفنى المصرى فأعطاه كل شيء ومصريا برعاية موهبته وعنايته بمؤلفاته الموسيقية التى وصلت إلى 56 عملا، وبمسرحه الغنائى (8 أعمال) وبألحانه التى تجاوزت الألف وثمانمائة لحنا، وكان إبداعا من صنع مصر يحمل جينات مقاومة الاندثار والمحو.. مثل الهرم وأبو الهول والنيل وقناة السويس والسد العالى شأن كل العطاء المصرى للإنسانية، وبقى واحد ممن وهبوا حياتهم لبناء الذوق المصرى المخصوص. لقاء رئاسى لم يكن فنان السلطة كما أشيع لكن لنبوغه وتفرده حرصت السلطة على أن يكون فى أول الطريق الذى يسلكه الحاكم إلى قلوب الناس، غنى فى حضرة الملك فؤاد والملك فاروق فمنحه نيشان النيل، واقترب منه جمال عبد الناصر وأدرك قيمة لقائه بسيدة الغناء أم كلثوم ومنحه قلادة الجمهورية عام 1965وجائزة الدولة التقديرية عام 1970، وقربه إليه الرئيس السادات وحصل على الدكتوراه الفخرية عام 1975، وكان «الموسيقار» فى استقباله يوم عودته من زيارة القدس، ووافق القائد الأعلى للقوات المسلحة على منحه رتبة لواء، ليقود الفرقة الوطنية للموسيقى العسكرية وأعاد توزيع السلام الوطنى بما يلائم المرحلة الجديدة! أما علاقته بالرئيس مبارك فيلخصها موقف حكاه الدكتور مصطفى الفقى «سكرتير الرئيس للمعلومات» حين رن جرس التليفون فى رئاسة الجمهورية ورفع السماعة: أنا الدكتور محمد عبد الوهاب ورغم نبرات صوته المميزة رد الدكتور الفقى: أهلا معالى الوزير ( وقد ظنه وزير الصناعة الذى كان يحمل نفس الإسم ) ازاى متعرفش صوتى يا دكتور مصطفى .. دا أحنا «قرايب» أهلا فنان الشعب العظيم .. العتب على السمع.. بس حكاية «قرايب» مش فاهمها أنت ألفت كتاب عن الأقباط فى الحركة الوطنية ومكرم عبيد كان فى طليعتهم. معناته إيه ياأستاذنا الجليل؟ انت ما تعرفش إن مكرم باشا عبيد كان صديق روحى واللا إيه يا دكتور؟ هه هه هه .. ونقل الدكتور الفقى رغبته فى لقاء الرئيس .. فكان رد مبارك: عاوز إيه «الراجل ده» .. طيب خلى جمال عبد العزيز يرتب ميعاد.. وتتواصل الرواية عن الفقى : ..جاء محمد عبد الوهاب..وأخذته من يده .. وسلم على الرئيس . وجلس .. وكلما أردت الانصراف حتى يبدأ الكلام طلب منى الرئيس البقاء «اقعد يا مصطفى»! واستمر الصمت.. وانتظر الرئيس أن يتكلم عبدالوهاب.. «ماتكلمش وظل الرئيس ينتظر».. حتى تكلم عبد الوهاب أخيرا بطريقته المؤدبة ورجاه تعيين أحد أصدقائه بمجلس الشورى ثم قال: لى الشرف أنى قابلت ملوك مصر ورؤسائها.. فاروق.. ونجيب وجمال والسادات الله يرحمهم جميعا فرد الرئيس مبارك ضاحكا.. «وان شاء الله ناوى تقابل اللى بعد منى كمان»؟! تظهر الحكاية أن علاقة مبارك بالفن وأهله مثل علاقة المشير عامر بقصة سيدنا يوسف، عيل تاه عن أهله وفى الآخر وجدوه! لكن بعد وفاة عبد الوهاب أقيمت له جنازة عسكرية بقرار من الرئيس كما منحه مبارك وشاح النيل عام 1991وهو أعلى الأوسمة المصرية. المعركة الأخيرة خاض «موسيقار الأجيال» محمد عبد الوهاب عدة حروب فى حياته وكان «قادرا» على أن يخرج رابحا فى كل معركة، مستندا إلى مكانته ، حتى أغنيته الأخيرة «من غير ليه» التى أبدعها، ظلت درسا لكل من يتخيل أن الفن الحقيقى يشيخ أو يموت . طُويَ البساطُ وجفت الأقداح وغدت عواطلَ بعدُك الأفراحُ برحيله طوى البساط وتعطلت الأفراح ولاشيء يعوضه عند محبيه الذين ظلت معاركهم الحفاظ على تراثه وتخليد ذكراه بينهم لوتس عبد الكريم التى أثارت فى كتابها الجديد «سيرتى وأسرارهم» عن الدار المصرية اللبنانية جانبا من محاولات محو عبد الوهاب وإهمال تراثه.. وشقته التى أخليت تماما من كل ما بها من تحف وملابس وأوراق خاصة ومخطوطات بعد وفاته، وهداياه الثمينة ومنها ساعة تعود للخديوى إسماعيل ، وبعد مغادرة زوجته الثالثة نهلة القدسى مصر إلى الأردن حيث غادرت الدنيا إلى جوار ربها ومعها « مفاتيح « أسراره وهداياه وتركته الفنية والمالية!. كان أحرى بالدولة المصرية أن تتحرى وتتسلم شقة الزمالك التاريخية التى قام بعمل ديكوراتها الفنية فؤاد سراج الدين باشا رئيس حزب الوفد الأسبق على نفقته، وأن تجعل مصر منها متحفا فنيا لموسيقار الأجيال، خاصة وأن متحف الفنان الكبير فى معهد الموسيقى العربية يعانى قلة الإمكانات فيما يحتويه باستثناء تمثاله الذى أهدته للمعهد «لوتس عبد الكريم» ،وهو المعهد الذى شهد تلمذته على يد سيد رحمى فى الموشحات ودروسه فى العود برعاية القصبجى كما شهد أنه «أعطى دروسا بعد ذلك فى الأناشيد وكان من تلامذته مصطفى وعلى أمين واحسان عبد القدوس وصالح جودت».. كما تثير لوتس عبد الكريم قضية منزل عبد الوهاب فى باب الشعرية، وكيف لا يتحول إلى متحف مثل منزل بيتهوفن الكائن فى الزقاق الضيق القديم الذى ولد به فى مدينة بون الألمانية، واحتفظ بمدوناته وكل ما خطت أصابعه وأدوات العزف القديمة والسماعات والنظارة الطبية وصوره النادرة. تمثال صعب آخر ما بقى من عبد الوهاب بعد تراثه الغنائى والموسيقى الكبير مقاوما للمحو هو تمثاله الذى صنعه المثال الكبير عبد العزيز صعب من الجص والذى ظل يستغيث وحيدا فى أستوديو متواضع بالمطرية. ولولادة هذا التمثال قصة بدأت منذ وقع الاختيار عليه من هيئة السينما عام 1982. وكان يرى أن الشخصية التاريخية الفذة لا يمكن تصويرها إلا بالمعايشة والمصاحبة اليومية، وقبل الموسيقار الكبير أن يجلس معه لساعات طويلة «تناغشنى وأناغشك».. وتمت «المناغشة» فى صالون الموسيقار وفى بيته بالزمالك يوماً بعد الآخر حتى تمكن المثّال من إنجاز التمثال بالمفهوم الإنسانى لشخصية عبد الوهاب الفريدة فى تركيبها. كان يجلس على قاعدة مرتفعة كأنه أحد آلهة الإغريق يحلق فى آفاق غامضة. وكل زاوية ينظر منها إلى التمثال تزيح الستار عن خصلة من خصاله.. تعبر عن فهم ومعايشة من المثال للفنان فى لحظات القلق والدندنة والتوتر والهيبة والتواضع. وبعد أن أنجز التمثال من الطين الأسوانى فى حياة عبد الوهاب ترك على حالته لأنه لم يتحمل تكلفة صبه بالبرونز، وعاش الحلم فى المطرية ينتظر من يحول حلم موسيقار الأجيال إلى حقيقة! باكتتاب على غرار ما تم لتمثال نهضة مصر للرائد محمود مختار الذى اكتتب الشعب المصرى لمدة عشر سنوات (1919 1929) حتى أقامه من الجرانيت. أتذكر ما قالته الراحلة سعيدة منصور لزوجها الفنان يوسف وهبى عميد المسرح العربى حين وعدته أن تبنى باسمه مسرحا خاصا لتعوضه عن مسرح مسيس ومسرح الجمهورية الذى أممته الدولة، رقال لها يوسف وهبى: الأفضل أن تبنى لى مقبرة !، ولأن مقبرة عبدالوهاب قد تغيرت معالمها لم يعد أمامنا إلا أن يكون له متحفا يليق بالرجل الذى ألبس مصر حلة من الذوق الرفيع، وهنا نتساءل.. هل تضن الدولة بإحياء منزل عبد الوهاب وإضافته كمقصد سياحى جديد وتحول الخراب الذى حل به إلى حياة خالدة أم يكون مصيره مثل منزل أم كلثوم الذى ترك نهبا للأطماع من الأقارب والمستفيدين والمنتفعين؟!. ألا يجدر ب «مصرالجديدة» و وزارة ثقافتها وهى تسعى لإحياء تاريخ القاهرة الفاطمية ومجد أحيائها القديمة أن تبنى متحفا يحمل اسم عبد الوهاب فى شارع الشعرانى الجوانى الذى بناه «أبو الفتوح برجوان الصقلبى الفاطمى عام 1000 ميلادية»... وتنقل إليه رفاته ومتعلقاته وتاريخه ليظل موسيقار الأجيال موجودا وحاضرا وليس مجرد «تمثال من ورق»؟!