فى وقت فى مصر تتعالى فيه الأصوات المعادية للفن بجميع أنواعه، وتحرمه كلية وتحاكم أهله، ووسط غياب واضح للأصوات الغنائية الجميلة، تجىء الذكرى الحادية والعشرون لرحيل فنان الشعب وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، لتذكرنا بأهمية الدور الذى لعبه ذلك الفنان الفذ على مستويات عديدة، من أجل تطوير الغناء العربى والموسيقى العربية والسينما الموسيقية والتمثيل والأناشيد الوطنية. ينتمى المطرب والملحن والممثل محمد عبد الوهاب لجيل رائد من الفنانين العظام الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إرساء وتأسيس المدرسة المصرية فى الموسيقى والغناء فى أوائل القرن العشرين، بعد المحاولات المهمة لموسيقار الشعب الفنان الرائد «سيد درويش» الذى رحل عن عالمنا فى سن صغيرة. ويعد عبد الوهاب أيضا ابنا مخلصا من أبناء ثورة 1919 الذين حلموا بتمصير كل الفنون وإظهار عظمة مصر وتاريخها وإنجازها الحضارى الكبير من خلال الإيمان بأن مصر هى أصل كل الفنون. وعبر عمره الفنى المديد الذى غطى معظم سنوات القرن العشرين، نجح محمد عبد الوهاب باقتدار فى إكمال مسيرته الفنية حتى أوصل الموسيقى العربية إلى مكانتها اللائقة التى تستحقها بين موسيقات العالم، بعد أن خلصها من عيوب مرحلة البدايات وأدخل فيها عناصر جديدة من الموسيقى الغربية حتى تصبح مسايرة للعصر الحديث. ويرجع الفضل لعبد الوهاب فى إدخال العديد من الإيقاعات الغربية مثل الفالس (فى «قصيدة الجندول») والروك أند رول (فى طقطوقة «يا قلبى يا خالى» لعبد الحليم حافظ) إلى موسيقانا العربية، التى كانت لا تزال متأثرة بالموسيقى التركية المختلفة عن لغة العصر الموسيقية فى ذلك الوقت. وقدم تجديداته الموسيقية فى الأشكال المعروفة فى الأغنية العربية مثل المونولوج الغنائى والقصيدة الغنائية والطقطوقة الصغيرة. وتعلم عبد الوهاب الفن فى بيت أمير الشعراء أحمد شوقى الذى تبنى «عبد الوهاب» وقدمه للحياة الثقافية والصحفية والفنية فى مصر، وغنى لأعظم الشعراء أمثال أحمد شوقى وعلى محمود طه وغيرهما. ولحن لعدد كبير من المغنين والمغنيات فى مصر والعالم العربى أمثال كوكب الشرق أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وليلى مراد وفايزة أحمد وفيزوز وأسمهان ووردة الجزائرية وطلال المداح وغيرهم. ويعتبر التعاون الفنى بين عبد الوهاب وأم كلثوم من علامات العصر الفنية الكبرى، ولقاء السحاب كما أطلقت عليه الصحافة المصرية فى حينها، وقد لحن لها «عبد الوهاب» عددا من الأغانى العظيمة مثل «إنت عمرى» و»إنت الحب» و»أمل حياتى» وفكرونى» و»هذه ليلتى» و»دارت الأيام» و»أغدا ألقاك» و»ليلة حب». وكما أضاف عبد الوهاب الكثير لفن الغناء وطور الموسيقى العربية بقوة، فإنه أحدث أيضا طفرة كبيرة فى السينما الموسيقية، ونجح فى ربط التمثيل بالموسيقى فى الفيلم الغنائى بدرجة درامية محكمة، حتى وصل إلى درجة عالية من الرقى والتطور الفني ، ومهد الطريق لرواد الفيلم الغنائى من بعده أمثال عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد فوزى وغيرهم. وقام عبد الوهاب بالتمثيل فى سبعة أفلام سينمائية بين الفترة من 1933-1949 تمثل علامات مهمة فى تاريخ صناعة السينما المصرية والفيلم الغنائى المصرى، وهى: «الوردة البيضاء» و»دموع الحب» و»يحيا الحب» و»يوم سعيد» و»ممنوع الحب» و»رصاصة فى القلب» و»لست ملاكا و»غزل البنات». وكان عبد الوهاب أيضا مثالا للوطنية المصرية الخالصة المحبة لمصر والمصريين، وكان كذلك نموذجا للاستقراطية المصرية الوطنية فى أبهى صورها. وحصل «عبد الوهاب» على عدد كبير من الأوسمة والجوائز والنياشين فضلا عن حب الجمهور واحترامه وتقديره، وتم إنشاء متحف له يحتوى على معظم مقتنياته الخاصة بجوار معهد الموسيقى العربية بالقاهرة، وأيضا اقيم له تمثال فى منطقة باب الشعرية فى القاهرة حيث نشأ تكريما له.