في دراسة متعمقة لتطورات الأوضاع في شرق وجنوب البحر المتوسط عقب الانتفاضات الشعبية المتتالية, قامت مؤسسة بروكينجز بالتعاون مع معاهد أوروبية مرموقة مثل المعهد الإيطالي للشئون الدولية بعقد عدد من ورش العمل المغلقة لتحليل الثورات العربية من مختلف جوانبها . من ناحية وتأثير تلك الثورات علي العلاقات بين الغرب والعالم العربي في ظل تحولات درامية غير مسبوقة, في مقدمتها التقدم بخطوات عملاقة نحو تبني الديمقراطية وبناء مجتمعات أكثر انفتاحا. وتعرض الأهرام أهم نتائج الدراسات التي تضمنها كتاب يحمل عنوان المجتمع العربي في حالة تمرد: الغرب في مواجهة تحدي المتوسط والمحرران الرئيسيان هما أوليفيه روي الباحث الفرنسي الشهير في شئون الحركات الإسلامية وسيزاري مارليني الباحث الإيطالي المعروف. وينقسم الكتاب إلي قسمين رئيسيين الأول: التغير المجتمعي في العالم الإسلامي العربي والقسم الثاني: التوابع وخيارات السياسات ومنها السياسة الأمريكية تجاه شمال إفريقيا والعلاقات الأورو متوسطية والغرب والتحدي الإسلامي وتحدي التغيير في الإسلام العربي وتأثيره علي العلاقات عبر المحيط الأطلنطي. ونعرض اليوم لأهم أفكار القسم الثاني من الكتاب. يقول جوناثان لورانس في فصل خاص, من كتاب العالم العربي في حالة تمرد عن السياسات الأمريكية تجاه دول شمال إفريقيا في القرن الحادي والعشرين أن الدوائر الغربية لم تصبها المفاجأة تماما مثلما حدث في حوادث الإرهاب الشهيرة في عام1002, حيث كان هناك خبراء ومحللون من إدارتي جورج بوش وباراك أوباما علي قناعة بأن أيام النظامين المصري والتونسي معدودة نتيجة عدم مواكبة الإصلاح السياسي والاقتصادي للتغير الاجتماعي وظهور إتجاهات جديدة بين السكان غير معهودة من قبل. ويشير لورانس إلي أن المعضلة الجماعية التي واجهت كل صانعي السياسة الخارجية الأمريكية تمثلت في معرفة أن الأوضاع السابقة لم يكن ممكنا الحفاظ علي إستمراراها فيما يزداد الغضب الداخلي والخوف من المجهول وهو تغيير النظام. لكن الوثائق الدبلوماسية التي تم تسريبها في عام0102, كشفت عن درجة من البرجماتية في استمرار دعم أنظمة سلطوية. ويقول الخبيران في تحليلهما أن الوصفة الفعلية للشروط التي أدت إلي وقوع ثورة سياسية لا يمكن تحديدها بدقة إلا أن التغيرات الاجتماعية التي وقعت في العقد الماضي في شمال إفريقيا جعلت من الإصلاح السياسي أمرا حتميا, ويشيرا إلي أن الولاياتالمتحدة إلتزمت بدعم التحول الديمقراطي في المنطقة رغم الصعوبات التي واجهت الديمقراطية في العراق وقد كانت واشنطن في جانب موقف حركة كفاية في مصر والتي مهدت للمواجهة مع النظام في الفترة ما بين عامي3002 و5002 وتعتبر هي الحركة التي بدأت نظرية الدومينو وانتهت بسقوط حكم حسني مبارك. وهي خلاصة ربما يختلف معها الكثيرون. في الوقت نفسه, واصلت القوي الإسلامية وجودها الملموس في دور العبادة حيث مارست علي طريقتها قدرا من التغيير الاجتماعي في غياب الديمقراطية والحكم الجيد وحرية تكوين الجمعيات, وفي المقابل, ظلت السياسة الرسمية في قبضة الطبقة الثرية والفاسدين وهو ما جعل الدين ملاذ الأغلبية الصامتة في البلاد. وفي تحليل موقف الإدارة الأمريكية من موجة الصحوات العربية, تشير الدراسة إلي أن أوباما قد تجنب في العامين السابقين علي الانتفاضات الشعبية الدعوة إلي تطبيق الديمقراطية في الدول الصديقة في الشرق الأوسط ولكنه ركز علي توفير البيئة والشروط اللازمة للتحول الديمقراطي دون اللجوء إلي اللغة الخشنة في التعامل مع الأنظمة السلطوية الصديقة. وقد كانت الحالة العراقية بالنسبة لبوش هي تقديم المثل للأنظمة الأخري عن كيفية التحول الديمقراطي إلا أن إدارة أوباما قررت من بداية وصوله للحكم أن تبتعد عن إستراتيجية الضغط علي الحكام إلي سياسة بدء نقاش حول وضع شروط علي المساعدات الأمريكية من أجل خلق مساحة داخلية أكبر للمنظمات غير الحكومية والنمو الاقتصادي في مصر ودول أخري. ويقول الباحثان ان الإدارة الأمريكية قد تبنت مفهوما أوروبيا حول التحول الديمقراطي يقول انه لو لم يمكن للديمقراطية أن تنمو في غياب الطبقي الوسطي البرجوازية القوية, فليكن التحرك هو دعم ومساندة أبناء الطبقة الوسطي المؤمنين بقيم الديمقراطية, وبالتالي أوباما يتفق مع جورج بوش في الأهداف ولكنهما لا يتشاركان في طرق تحقيق تلك الأهداف. وفي خلاصة حول العلاقات المصرية الأمريكية, تشير الدراسة إلي أن الديمقراطيين والجمهوريين سعوا في إدارات أمريكية متتالية إلي التخفيف من انطباع أن التعاون الثنائي في الحرب علي الإرهاب يخدم الأنظمة الديكتاتورية. وقد أتاح التدخل العسكري في ليبيا في عام1102 لعب دور في محاولة تعديل صورة الولاياتالمتحدة لدي شعوب المنطقة, حين أسهمت الضربات الجوية في سقوط معمر القدافي في قبضة قوات المعارضة, وهو ما يراه الباحثان واحدا من مساعي إزالة الصورة السلبية التي تكونت في العالم العربي, خاصة بعد أن كشف المتظاهرون في ميدان التحرير عن استخدام قوات النظام السابق لعبوات الغاز المسيل للدموع صناعة أمريكية بكثافة طوال المواجهات بين الثوار وقوات الأمن في أيام الثورة في يناير وفبراير من العام نفسه. ويقول خبير شئون الإرهاب بروس ريدل: عملية ليبيا كانت تدخلا مثاليا حيث لم تطأ قدم جندي أمريكي الأرض ولم تقع إصابات أمريكية ولم تتحمل واشنطن أعباء في اليوم التالي لسقوط النظام السابق. ورغم صعوبة التنبؤ بمستقبل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط إلا أن القدرة علي التأثير في مستقبل التحرير الاقتصادي ومكاسب الأفراد من اتفاقيات تحرير التجارة هي التي يمكن أن تحدد مستقبل علاقة أمريكا بدول جنوب وشرق المتوسط. في الماضي, كانت الأجندة الأمنية تفوق أهميتها الأجندة الاقتصادية.. واليوم, من أجل دعم الطبقات المتوسطة الفقيرة والعاطلين عن العمل يستوجب علي الإدارة الأمريكية أن تفعل كل ما في وسعها حسب دراسة بروكينجز لتجنب مساندة حكم الأقلية وإحتكار الأقلية في الدول الصديقة بالعالم العربي بمعني آخر, مصالح الأمن القومي الأمريكي المتصلة بالتعاون العسكري والأمني يجب أن تتوازن مع إستخدام أساليب القوة الناعمة في العلاقات مع الدول الحديثة العهد بالديمقراطية في الشرق الأوسط. في الفصل الأخير يناقش سيزاري ميرليني تحدي ما سماه الإسلام العربي المتغير علي العلاقات بين أمريكا وأوروبا ويقول أن سياق الثورات في شمال إفريقيا يشير إلي تطورها داخليا دون تأثير كبير علي سائر المنطقة في المستقبل المنظور وإن بقيت مصدر إلهام لشعوب أخري في المنطقة العربية التي تتوق إلي الديمقراطية, خاصة تأثير الحالة المصرية بحكم ثقل مصر في العالم العربي. في ضوء ما سبق, يبدو الأمن القومي للدول الغربية لن يتأثر كثيرا بنتائج العملية الدائرة في شرق وجنوب المتوسط بما في ذلك القارة الأوروبية التي تتعرض لهزات نتيجة إمدادات الطاقة وموجات الهجرة من دول جنوب المتوسط.. إلا أنه رغم كل التوتر الناشئ عن الإنتفاضات العربية تظل تلك القضايا تحتل مرتبة ثانوية للغرب بشكل عام وينصب الاهتمام بالوضع في دول الربيع الديمقراطي في عاصمة غربية بعينها عندما يحدث أن تتأثر المصالح الوطنية لتلك الدولة بشكل منفرد مثل موقف الولاياتالمتحدة من الوضع في مصر وموقف فرنسا من الوضع في سوريا وينظر الباحث الإيطالي إلي ضرورة بناء علاقات اوسع وشراكة أكثر إيجابية مع دول ساحل جنوب المتوسط حتي تصبح محطة مهمة لإستعادة الثقة مع سائر العالمين العربي والإسلامي والتخلص من الصورة السلبية لأمريكا وأوروبا بعد أن أصبحت قوي الإسلام السياسي جزءا من العملية الديمقراطية في بلدانها وتفتح الناقش الإيجابي أيضا إزاء أوضاع المهاجرين من الدول الإسلامية في المجتمعات الغربية وكيفية تبني المسلمين في الغرب لأفكار وسياسات جديدة تجاه بلدانهم الأصلية مع ملاحظة أن الصورة الذهنية في أوروبا تختلف عن الولاياتالمتحدة, ففي الأولي الهاجس هو النقاش الدائر حول مجتمع متعدد الثقافات في ظل مخاوف متزايدة بشأن معدلات الجريمة والتنافس علي الوظائف الجديدة من جانب المهاجرين بينما في الثانية يتخوف المسلمون من موجة معاداة اليمين المسيحي لهم وهو ما يظهر بوضوح في الحملات الانتخابية بما يهدد بوضع الإسلام في صدام مع المجتمع الأمريكي. ويقول ميرليني في ختام الكتاب أن تطوير العلاقات بين الغرب ودول الربيع العربي يحتاج إلي طاقات إبتكارية جديدة علي مستويين الأول مؤسسي علي الصعيد الداخلي والدولي والثاني يرتبط بتشجيع المجتمع المدني والقطاع الخاص للقيام بأدوارهم في العملية الجديدة.