في دراسة متعمقة لتطورات الأوضاع في شرق وجنوب البحر المتوسط عقب الانتفاضات الشعبية المتتالية, قامت مؤسسة بروكينجز بالتعاون مع معاهد أوروبية مرموقة مثل المعهد الإيطالي للشئون الدولية بعقد عدد كبير من ورش العمل المغلقة لتحليل الثورات العربية من مختلف جوانبها من ناحية, وعلاقات تلك الثورات بما سيطرأ علي العلاقات بين الغرب والعالم العربي في ظل تحولات درامية غير مسبوقة, في مقدمتها التقدم بخطوات عملاقة نحو تبني الديمقراطية وبناء مجتمعات أكثر انفتاحا. وتعرض الأهرام لأهم نتائج الدراسات التي تضمنها كتاب يحمل عنوان المجتمع العربي في حالة تمرد: الغرب في مواجهة تحدي المتوسط, والمحرران الرئيسيان هما أوليفيه روي الباحث الفرنسي الشهير في شئون الحركات الإسلامية وسيزاري ميرليني الباحث الإيطالي. وينقسم الكتاب إلي قسمين رئيسيين الأول: التغير المجتمعي في العالم الإسلامي العربي, والقسم الثاني: التوابع وخيارات السياسات, ومنها السياسة الأمريكية تجاه شمال إفريقيا والعلاقات الأورو متوسطية والغرب والتحدي الإسلامي وتحدي التغيير في الإسلام العربي وتأثيره علي العلاقات عبر المحيط الأطلنطي. في مقدمة الكتاب يقول ستروب تالبوت مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ورئيس مؤسسة بروكينجز للأبحاث إن العالم العربي سوف يستمر في حالة التمرد ولن يستكمل ما بدأته الشعوب قبل عدة سنوات وربما عقود قادمة, بينما يقول سيزاري ميرليني وأوليفميه روي( محررا الكتاب) إن كل ركن من أركان العالم يشهد عملية تحول اليوم نتيجة اتساع دائرة التفاعل والإتصال وتبادل المنافع بين الشعوب وتبادل الأفكار أيضا, في وقت لم تعد الحروب العابرة للحدود او الحروب الأهلية إلا استثناء في عالم اليوم. ويقول روي وميرليني إن هناك عددا من الملاحظات المبدئية علي الصحوات العربية الأخيرة يمكن إجمالها تحت عنوان عريض ربما يبدو قاسيا وهو انها ثورات بلا ثوار بسبب غياب طليعة الثورة من الشباب والمثقفين ممن قادوا الميادين في مصر وتونس عن قيادة بلدانهم بعد الإطاحة بالأنظمة القديمة, وغياب أي مشروع سياسي واضح يمكن أن يشكل بديلا معقولا للحكومة في ظل عدم قدرة شباب الثورات عن إطلاق أحزاب سياسية وهو ما جعل الكاتبين أن يقولا بوضوح أن شباب الثورات لم يتصرفوا كثوريين حقيقيين, حيث بلدانهم مازالت في قبضة نخب الماضي بما في ذلك القوي الإسلامية الصاعدة وقوي اخري تمثل الماضي لأنها قوي محافظة وتقليدية بغض النظر عن خلفياتهم سواء كانوا من الإسلاميين أو العسكريين, وكلاهما لا يعدون ثوريين أيضا.. ومع ذلك, فإن الانطباع السائد بأن ثورة قد حدثت! وهناك أيضا قبول الإسلاميين بالعملية السياسية والتوصل إلي تسويات سياسية.. وهم بقبولهم التصويت الشعبي مطالبون للمرة الأولي في تاريخهم بأن يسعون لإرضاء الناخبين من خلال تحقيق تقدم في حياة الأفراد والمجتمعات. والملحوظة الثالثة, هيمنة الطابع المحلي علي حركة الاحتجاج علي الرغم من إنتقال العدوي بسرعة من بلد لآخر, حيث بدأت في شمال إفريقيا ثم امتدت لعام كامل تقريبا في دول عدة بفضل الاتصالات السلكية واللاسلكية المنتشرة اليوم للغاية. كما ظهر في مصر وتونس وليبيا خطاب وطني واسع النطاق ونادرا خلال أيام الثورات ولم يرتبط بالتيارات المتشددة في تلك الدول إلا أن السمة الواحدة في تلك الثورات المحلية الطابع لم يصحبها اتجاها مسلحا لنشر الثورات في الخارج رغم الاهتمام الإعلامي الضخم في الشرق والغرب. ومرة أخري, يشير الكتاب إلي أن افتراض وجود ثورة بلا ثوار هو السبب وراء غياب الطابع العابر للحدود عن الصحوات العربية. ويقدم روي وميرليني دليلا عمليا من الثورات علي الافتراض السابق بالإشارة إلي الثورة الإيرانية, حيث أقدم الثوار علي الإمساك بزمام السلطة وعدم منح أحد أخر الفرصة لسرقة ثورتهم ولم يلتفتوا إلي بناء تحالفات وإنتهي بهم الحال في موقع السلطة ثم سعوا إلي تصدير الثورة إلي دول أخري في الشرق الأوسط ومواجهة القوي الكبري في مرحلة لاحقة, وهؤلاء من يمكن أن نطلق عليهم ثوريون.. رغم ما سبق, يقول الكتاب أنه علي الرغم من أن الحركات الاحتجاجية التي هزت معظم بلدان شمال افريقيا لم تصل الي حد إحداث استبدال الطبقات السياسية, إلا أن التحولات التي أدت إلي الربيع العربي لا رجعة فيها لأنها ستؤثر علي نسيج المجتمعات. وهناك ثلاثة جوانب لتلك العملية, الأول مسألة تتعلق بتغير حقيقي للأجيال. فقد تغيرت التركيبة السكانية للمنطقة, ولاسيما خلال السنوات العشرين الماضية, وذلك بسبب الانخفاض في معدلات الخصوبة. اليوم معدل الخصوبة في تونس أقل من فرنسا وهناك مساواة بين الجنسين أكثر من السابق وزواج في سن متأخر, وعدد أقل من الأطفال, وجيل أكثر تعليما من والديهم, وأكثر عرضة للفهم والتحدث الأجنبي, وأكثر ارتباطا بالعالم هذا الجيل الشاب يميل إلي أن يكون أقل وضوحا من قبل بشأن إطار الأسرة والمجتمع الأبوي التقليدي وتقويض البني الاجتماعية القديمة وهو ما يحمل في طياته بذور تغيير في الطريقة التي كان الناس يرون أنفسهم. ونتيجة لذلك, فإن شخصية الأب التي يجسدها الزعيم الكاريزمي العظيم لايصمد طويلا, وهو ما يقودنا إلي الجانب الثاني من التغيير, وتتعلق بالثقافة السياسية. سقوط أسطورة القائد العظيم, المفترض أن يسير الشعب وراءه سواء كانت عقيدته عربية قومية, أو إسلامية أدت إلي أن يصبح الناس أكثر فردية يميلون إلي أن يسألوا عن الحكم الرشيد والمواطنة وليس أيديولوجية. حتي الدعوة لاسترداد الكرامة, هي مسألة شخصية اليوم, بدلا من مسألة الشرف, كقيمة جماعية. كما تبخرت الدعاية الفجة, مثل القول إن الديمقراطية مؤامرة لتدمير وحدة الشعب العربي. والجانب الثالث لهذا التحول هو الدين. الإسلاميون في الواجهة السياسية اليوم, ومع ذلك, المشهد يشير إلي أنهم لا يشكلون كتلة صلبة. وهم أيضا يواجهون موجة من النزعة الفردية والرفض المتزايد للسلطة من أعلي إلي أسفل. ويقول الباحثون أن ما يحدث يشير إلي إن تلك التحولات المجتمعية من شأنها أن تؤثر علي النظرة الدينية للعالم الإسلامي في المستقبل. فهناك سوابق لأنواع مماثلة من التطور في بلدان أخري, بما في ذلك الدول الغربية منها. ومن الأمثلة, في الولاياتالمتحدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد توحد الأمريكيون طوال تاريخهم حول خصوصيتهم بين الدول الغربية من حيث أهمية بالإجماع الدين والتردد علي دور العبادة وخلال الثمانينيات والتسعينات شهد المجتمع تغيرات مهمة ومعظم الطوائف المسيحية قاومت في البداية ولكن بعد ذلك تم استيعاب التحولات المجتمعية المتلاحقة التي تؤثر مباشرة علي عقيدة الكنيسة, مثل الطلاق, ووسائل منع الحمل, وقضية الإجهاض. هذا يقودنا إلي تأكيد حقيقة أنه كانت هناك حالة من سوء التقدير في الغرب عن وضع الدين في شمال أفريقيا, علي الأقل في مرحلة مبكرة. كان الرأي السائد أن الاضطراب السياسي, مثل تطبيق ديمقراطية كاملة, أو التحول الاجتماعي, مثل تحرير المرأة, في أوساط العرب المسلمين, يجب ان تسبقه مرحلة العلمنة أو نوع من الإصلاح الديني. وهذا المنظور يتجاهل تاريخ المسيحية, في حين أن علم اللاهوت نفسه ظل موجودا لمدة عشرين قرنا من الزمان, في إشارة إلي الدين في الحياة السياسية وقد اتخذ أشكالا متنوعة ومتباعدة. وأولئك الذين ينادون الإصلاح الديني للإسلام, علي غرار البروتستانتية, يميلون الي نسيان أنه علي الرغم من أن مارتن لوثر كان مصلحا دينيا, فإنه لم يتبن لاالديمقراطية ولا الليبرالية. ويمضي روي وميرليني في توصيف المشهد الحالي بالرجوع إلي تحليل نتائج الإنتخابات التي جرت في مصر وتونس ويقولا أنه بعد النتائج الأخيرة في انتخابات الرئاسة المصرية, يبدو اننا أمام تناقضات واضحة لما سمياه بالثورة المحافظة التي تتفاعل في المنطقة, علي الأقل في المدي القصير. وفي المدي البعيد, يبدو مرجحا أن الجيل المفجر للربيع العربي سينمو باستمرار الضغط علي مفاتيح الكمبيوتر الشخصي أو الهاتف المحمول, وسيكون قد تزايد تأثيره في تطور المجتمعات في العقود القادمة. ولكن.. كيف سيؤثر ذلك علي الأطر الوطنية والسياسية والمؤسسية, فضلا عن العلاقات الدولية والأزمات في الداخل والخارج, بطبيعة الحال, تلك مسألة مفتوحة يصعب الإجابة عنها اليوم. من الدراسات المهمة واحدة للباحثة كارولين فروند وكارلوس براجا عن الاقتصاديات العربية في المرحلة الانتقالية, حيث تخلص إلي أن الاجراءات التي يمكن التعويل عليها من أطراف دولية أمر مهم ولكنها لايمكن بمفردها أن تقود عملية التحول. ومن شأن رؤية طويلة الأمد للتكامل الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي, علي سبيل المثال, أن تدفع عملية التحول السياسي والاقتصادي نحو مزيد من الحريات لكن تلك العملية تحتاج إلي خطوات متبادلة من حيث الالتزام بالشفافية والمحاسبة, فيما سيراقب العالم إمكانية تحول شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلي تبني إقتصاد السوق بشكل أوسع باعتباره الضمان لمزيد من الإصلاح السياسي في المستقبل. كما تدعو دراسة اخري للباحثين جونزالو إسكريبانو وإليخاندرو لوركا إلي توسع الغرب في دعم الصناعات الصغيرة التي يمكن أن ترسل إشارة إيجابية تخالف ما سعت إليه دول مثل الصين ودول الخليج التي تركز في علاقتها مع دول المنطقة علي الدخول في شراكات مع النخب التقليدية, حيث يمكن أن يصبح التعاون عبر الأطلنطي في دعم تلك الصناعات إستراتيجية موازية لارتفاع مستوي الشراكة بين الصين والخليج مع القوي الإسلامية الجديدة في مصر والمغرب وتونس, والأمر نفسه بالنسبة لتركيا, وهو ما يحقق المصالح الغربية في منطقة تمر بتحولات مهمة.