المشهد الإعلامى المرتبك بدءا من شم الهيروين على الهواء وإنكار نبوة الأنبياء، ومرورا بإهانة العلماء، وبنزع القدسية عن مقدسات الأمة كالمسجد الأقصى، وليس انتهاء ببث ترهلات تفتقد للصدقية والمهنية واللباقة تسىء للعلاقات بين مصر وأشقائها، كل ذلك يبرهن يوما بعد يوم على نوع من الفوضى غير الخلاقة التى تعم عددا من وسائل الإعلام وبخاصة المرئية، ويثير التساؤل عن تبعات الهبوط فى الأداء الإعلامى وتداعياته، ليس فقط على الجمهور، وإنما أيضا على الوطن. نتوقف عند نماذج توضح ذلك، فمثلا ما الداعى لإجراء حوار مع سيدة غير معروفة وتخص غالبية وجهها تنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بل تنكر نزول الوحى أصلا على جميع الأنبياء وتزعم أن المصطفى «ألف القرآن الكريم» وأن الكتب السماوية الثلاثة ليست مقدسة، لتطعن فى أديان أكثر من نصف سكان العالم! المثال الثانى يتجسد فى إهانة أستاذ أكاديمى ومؤرخ كبير على الهواء بما يخالف كل القواعد المهنية ومواثيق الشرف ومدونات السلوك الإعلامي؟ والمثال الثالث: قيام مذيعة بالترويج للمخدرات على الهواء قائلة: «أنا وعدت المتصل بأنى هشم هيروين على الهواء وأدينى وفيت بوعدى، بس حلوة الشمة أوى أليس ذلك خرقا صارخاً لأبسط المعايير المهنية والأخلاقية؟ صحيح أن نقابة الإعلاميين قررت وقف هذه المذيعة ثلاثة أشهر، ولكن من يعالج الأثر السلبى الذى تركته لدى الجمهور؟ والمثال الرابع: الإصرار على استضافة باحث منفرد يشكك فى وجود المسجد الأقصى بالقدس وينزع القدسية عن أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله بما يخالف عقيدة أكثر من مليار و300 ألف مسلم. كما يتناقض مع الموقف العربى والإسلامى تجاه القدس، لأنه يخدم أطماع إسرائيل فى المدينة، والأمر نفسه يتكرر مرارا، فيهاجم نفس الباحث رمزا عند المسلمين هو صلاح الدين الأيوبى، وبطلا لدى المصريين هو أحمد عرابى دون أن يرافقه أستاذ تاريخ متخصص يرد على هذه الأقوال، وهذا يخالف القواعد المهنية ومواثيق الشرف الإعلامى ومنها ميثاق مبادئ تنظيم البث الفضائى الإذاعى والتليفزيونى بالمنطقة العربية الذى اعتمده مؤتمر مجلس وزراء الأعلام العرب عام 2008. والمثال الخامس وصف مذيعة بقناة فضائية خاصة سلطنة عمان الشقيقة بأنها (إمارة صغيرة) والحديث بتعال عنها خلال زيارة الرئيس لها، متجاهلة أبسط قواعد المهنية واللباقة وتاريخ السلطنة العريق ومكانتها الكبيرة. لا شك أن حرية النقد والاجتهاد وطرح مفاهيم مغايرة للمتعارف عليه من أحداث التاريخ، مكفولة ولكن هذا العمل العلمى مكانه الجامعات وقاعات البحث وليس الفضائيات. وإذا كان من حق الإعلام مناقشة مثل هذه القضايا فإن لهذه المناقشة معاييرها المهنية وأولها استضافة أهل الاختصاص من العلماء للرد على الآراء المغايرة لما هو مألوف لدى الناس. ولو وسعنا النظرة نجد اختلالا فى أجندة أولويات وسائل الإعلام من ناحية، وأولويات القضايا الوطنية من ناحية أخرى، وغياب للرؤية والرسالة، ناهيك عن التخبط فى الأداء والتسرع فى نشر أخبار أقرب إلى الشائعات وإثارة الرأى العام وشغله بقضايا ثانوية، مما يخلق التباسا لدى عامة الناس ويبث التشكك لدى المشاهد الذى يعانى أصلا فائض المعلومات التى تنهال عليه من الفضائيات على مدى الساعة، مما يزيد مساحة انعدام المصداقية لدى الجمهور، وبذلك قد تتحول بعض وسائل الإعلام من أداة لبناء العقول وتوعيتها إلى آلة لهدم الثوابت الوطنية والقيم والأخلاق والدين. من ناحية أخرى نحن أمام حالة غياب وعى بعض الإعلاميين بتغير المعادلة الاتصالية بعد تزاوج ثورة الاتصالات والمعلومات فلم يعد الجمهور مجرد «متلق للرسالة» كما كان الأمر من قبل، وانما صار متفاعلا عبر وسائل التواصل الاجتماعى الرقمية، ولن يتوقف رد فعله على مجرد كبسة زر على «الريموت كنترول» لتغيير القناة وإنما بإمكانه غلق التليفزيون ليتفاعل بحرية وينقد هذا الأداء عبر (فيسبوك وتويتر). كل ذلك يجعلنا بحاجة إلى إعادة تأكيد مسلمات إعلامية مثل ارتباط الحرية بالمسئولية، وتطبيق المعايير المهنية، وتفعيل مواثيق الشرف، كما يثور التساؤل حول دور المؤسسات الإعلامية ومجالس الإعلام والاتحادات والنقابات المهنية، ومسئوليتها ليس فقط عن متابعة الأداء وإنما أيضا عن تدريب الإعلاميين والاطمئنان على إتقانهم قواعد المهنة وأخلاقياتها! بل قد يستدعى إعادة الأسئلة البديهية حول معايير اختيار المتحدثين فى وسائل الإعلام، والأولويات التى تحكم اختيار موضوعات البرامج؟ وأدبيات الحوار التليفزيونى، وطرق المعالجة الإعلامية للقضايا المثيرة للجدل التى لم تسمح أى مدرسة إعلامية حديثة بمناقشتها من وجهة نظر واحدة. فهل نحن بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة بمجال الإعلام؟!. لمزيد من مقالات د. محمد يونس