اذا كان ألفرد نوبل قد اعتذر عن اختراع البارود بجائزة تحمل اسم السلام فى مختلف فروع المعرفة فإن ذلك الاعتذار لم يضع حدا لأطول وأشد دراما شقاء فى التاريخ، ولو بعث مخترعو أدوات التعذيب احياء واعتذروا عما اقترفوا من إبداع شيطانى مضاد للانسانية لما أدى الاعتذار الى إنصاف من ماتوا تحت السياط او وهم مربوطون من أعضائهم الى أحصنة تمزق اجسادهم تبعا للوصف الذى قدمه ميشيل فوكو تحت عنوان تعذيب المسيو دميان .. والمفارقة هى أن من يحترفون التعذيب يحرصون على بقاء الضحية على قيد الحياة لأن الموت يحررها من الألم، لهذا يحرم السجناء من اقتناء اى أدوات يمكن من خلالها الانتحار ، وتاريخ الحروب هو تاريخ تطور الاسلحة سواء كانت دفاعية أو هجومية بدءا من السيف والدرع والمنجنيق حتى الصاروخ والباتريوت المضاد له، وكما يقول ويل ديورانت صاحب قصة الحضارة فإن التاريخ كله كان منذ اكتشاف البرونز حربا بلا نهاية، وما يسمى السلام لم يكن سوى فترات عابرة أشبه بجملة معترضة تحصى من خلالها الغنائم والخسائر ويعاد شحذ الاسلحة وتعميق الخنادق!. لكن العصر النووى الذى نعيشه منذ ما يقارب القرن والذى قدم نموذجا غير مسبوق فى فقه الابادة فى هيروشيما وناجازاكى اختلط فيه نابل النووى السلمى بحابل النووى المدمّر، ولأن لكل منجز تكنولوجى وجهين فإن النووى السلمى قد يخدم البشر ويقدم لهم ما يعود عليهم بالمنافع فى عدة مجالات، وبالمقابل فان عسكرة المنجز النووى تؤدى بالضرورة الى هلاك محتم، خصوصا بعد ان تقدمت بعض الدول فى جعبتها النووية، وامتلكت ما يمكن تدمير هذا الكوكب عدة مرات دفعة واحدة! لكن أطرف ما صاحب التسلح النووى هو استراتيجية اخفائه وحجب الحقائق المتعلقة به، وحين سئل شمعون بيريز فى ستينيات القرن الماضى عن حجم الجعبة النووية التى كان المشرف عليها سخر من السؤال، وقال ان اهمية هذا السلاح تكمن فى غموضه، وترك الخصم يضرب اخماسا بالاسداس ويتضاعف لديه الهلع بسبب ما يكتنف هذه الجعبة من غموض، وربما لهذا السبب تعرض فوعنونو للسجن عدة مرات لأنه سرّب معلومات محظورة عن معهد التخنيون والمفاعل النووى فى اسرائيل! ولأن أهم ما يمكن للجعبة النووية أن تحققه هو توازن الرعب او الردع الاستراتيجى ، فان اجهاض مفاعلات نووية حتى لو كانت فى نطاق الاستخدام السلمى هو احد عناصر ما يسمى الحرب الاستباقية ، وهى من حروب ما بعد الحداثة، والتى كان احتلال العراق وتحويله الى كسور عشرية طائفية ومذهبية من نماذجها، لأن ذريعة الاحتلال كانت اجهاض ما يسعى اليه العراق من امتلاك لاسلحة دمار شامل. وقد شهدت مناطق عديدة من العالم فى مقدمتها الشرق الاوسط خلال العقود الثلاثة الماضية نشاطا نوويا غالبا ما يندرج فى خانة التوظيف السلمى , وحين قصفت الطائرات الاسرائيلية المفاعل النووى العراقى فى بواكيره عام 1981 كان ذلك ضمن إستراتيجية الاجهاض المبكر ، ولم يكن المنجز النووى سواء بقى فى نطاق الاستخدام السلمى او تمت عسكرته المثال الوحيد فى التاريخ لسلاح ذى حدين، فالسكين رغم بدائيتها كأداة فى الحرب لها وجهان، احدهما للتفاحة أو البطيخة والاخر للذبح، والمشاهد المتلفزة التى اصابت العالم بالقشعريرة وكانت تبثها الميديا حول وحشية الدواعش اثارت الفزع من السكين، وهناك أصحاب مطاعم متخصصة فى تقديم وجبة الستيك فى اوروبا كانوا يضعون حزمة السكاكين المشحوذة لخدمة زبائنهم فى مداخل مطاعمهم، اخفوها، وعاش العالم وما يزال ما يسميه عالم اجتماع فرنسى فوبيا السكاكين . وفى الطبيعة ذاتها هناك وجهان لكل عنصر من عناصرها ، فقليل من النار يدفىء الانسان او ييسر له طهو طعامه والكثير منها يحرق وقد يحول غابات او مدنا الى رماد، وكذلك الماء الذى يروى ويطفىء الظمأ فالقليل منه نافع ويجعل من كل شيء حيا، والكثير منه يغرق عندما يحدث الطوفان! ان الدراما النووية مثال تتجسد فيه أهم أطروحة حول جدوى العلم، وطالما دار سجال بلا نهاية بين العلماء حول مقولة العلم للعلم فقط او العلم للحياة وهذا هو المرادف او المعادل لاشكالية الادب وما اذا كان من أجل الادب فقط ام من اجل الحياة، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر الى تأليف كتابه الشهير عن الادب الملتزم وما تعرض له الاستنساخ منذ تجربة النعجة دوللى من شجب واستنكار هو مثال آخر على إدانة العلم إذا نزع منه البعد الأخلاقى، والفارق بين السمّ والبلسم كما يقال شعرة، والهيئات الدولية التى تحاول وضع حد للتسلح النووى وقعت فيما يسمى ازدواجية المعايير، ما دام هناك ما يحق لدولة ولا يحق لسواها، لأن الهاجس هو احتكار هذا النمط من السلاح لأن تعميمه يؤدى بالضرورة الى سلام قسرى ناتج عن توازن الرعب، لهذا فهو سلام على طريقة «مكرها أخاك لا بطل»، ومصطلح الحرب الباردة تجسيد دقيق لهذا المفهوم، وهو مصطلح مجازى يقصد به حالة اللاحرب وليس السلام، وحين كان الفيلسوف البريطانى برتراند راسل يقود المظاهرات ضد التسلح النووى وهو يقترب من التسعين كان يكرر عبارات تستحق ان نتذكرها بعد رحيله بعقود، منها انه يتظاهر ليس ضد الاسلحة النووية المتوافرة لدى بعض الدول فى زمنه، بل ما سوف تصل اليه هذه الاسلحة من قدرات على التدمير وتهديد كل ما أنجزته البشرية من حضارات، ولو عاد الرجل الى الحياة لتأكد من صدقية اطروحته، لأن ما بلغه التسلح النووى مطالع هذا القرن يعادل اضعافا مضاعفة لما كان عليه فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى. إن القاسم المشترك بين أى سلاح بدائى سواء كان حجرا أو سكينا وبين أحدث منجز نووى هو التوظيف، ونوايا الاستخدام ، وسيبقى للعلم مهما بلغ من التطور وجهان، كما ان للوجود برمته وجهين ايضا هما الخير والشر والحرب والسلم والاستبداد والحرية! لمزيد من مقالات خيرى منصور