اذا كانت بعض المصطلحات تستدعى نقيضها كما يقال، فإن نقيض الاعلام المؤدلج ليس الاعلام الطليق المحرر من كل المؤثرات لأن مثل هذا الاعلام حتى لو حمل اسماء كالليبرالية أو الاعلام الحر بلا حدود ليس موجودا ، لأن وجوده يتطلب خروجه التام من جاذبية الواقع بكل حركاته ومكوناته . لكن ما أعنيه بالأدلجة قدر تعلقها بالاعلام هو التوظيف الفكرى والسياسى واحتكار الحقائق الذى يفضى بالضرورة الى الإقصاء والانكار ، وقد تكون النماذج المبكرة نسبيا للاعلام المؤدلج فى القرن العشرين هى التى اقترنت بالنظم التوتاليتارية او الشمولية، وهناك روايات طريفة تداولها الاعلام الغربى أثناء الحرب الباردة عن الاعلام المؤدلج والمكرس للتعبير عن وجهة نظر الحزب الواحد، منها أن أمريكيا قال لروسى فى الحقبة السوفيتية إنه يستطيع أن يقول ما يشاء أمام البيت الابيض، فأجابه الروسى قائلا وأنا أيضا استطيع ذلك أمام البيت الابيض، ولم يقل أمام الكرملين، ومن تلك الروايات التى تداولها اعلاميون ليبراليون فى الغرب ان احد زوار موسكو جرب الاستماع إلى سبع محطات إذاعية، كانت تكرر الاخبار والتعليقات ذاتها مع تغيير طفيف فى المفردات، وحين بلغ المحطة الثامنة سمع صوتا يقول له : ألم تعجبك المحطات السبع التى حاولت الاستماع اليها، وبمعزل عن مناكفات ومساجلات أدبيات الحرب الباردة وما انعكس من تلك الادبيات على الثقافة والاعلام، فإن القاسم المشترك الاعظم بين أنماط الاعلام المؤدلج هو الانكفاء وتحويل الديالوج الى مونولوج بحيث يبدو هذا الاعلام كما لو أنه أصداء عديدة لكن لصوت واحد، والخسارة الفادحة التى تنتج عن أدلجة الاعلام هى غياب النقد الذاتي، والتعامل مع الامر الواقع كما لو انه خاتمة المطاف او قدر لا فكاك منه، كما أن الأدلجة فى أقصى تجلياتها وتطبيقاتها ميدانيا تختزل المشاهد سواء كانت محلية او دولية الى بُعد واحد، وتختصر البانوراما الى زاوية واحدة هى المرغوب فى إضاءتها! لكن ما كان مُتاحا للاعلام المؤدلج فى ستينات القرن الماضى لم يعد متاحا الان بسبب الثورة التكنولوجية فى وسائل الاتصال، وتعدد مصادر الخبر، لهذا شاعت مقولة العالم قرية، والحقيقة أن لهذا البعد من العولمة آثارا جانبية بدأت تتنامى فى العقدين الاخيرين مما دفع خبراء فى الاعلام من مختلف القارات الى التحذير من فوضى العولمة، وما تؤدى اليه من تلاعب بالرأى العام، فأحيانا يعوق الزحام الحركة، ويصبح الفضاء الذى يعج بآلاف القنوات الغابة التى تحجب الشجرة، وهذا هو الوجه الاخر للشجرة التى كانت تحجب الغابة فى النظم الشمولية، ولأن الاعلام بمختلف أشكاله ومجالاته يرتبط عضويا بالأمن القومى وسيادة الدولة فإن الحرية بلا حدود تصبح أقرب إلى العدمية، خصوصا فى البلدان التى تعانى من عوامل تهدد استقرارها وسلمها الاجتماعي، وهناك مجتمعات لعب الاعلام المؤدلج دورا مشهودا فى توريطها بحروب أهلية، خصوصا تلك التى لم تنجح فى تحويل الطوائف الى أطياف متعايشة . وكما أن هناك حروبا كونية باردة يحول دون اندلاعها توازن الرعب النووي، ففى المقابل هناك حروب أهلية باردة، يؤدى الاعلام المشحون والمؤدلج الى تسخينها ، وما شهدته بعض الاقطار العربية من التآكل والتنافر بدلا من التكامل والتعايش كان أحد أهم أسبابه التحريض الاعلامى الذى يقدم الطائفة على الوطن، أو الحزب على الامة، وبالطبع ليس هناك وصفة نموذجية لضبط التوازن بين حرية الاعلام وأدلجته، لأن الظروف الموضوعية تختلف بين مكان وآخر، وكذلك منسوب التحديات الذى يصل أحيانا إلى حد إفشال الدولة، والغرب الذى أوحى للعالم بأنه يعانى من فائض الليبرالية والحرية ويسعى الى تصديرها كان يمارس عكس هذه الشعارات خصوصا فى حرب الخليج، حين تدنى سقف الحريات الى حدّ اثار حفيظة مثقفين وناشطين لكن الغرب خصوصا فى مطلع هذه الالفية أصبح يرى ما هو حلال عليه حراما على غيره، وما عبّر عنه الرئيس الاسبق بوش الابن عن فهمه الميثولوجى لا السياسى للاعداء والاصدقاء كان بمثابة قفزة الى الوراء والى ما قبل منجزات العقلانية الغربية، لأنه قال بالحرف الواحد ان من ليس معه وفى خندقه هو بالضرورة فى الخندق المقابل، وما نتج من أعراض جانبية لثورة الاتصالات قد يتفاقم فى غياب الرصد المسئول ليصبح أعراضا غير جانبية، بحيث تتعدد الحقائق تبعا لنوايا من يمسكون بالبوصلة الاعلامية، ويصبح هذا الكوكب كالغابة بلا طريق ! ولكى لا نبقى فى نطاق التجريد فإن العالم العربى الان بفضائه المكتظ بالقنوات يقدم نموذجا مضادا لما توقعه البعض قبل ربع قرن من ان الاعلام الفضائى سيكون عاملا فاعلا فى التقريب وتكريس الهواجس القومية المشتركة دفاعا عن هوية أصبحت فى مهب الاساطيل وامبراطوريات المال والتمدد الكولونيالى الجديد بحثا عن مجالات حيوية من طراز آخر، وما حدث هو العكس، فأحيانا توظف التكنولوجيا لخدمة الميثولوجيا وتصبح النافعة ضارة إذا أسيء استخدامها، وقد شهدنا بالفعل كيف تحول الهاتف من وسيلة لاختصار الوقت والجهد إلى أداة لتبديد الوقت ، وكيف استخدم الفاكس ومن بعده الانترنت لتحديث ثقافة النميمة والاستعداء والتحريض، وهناك قنوات فضائية تحولت الى غرف عمليات حربية كما تحول بعض مقدمى البرامج الى جنرالات اضافة الى مئات الفضائيات التى تبث على مدى اللحظة وليس الساعة فقط مضادات ثقافية للعقل وبضاعتها الرائجة هى وصفات السحر والشعوذة والتلاعب بأحلام الناس ، ولم يسلم ابوقراط وتاريخ الطب كله من الانتهاك والاستباحة والتجهيل، والهدف من ذلك كله هو تجريف الوعى وإعادة الانسان قرونا الى الوراء، وهناك قنوات تسعى الى تقويل الدين ومرجعياته ونصوصه وليس الى تأويله منطقيا وعلميا وهى فى أدائها ومجمل خطابها أقرب إلى وثنية جديدة خصوصا فى منهجها الذى يمكن اختصاره الى ثالوث أعمى أضلاعه التأثيم والتجريم والتحريم. يبقى أخيرا بل أولا وقبل أى شيء أن نقول بأن الدول التى استكملت اقانيم هوياتها القومية قد لا تتضرر من اطروحات إعلامية وثقافية تهدد استقرارها وأمنها، والمتضررون من فائض الفوضى هم أصحاب الهويات الجريحة والنازفة والمهددة دولهم بالافشال لانتهاك سيادتها ! لمزيد من مقالات خيرى منصور