بفم مزدحم بالمرارة وبضغط على الأسنان من فرط الغيظ, يقبل المستعمرون الجدد على مضض ماجرى فى المحروسة بعد الثلاثين من يونيو، ففى ذلك التاريخ ظهر جليا أن عموم المصريين غير قابلين لإغتيال حلمهم التاريخى بأن يكونوا بلدا مستقلا ومشاركا فى حلم وليد ألا وهو سيادة الشعوب على مقدراتها، ولاح فى أفق ذلك النهار فجرا مصنوعا من لهاث المصريين خلف قطار عرابى وهو فى طريقه لمقاومة جيش الإحتلال فى التل الكبير، وكانت أشعة ذلك الفجر مغزولة من قمر يوم التاسع من يونيو 1967؛ ذلك القمر الذى قال للكون ان المصريين تمسكوا بقيادة عبد الناصر لا لإعادة بناء القوات المسلحة فقط؛ ولكن لأن البوصلة السرية لهذا الشعب عرفت التمييز بين حيوية القدرة على إتمام خطة تنمية وحيدة كان عائدها ارتفاع الدخل القومى بما يزيد عن ستة ونصف بالمائة؛ وهى زيادة تحولت إلى مدارس ووحدات صحية، وإختفى استنزاف الفلاح، ولم يكن هناك من يضع العمال فى مفرمة جمع ثروة من حرام. ومن أجل إحساس المصرى بأن مصر هى بلده وليست مملوكة لنصف بالمائة من سكانها؛ لذلك لم يتهرب شخص واحد من التجنيد لإعادة بناء جيش منضبط بجدية الفريق محمد فوزي، وبعلم ورؤية وشجاعة عبد المنعم رياض، ولمخضرم مثلى أن يتذكر كيف زارنى مسئول من القوات المسلحة لمكتبى بروز اليوسف ومعه خبر استشهاد شقيق زوجتى وهو الطيار الابن الوحيد لأبويه بالإضافة لزوجتى ، ولا أحد يتخيل حجم الهلع المحاط بتماسك رهيب الذى تلقى به حماى الخبر وحين بدأت والدة الشهيد فى الصراخ كان الوالد هو الحازم القائل لأم الشهيد «ابنك ليس أغلى ممن سبقوه». فالقاتل فى حالة شقيق زوجتى هو خصم إسرائيلي، وليس ابنا لنفس الوطن تم التغرير به ليصبح فهمه لنصرة الدين هو اغتيال مستقبل شباب مثله يحاربون الفكر المتطرف المحرف؛ بدعوى الدفاع عن دين الله؛؛ فالحقيقة المؤكدة أن الحق سبحانه لم يقم بتوكيل القرضاوى وأردوغان كى يدافعا عن الدين بأسلوب الارتماء كأدوات مغيبة فى مهمة اغتيال المستقبل بتدمير الحاضر، وعندما أتأمل المسافة الزمنية بين الانتصار فى أكتوبر 1973 الذى تلقيت أثناءه خبر استشهاد شقيق زوجتى وبين قيام أهل الغياب عن الواقع بإغتيال مواطنين مصريين؛ عندما أتأمل ما جرى تقفز إلى رأسى حكاية غسيل مخ عموم المصريين بدعوى أن ما قبل حرب أكتوبر كانت مصر دولة ملحدة لاتعرف قيمة العلم والإيمان. على الرغم من أن أزهرها الشامخ تحول عبر ثورة 23 يوليو إلى منارة علمية فى تحقيق أصول الدين مع ربط كل ما فى التقدم العلمى من أبحاث؛ وازدان الازهر بعقول مؤثرة فى علوم التقدم، وهل انسى مثلا استاذا فى حجم جمال ابو السرور سيد جراحة المناظير وهو أستاذ بها، وهل أنسى جهود العالم الذى طور الطب النفسى فى الشرق الأوسط د. محمد شعلان وقدم أساليب علاج جديدة للامراض النفسية؟ وهل يمكن تجاهل ما أضافته أبحاث الاستاذ الدكتور طارق على حسن فى مجال الغدد الصماء ووضع كتابا مازال يدرس فى كليات الطب بالولايات المتحدة وكندا وبريطانيا العظمي، وكل هؤلاء أساتذة فى جامعة الأزهر. فقد حدث ذلك بإصرار جمال عبد الناصر على ضرورة انفتاح الازهر على العصر، بل إن واحدا من أدق تفاسير القرآن خرج من الأزهر الشريف بعد جملة قالها جمال عبد الناصر هى «كل المسلمين موحدون لله، وعلينا أن نضع لهم تفسيرا شاملا لا يشجع على الفرقة بل يسعى إلى الوحدة الروحانية والتعبدية» وكانت النتيجة تفسيرين للكتاب الكريم, أحدهما مختصر والثانى موسع. وقد تم تجاهل كل ذلك بفعل قوى صناعة التخلف التى لم تكن غائبة عما يدور فى بر المحروسة؛ فقد عاد إلى مصر المرشد السرى للإخوان المسمى حلمى عبد المجيد وفى منصب نائب رئاسة إحدى شركات عثمان احمد عثمان صهر السادات؛ وهو من بدأ رحلة تجنيد لشباب تحت اسم «شباب محمد» وتم تسليحهم بالجنازير والأسلحة البيضاء ليوقظوا ما مات عبر سنوات 23 يوليو من جراثيم التأسلم السياسى البعيد تماما عن حقيقة الإسلام. عاد هؤلاء من جديد مغسولة أدمغتهم عن طريق حفظ مالا يفيد؛ حيث كان مفروضا حفظ ألفى فتوى تبرز كيفية المسح على الخف؛ فعن طريق الآلية وتغييب القدرة على التأمل وتحريم ممارسة الدراية التى نرى بها النص الدينى أو ما جاء بالسنة يمكن تحويل الكائن البشرى إلى آلة لا تعي. وتركزت الكراهية للحياة المعاصرة ومنهم خرج قاتل من سمح بخروجهم وهو الراحل السادات، وكمنوا لفترة ليستيقظوا بعد ثلاثة أيام من إنطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير ليسرقوها كاملة ومعها حكم مصر لمدة عام. وكما قامت مصر بتحضير زعامة عبد الناصر على مهل، كانت مصر تقوم بتحضير زعامة عبد الفتاح السيسي، ومن يرقب رحلات تحضير مصر لقادتها يمكنه اكتشاف الخصوصية الشديدة بدءا من زعامة أحمس أو حور محب أو أحمد عرابى أو مصطفى كامل أو سعد زغلول؛ ولنلحظ خصوصية إختيار من ينقلون الوطن إلى مرحلة لا يعلو فيها صراخ الهتاف بل يتغير فيها الواقع، فبأحمس هزمت مصر المستعمر، وبحور محب أعادت مصر لنفسها التماسك بعد الشروخ الإجتماعية التى كادت تفتتها، وبأحمد عرابى تخلصت مصر من وهج الخلافة العثمانية الكاذب، وبجمال عبد الناصر أضيئت أقمار استقلال قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية؛ وإذا كان الركود والكمون قد أصابا المحروسة بعد الانفتاح الكاذب للسادات والركود الصاعق لعصر مبارك فقد أفاقت مصر لأهمية جيشها الذى أرادت قوى التخلف تفكيكه. وهكذا جاء عبد الفتاح السيسى ليزرع أملا تنمويا فى ظرف عالمى شديد التعقيد وفى رقعة وطن محاصر بحروب لم تترك حجرا على حجر سواء فى الشرق حيث سوريا واليمن، وغربا حيث ليبيا. أما الثرثرة عن الديمقراطية فتكفى نظرة إلى أرجوزاتها بدءا من أردوغان وصولا إلى ترامب حيث تلد الصناديق فى زماننا أشباه قادة، ولست كارها للديمقراطية السياسية لكنى أحبها تابعة للديمقراطية الاجتماعية، ولذلك لا يشغلنى الضجيج الذى لا ينبت سنبلة أو يخلق وظيفة لشاب. لمزيد من مقالات ◀ منير عامر