صحيح إن كل ثقافة تعتصم بلغتها، وأن كل ثقافة وليدة خصوصية مجتمعها بتاريخه الذى يتتابع، والصحيح كذلك أن الثقافة مقيدة بمفاهيمها ومعانيها المقولبة فى لغتها، بوصفها انعكاسًا لرؤية للعالم، والكائن البشري، والمجتمع؛ لذا تعددت اللغات الإنسانية بتعدد تلك الرؤي، ولأن أوهام الذاتية تستثنى نفسها من كل ما حولها؛ لذا راحت كل ثقافة لا تستوعب إلا ذاتها، وتصنف غيرها من الثقافات «بالمنفصلة والمنقطعة»، فتشكلت بذلك قاعدة القطيعة، لكن عندما فاز الإنسان باقتداره على طرح التساؤلات لاكتشاف العالم من حوله، باتت تعرف تلك الثقافات «بالمختلفة»، وهى التى سيطلق عليها لاحقًا خلال مراحل التحقيب المعرفى «الثقافات الوطنية»، لتلك المجتمعات التى تمارس خصوصية اختلافها النوعى بوعى ذاتي، فتحقق جدارة وإيجابية كيانها المختلف فى تواصلها مع ما يغايرها من المجتمعات، مؤكدة بذلك حضور التنوع، رافضة العزل العنصرى المعمم، وعندما مارس الإنسان خلال مراحل أزمنة التحقيب المعرفى تساؤلاته، وجاءت إدراكاته أكثر تشوشًا، أطلق العنان لخياله الذى استولد الأساطير، حيث عبرها تدافعت منظومات دلالية ترتبط بكل متحد مجتمعى حولها، ومع أنها بالأساس محض متخيلات بشرية، فإنها قد تحولت لاحقًا إلى حقائق مسيطرة، وتمارس قدرات لا تمتلكها، لكن منذ أن بدأ الفكر الفلسفي، بدأت اللايقينيات المتعلقة بطبيعة الخيال تفقد الثقة بها؛ إذ وفقًا لرأى «أفلاطون»: «أن نتخيل، هو أن نجعل مقابل المعرفة حواجز». صحيح أن الغرب قد استفاد بكل ثمرات مراحل التحقيب المعرفي، وصحيح أيضًا أنه عندما أصبح مفهوم المعرفة والقوة، هو الاستثناء الحقيقى الذى يدعم وجود الدول والمجتمعات، ويؤكد استحقاقاتها واستقلالها، فإن ثمة تصورًا شموليًا سيطر على أذهان المخططين الاستراتيجيين الغربيين، مفاده أن تقدم الغرب ينوب عن المجموع الإنساني، لذا لا بد أن يصب فى مصلحة الغرب بمنحه حقوقًا يتفرد بها، تتبدى فى احتيازه أوطان الآخرين، بممارسة القوة لاستعمارها؛ بفرض ثقافة أجنبية على شعوبها لتدجينها وامتلاكها وثروات بلادها. تولت الأمركة قيادة العالم، إذ ترى نفسها النموذج لمستقبل العالم فى سياق اقتدارها المتفرد، وتقدمها المنجز، وطابعها التحررى الذى تبدى فى خوضها ثورتين استهدفتا تحررها من تبعية الاستعمار الإنجليزى وتحرير العبيد. صحيح أنها لم تمارس الغزو الاستعمارى من الخارج إلا لاحقًا، لكنها فى البداية راحت تجرد المجتمعات من هويتها، بتحريف رؤيتها لذاتها حتى لا تتحد بمستقبلها، وبأن تنسى ماضيها بالولوج إلى ما تبثه الأمركة من غزو داخلى لتصورات حياتية، كسلطة غواية مطلقة لعقل المجتمعات وسلوكها محوًا لذاكرتهم الجماعية الآمرة كمواجهة مضادة للتنوع، فى حين أن واقعها يشهد أنها عجزت عن أن تكون أمة تحقق تعايشًا حقيقيًا؛ إذ الأمركة تمارس «ديمقراطية للقلة» وفقًا لعنوان كتاب العالم السياسى الأمريكى «وليم بارينتي» الذى صدرت طبعته التاسعة 2010، حيث أورد تفسيرات وتحليلات، وإحصاءات تكشف خلل الديمقراطية الأمريكية، إذ «إن 10 % من البيوت الأمريكية تملك 98 % من السندات المعفاة من الضرائب، كما تملك 94 % من الأصول المالية لمؤسسات الأعمال، وأيضًا 95 %من قيمة الودائع، كما تملك الطبقة الأغنى التى لا تتجاوز 1% فقط من الأمريكيين ما يصل إلى 60% من أسهم الشركات الكبرى جميعًا، وأيضًا 60 % من كل أصول مؤسسات الأعمال، ويتساءل المؤلف: ترى من الذى يملك أمريكا؟ «. ظل الاحتكار يمارس فعاليته، والتميز العنصرى مازال حاضرًا، والانعزاليات باقية، والحقوق مهجورة. ثم عندما هبطت نظرية العولمة التى تلقفتها الأمركة، تبدى للمراقبين أنها محض اختراع أمريكى يستهدف توظيفه لمصالحها؛ لذلك فإن الكاتب الصحفى الأمريكى «هارولد ميرسون» كتب عام 2003، من خلال مراقبته للمعوقات الأمريكية الأوروبية: « قد يجب على الأمريكيين أن يأملوا فى زمن الاندماج العالمى هذا، وألا نكون على عتبة قرن أمريكي، إننا فى حاجة لأوروبا لننقذ أنفسنا من أنفسنا». وفى كتابه بعنوان «أمريكا التوتاليتارية- الولاياتالمتحدة والعالم: إلى أين؟»، الصادر عام 1997، لمؤلفه «ميشال بوجنون-موردان»، يؤكد المؤلف «أن محو الثقافات والمنظومات السياسية لمصلحة الثقافة والنظام الأمريكيين، إنما يشكلان التحدى الأعظم الذى لم تواجهه الكرة الأرضية سابقًا، هذا التحدى ألا هو الهيمنة التوتاليتارية الأمريكية، بنظر العالم، وبنظر أوروبا، ترى كيف يكون الرد عليه؟» وقد أجاب المؤلف عن السؤال «بأن المعنى العميق للديمقراطية يكمن فى إرادة فهم العالم، إرادة العمل معًا داخل متحد قومي، من أجل المصلحة المشتركة، وبلوغ ذلك لا يمكن تحفيزه إلا من خلال سياسة تربوية سليمة، قائمة على أسس ثقافية واجتماعية وسياسية أقوم، وتستطيع أن تكون رأسمالية، لكن المهم أن تكون مع أهداف لا تنحصر فقط فى الإثراء لأقلية من الكدح الدائب لأكثرية». صحيح أن لكل مجتمع هويته التى يحددها المتحد الاثني، وأيضًا أن للمجتمع الحق فى وضع منظومات دلالية، ترتبط بالحياة الاجتماعية، لكن الصحيح أن تلك المنظومات الدلالية لا يمكن أن تلتصق بالمجتمع بديلاً عن الهوية، بمعنى أن الهوية بوصفها إرثًا وتاريخًا، هى حق محسوم لا ينتزع من أصحابه، لكن الصحيح أن الهوية أصبحت تتعرض لضغط الاختراق من العولمة، وصحيح أيضًا أنه لا يمكن لهوية أن تعيش فى عزلة عن الهويات الأخري؛ لذا بدأ حراك مجتمعى راح يندد بالعولمة، دفاعًا عن الهوية الوطنية لشعوب العالم، فإن «مجموعة ناكسوس» باليونان، المدعومة من المؤسسة السويسرية «شارل ليوبولد ماير- من أجل تقدم الإنسان»، مارست التواصل مع بلدان العالم لتطرح مشروعها بتكوين «تحالف من أجل عالم مسئول ومتضامن»، وقد حضر أكثر من 2500 رجل وامرأة من أكثر البيئات تنوعًا، وقد انحدروا من 120 بلدًا. تصدى المشروع لثلاثة اختلالات كبرى (بين الشمال والجنوب- وبين الأغنياء والفقراء- وبين الإنسان والطبيعة)، واستقر على مجموعة مبادئ، منها (اعتدال الشهية الاستهلاكية، واحترام تنوع الثقافات، والمسئولية الفردية والجماعية تجاه المصير الإنساني) وإقامة ورش لكيفية مواجهة وتحليل وتجميع المبادرات بشأن (تجديد السياسة، ومولد اقتصاد اجتماعى متضامن، وتجديد القيم والثقافة والتربية). ترى أليس الوجود الحقيقى المشروع، يغنيه التنوع، والوحدة تجمع ما يتجانس منه وما يتنوع، ورهانه الأكيد الشجاعة من أجل الوجود، شجاعة اليقين بمواجهة الوجود الزائف، الذى يشوه الوجود الحقيقى المشروع؟ لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى