صحيح أن التقدم يعنى عدم الكف عن النمو والتحقق، بوصفه يستهدف تغييرًا وفقًا لتطلعات فكرية، لقوى اجتماعية واعية ومدركة لأوضاعها وللعالم من حولها، فتدفع بصيغها المعرفية الجديدة، تمردًا على القوالب الثابتة الفاقدة لفعالية التقدم، استهدافًا لتحرير المجتمع منها، تصديًا لكل زيف بكل ادعاءاته وأهوائه، وفتحًا للتواصل مع المستقبل، والصحيح كذلك أن التقدم الإيجابى رهانه تحديدًا التغيير إلى الأفضل، ويشكل هذا المفهوم واحدًا من أهم مفاتيح الحضور الحقيقى للمجتمعات معنى واستيعابًا، حين يراجع العقل ويفكك بمنهجيته الحاضر الذى أصبح ماضيا منقضيا، وليس له ثمة حضور فى ضوء المستجدات المعرفية؛ عندئذ يطرح العقل صيغة مستقبل التقدم التى تصبح حاضر هذا المجتمع، ويغدو التطور النامى للوعى بالمستقبل جزءًا من انطلاق أوسع، باختراقه أفاقًا مختلفة فى عالم متغير، وذلك ما يتطلب الوعى والإرادة بين أفراد المجتمع، وأيضًا جهدًا رفيع المستوى لدى المجموعة التى تقود مشروع التقدم، حيث دون هذا الوعى الرفيع المستوى لا يمكن لأى تقدم أن يحوز دلالة، ويتحقق بوصفه تقدمًا فعليًا. صحيح أن القيم تمثل دورًا مركزيًا فى عملية التقدم، وصحيح أيضًا أن القيم عنصر أساسى فى توليد المعرفة؛ بل إن تطور القيم مقيد بالمعرفة، لكن الصحيح أيضًا أن تقدم المعرفة يصاحبه تطور وتنوع لا حدود لهما فى تقنيات السلطة؛ لذا ثمة تمايز لا يرتحل أبدًا عن مفهوم التقدم، ذلك أنه مفهوم مشحون بالقيم؛ بل يصبح التقدم مغدورًا إذا غابت عنه منظومة القيم، ولم تعلن حضورها، وتبدت قيمًا معلقة فى الفراغ لا حامل موضوعيًا لها فى الواقع، منفصلة عن مشروع التقدم ومتراجعة، ولا تملك إمكانية البرهنة على شيء؛ عندئذ لا يصبح التقدم نموًا يحمل قوة تغيير إلى الأفضل، ولا يسكنه استهداف خدمة مجتمعه وبنيته، تخطيطًا وحقوقًا وتعميمًا لرفاه جمعي؛ لذا فإن رهان صحة قياس التقدم، يستوجب ضرورة الفهم الواضح لماهية كل ما هو خير أو شر، وأيضًا كل ما هو صحيح أو خطأ، وفقًا لدلالات القيم والحقائق واقعيًا. لا شك أن استطلاع الرأى العام الذى تم فى الولاياتالمتحدة عام 1990، والذى كشفت دراسته "أن الأمريكيين مستاءون من الحاضر ويخشون المستقبل"، إنما يؤكد ما طرحه الكاتب الأمريكى المتميز"روبرت نيسبت" فى كتابه الذى يعد من أهم الدراسات المرجعية عن "تاريخ فكرة التقدم"، الصادر عام 1980، حيث يقول: "مع أن مبدأ التقدم قد احتل مكانة سامية طيلة معظم التاريخ الغربي، فمن الواضح أنه قد نزل إلى مكانة متدنية جدًا فى القرن العشرين، وأقل ما يمكن أن يقال عن مستقبله، أنه غير واضح. صحيح أنه قد تعاقبت وتعددت دراسات المفكرين الأمريكيين، رصدًا وتحليلاً بحثًا عن المخفى من أسباب ذلك التراجع فى أهداف التقدم الأمريكى وعواقبه، وصحيح أيضًا أن خطاب التقدم يضم نظريات وآراء واتجاهات كثيرة، لكن الصحيح كذلك أن التقدم ليس مرحلة تاريخية محددة، لذلك نرى الكاتبين الأمريكيين "وليم شتراوس"، و"نيل هاو" فى كتابهما "أجيال: تاريخ المستقبل الأمريكي". الصادر عام 1991، يؤكدان "أن مستقبلنا لا ينبئ بشيء مظلم أو خطر كالحرب الأهلية؛ لذلك فإن الاحتمال الأغلب هو أن تحمل أجيال مستقبلنا القريب رؤية مشتركة لأمريكا المشرقة التالية، وأن نعمل معًا من أجل عهد جديد من التقدم الأمريكي". ترى هل هناك افتراق بين مفاهيم التقدم وتحققه، فى ضوء تباعد الثقافات وانتماءاتها المختلفة، من حيث ممكنات التغيير إلى الأفضل وآلياته؟ هل يحتاج ذلك إلى فهم الواقع والتأثير فيه؟ هل يمكن أن يتحقق التقدم دون إمكانية واقعية؟ هل تشكل خصوصية الكيانات الثقافية للمجتمعات، عقبات فى مسار تحقيق العولمة؟ هل يمكن للعولمة أن تتجاوز الكيانات الثقافية المتنوعة، وتؤثر فى تلك المجتمعات بتوجهاتها ومشروعاتها؟ هل هناك أجندة خفية للعولمة؟ هل يمكن أن تفسر هذه التساؤلات رعاية الأممالمتحدة واهتمامها بإقامة ندوات دولية لدراسة مفهوم التقدم فى ضوء تنوع الكيانات الثقافية؟ الواقع أنه فى إطار هذه الرعاية الأممية قد تم اختيار مصر، والهند، وبوليفيا لإقامة الندوات بها، ويرجع تمفصل هذا الاختيار إلى غاية قصدية، تتجلى فيما تمثله هذه الدول من ثقافات متنوعة، تشكل مسيرة لحضارات متغايرة. فى نوفمبر عام 2003، نظمت فى مصر، وتحديدًا فى مكتبة الإسكندرية الندوة الأولى، بحضور الدكتور الألمانى "فون بارلون" المشرف على المشروع، الذى طرح انطلاقة مهمته التوثيقية التى تستهدف من خلال الندوات التى يشارك فيها الأكاديميون، معرفة منظور خارطة تلك الثقافات فى فضائها الاجتماعي، ومدى استيعاب تلك الثقافات لمعطيات الفهم الغربى للتقدم بأبعاده وآلياته، على أن يجرى بعد ذلك الفحص والتدقيق والمقارنة بين المفاهيم المتعددة، للكشف عن المتوافقات التى تتجلى فى قواسم مشتركة بينهما، وكذلك معرفة ملامح الاختلافات، لكن كان لإسهام العالم الجليل السيد يس- أستاذ علم الاجتماع السياسي- تأثير إيجابي، إذ خلق جسور تلاق وتداخل بين المشاركين المتناظرين، حيث لم يكتف فقط بالتحليل النظرى للموضوع؛ بل اقترح إلى جانب الدراسات النظرية التى يقدمها عدد من الأساتذة المصريين، أن تطرح نتائج دراسة مصرية استطلاعية ميدانية لعدد محدود من الأكاديميين وطلبة الجامعة، عن مفهوم التقدم، وقام العالم الجليل بالتخطيط المنهجى لهذه الدراسة فى إطار فريق بحثى متكامل، شارك فى عرض النتائج على المشاركين فى الندوة، وذلك ما أعطى الجلسة تجسيمًا فضائيًا تجلى فى سياقات منطوقة متعددة، ذات فعالية حوارية وإيصالية بين المشاركين، ولم تعد جدلاً وحيد الاتجاه، خاصة أن خطاب التقدم يشكل تراثًا متعددًا. أما أحدث إسهام للعالم الجليل السيد يس، المهموم بالمصير المصرى العام، فهو الكتاب الذى أشرف عليه وحرره، وصدر عام 2016 بعنوان "الدولة التنموية- رؤى نقدية للمشكلات وسياسات بديلة"، ويضم ثلاثة عشر دراسة لمجموعة متنوعة من الخبراء المختصين المرموقين، المنشغلين أيضًا بالمصير، مارس كل منهم- وفقًا لتخصصه- توصيف واقع المشكلة، ومؤشراتها النوعية، ملاحقًا ومواجهًا كل سلبياتها المتهالكة، مستبدلاً إياها بتأسيس جديد لسياسة ليست مكبلة بالأوهام والترقيع؛ بل ويطرح أيضًا كيفية تحصين ذلك التأسيس بمشروعات القوانين اللازمة للتطبيق. صحيح- أيها العالم الجليل السيد يس- أن الإنسان حقق أهم فتوحاته فى الحياة ذاتيًا ومجتمعيًا، بالنمو تغييرًا إلى الأفضل، والصحيح أيضًا أيها الفارس المعتصم بعلمه المتجدد، إن دعوات محبيك لك بالشفاء تتواصل؛ إذ شاقهم طيب لقياك. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى