إن الحضارة التى يتأسس جوهرها على العنف، تتبدى خصائص ممارساتها فى استخدام أدوات العنف، نزوعًا إلى القسر والقمع، اقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا، استهدافًا إلى إلغاء الآخر أو استتباعه، تحقيقًا للهيمنة. ولأن الأمركة هى النموذج لحضارة العنف حيث إن الرغبة فى تأكيد الذات دون رقابة العقل تفضى دائمًا إلى العنف الفردى والجماعي، وتعد المعونة الأمريكية إحدى أدوات الأمركة؛ إذ من خلال المال والسلاح والتكنولوجيا تفرض هيمنتها، ومفهوم سيادتها على العالم دون نقد أو معارضة أو مقاومة، حيث يجب أن تنعدم فى مواجهتها كل إرادة، وراحت الأمركة تهيمن على الدول الأخرى قسرًا لتكون الدولة الإمبراطورية، التى تدير النظام العالمى القائم فعليًا، أخذًا بحتمية حاضرها بوصفه خيارًا وحيدًا لمستقبل البشرية ونهايتها، وهو ما سيؤدى إلى تجانس الإنسانية المستقبلى من خلال ممارسة تعميم نموذج الأمركة عالميا، فى حين أن هذا التجانس يعنى تدمير أنسجة كيانات المجتمعات، كما يقود إلى التبعية والاستحواذ والاستيلاء، إذ إن التنوع، وليس التماثل هو الذى يؤكد وجود الإنسان الواعى لحقوقه، والممارس لها واقعيًا، والمنفتح إنسانيًا وإيجابيًا على مفهوم الاختلاف والتنوع، وليس على الصراع الموهوم بين الحضارات، لتأكيد تفاضلها النهائى تحقيقًا للهيمنة، بدلاً من الاعتراف بأن «الإنسان حق فى ذاته»، وهو ما يعنى أن للإنسان الحق فى ممارسات واقعية، وله أيضًا استحقاقات ذاتية حياتية، وهما معًا يشكلان ما يسمى «حقوق الإنسان»، التى غدت سلاحًا للأمركة فى معاركها مع خصومها لتطويعهم؛ إذ وفقًا لما أشارت إليه رويتر: « فإن الولاياتالمتحدة قررت حرمان مصر من مساعدات قيمتها (95) مليون دولار، وتأجيل صرف (195) مليونا أخرى، بدعوى عدم إحرازها تقدمًا على صعيد احترام حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية»، فى حين أنه داخل الولاياتالمتحدة تمارس الانتهاكات كافة ضد حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية، تغييبًا للاستحقاقات المشروعة لمواطنيها. إن حقائق المباينة التفصيلية لهذه الانتهاكات، تبوح بها مرجعيات لسجلات ووثائق ذات مصداقية، نستحضر منها بعض الحقائق: تم تسجيل وجود (46) مليون شخص فى وضع الفقر، فى حين يفتقر إلى الغذاء الكافى (48) مليون شخص، كما يوجد (560) ألف شخص بلا مأوى، ولا يزال (33) مليون شخص دون تأمين الرعاية الصحية، ويندرج (44) مليون عامل فى القطاع الخاص لا يتمتعون بالحق فى الحصول على إجازات مرضية مدفوعة الأجر، وهناك ( 17) مليون طفل دون أب وتحت خط الفقر. ولأن القيمة لا تعرف غير الإثبات؛ لذا فإن تلك المدونة التصنيفية لانتهاكات حقوق الإنسان المطروحة، تكشف عن عجز الإدارة الأمريكية عن مواجهة التزاماتها فى حماية حقوق الإنسان لمواطنيها، وبغياب فعالية ارتباط الديمقراطية بحقوق المواطن العادى بوصفه المرجعية المستقرة لها، عندئذ تفقد الديمقراطية الأمريكية معيار وجودها فى واقعها الاجتماعى والاقتصادي، وذلك ما تجلى فى الدراسة التى طرحتها جامعة «برينستون» الأمريكية عام 2014، وأعدها العالمان المختصان «سارتن جيلنز» و« بنيامين أى يبج»، حيث طرحا سؤالاً: من الذى يحكم حقًا؟ وإلى أى مدى يؤثر أغلب المواطنين العاديين فى السياسة الأمريكية؟ أجابت الدراسة عن السؤال بأن الأغلبية فى الولاياتالمتحدة لا تحكم؛ بل النخب الاقتصادية وجماعات المصالح الخاصة، التى لها التأثير الأكبر فى تحديد صنع السياسة العامة الأمريكية، وأن تأثير المواطن العادى وأولويته جد ضئيل وغير ملحوظ إحصائيًا، وقد تتحقق رغبات المواطن العادى عندما تلتقى مع رغبات النخب، أو مجموعة مؤثرة منها، وترصد الدراسة كيف أن النخب الغنية صاحبة النفوذ، قد اخترقت الانتخابات- بوصفها التعبير الأقوى عن الديمقراطية الأمريكية- واستحوذت عليها، وأصبحت هى التى تحكم وتسود ساحة الفعل؛ إذ كان المال السياسى من تبرعات للأحزاب والمرشحين قد شكل اختلافًا، فرض إحالته إلى محكمة العدل العليا، التى قضت برفع القيود الحكومية كافة على إنفاق الأفراد، والشركات الأمريكية والأجنبية والنقابات فى تمويل الحملات الانتخابية جميعها، وألغت ما يخالف ذلك من قوانين، فى حين جرى استطلاع للرأى العام الأمريكي، عن إطلاق حرية التمويل بلا سقف محدود، فجاءت إحصاءات الاستطلاع برفض (80%) من الأمريكيين لإطلاق حرية التمويل بلا سقف. واستمرت التظاهرات ضد المال السياسى أمام مبنى الكونجرس ثمانية أيام، واعتقلت الشرطة (1200) شخص فى 18 /4/ 2014، حيث وفقًا للحكم القضائى «بأن المال السياسى يساوى الكلام المباح»، عندئذ أصبح ينطبق عليه دستوريًا «حرية التعبير»، أى حرية إنفاق المال السياسى فى الانتخابات، وأصبح بذلك استثمارًا مضادًا لجوهر الديمقراطية، وأنتج صناعة أمريكية هى «ديمقراطية للقلة»، التى تفرض ممارسات تبديد سلطة المفاهيم والحقوق والقيم الديمقراطية. إن كتاب «ديمقراطية للقلة»، للكاتب السياسى الشهير«مايكل بارنتي»، الذى أعيدت طبعته التاسعة عام 2011، يطرح مجموعة من الأسئلة التى يناقشها، وتبرهن إجاباتها على بروز أوضاع خارقة بشكل حاسم للديمقراطية فى النظام الأمريكي، وتؤكد أن مفهوم الديمقراطية الحقيقية فى أمريكا أصبح وهمًا، ويقرر المؤلف أن «ديمقراطية للقلة» هى محض انعكاس للنظام الاقتصادى والسياسى كله، وأيضًا لطريقة توزيع مصادر السلطة داخل هذا النظام التى تمثل قلة ذات امتيازات، وليس عامة الناس، وأن القوانين وضعت بصفة رئيسية لدعم من يملكون على حساب البقية الباقية من الشعب؛ إذ لدى أمريكا أعلى مستوى من عدم المساواة فى جميع الدول المتقدمة، ثم يطرح الكاتب سؤالاً: من الذى يملك أمريكا؟ وتأتى الإجابة فاضحة لمكامن خلل الديمقراطية الأمريكية ، حيث إن نسبة ( 10%) من البيوت الأمريكية التى تتربع على قمة الهرم ، تملك ( 98 %) من السندات المعفاة من الضرائب، وتملك ( 94 %) من الأصول المالية لمؤسسات الأعمال، وكذلك تملك (95%) من قيمة الودائع، كما تملك الطبقة الأغنى التى لا تتجاوز (1%) فقط من الأمريكيين ، ما يصل إلى (60 %) من أسهم الشركات الكبرى جميعًا، وكذلك (60%) من كل أصول مؤسسات الأعمال. واستعرض الكاتب نتائج تدخلات واشنطن فى الإطاحة بحكومات إصلاحية لاثنتى عشرة دولة فى العالم، واستعانتها بقوات مرتزقة فى تشريد الملايين وقتلهم، فى حين تقنع مواطنيها بأن سياسات التدخل ضرورة لمحاربة الإرهاب. إن الكتاب يكشف بجلاء أدوات الإكراه والهيمنة، التى تمارسها الأمركة كتحد صريح للديمقراطية، التى أصبحت تمارسها القلة، وحقوق الإنسان المقصورة على فئة. وأيضًا تمارس الأمركة السيطرة على منظمات المجتمع المدنى من خلال مموليها، مثل منظمة «هيومان رايتس»، لتوزع اتهاماتها الضالة على غيرها. ترى أى حقوق إنسان، وأى معايير ديمقراطية تدافع عنها الأمركة؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى