لم يتجسد ما سماه الفيلسوف الألمانى هيجل مكر التاريخ كما تجسد فى مطلع هذا القرن الذى تزامن مع ألفية ثالثة، بحيث عصفت الأحداث الزلزالية فى أيلول عام 2001 بكل التوقعات التى ودّع بها العالم القرن العشرين الذى وصفه مؤرخوه بأنه أقسى القرون وأقصرها، لأنه كان بمقياس عملى بعيدا عن التقاويم الكلاسيكية ثمانين عاما فقط لأنه بدأ مع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وانتهى مع الحرب الباردة وبالتحديد بعد سقوط سور برلين، وعناوين الكتب التى صدرت مطلع هذا القرن سواء تعلقت بالهويات او الدولة تبدو مثيرة، وذات دلالات وإيحاءات دراماتيكية، ومنها على سبيل المثال الدولة المستباحة من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافيا، وانتحار دولة والدولة الفاشلة والدولة المارقة. أما بالنسبة للهويات فإن معظم عناوين المقاربات التى تناولتها لا تقل دراماتيكية وإثارة، ومنها الهوية القاتلة والهوية المبتورة وعُصاب الهوية والهويات الجريحة إضافة إلى الهويات النيّئة أى التى لم تستكمل نضجها التاريخى ولم تكن وليدة كيمياء تاريخية وجغرافية بقدر ما كانت مستولدة بأنبوب الأيديولوجيا أو مجرد وظيفة خصوصا فى الحقبة الكولونيالية، فما هى دلالة ذلك ؟ وهل أوشك التاريخ بالفعل أن يبلغ نهايته كما قال فوكوياما مُتناغما مع أطروحات أستاذه هانتجتون حول صراع الحضارات وما ينذر به من حروب دينية! وقد يبدو طريفا أن ينشغل العالم لعقد من الزمن على الأقل فى مساجلات حول كتابين صدرا فى أمريكا، وهما فى الأصل مقالتان توسّع المؤلفان فيهما بحيث أصبحا كتابين، وهما نهاية التاريخ وصراع الحضارات، ورغم أن كلا الرجلين راجع نفسه ومواقفه وبالتحديد صاموئيل هانتجتون فى مقالة نشرها فى مجلة الفورن افيرز، فإن العالم العربى بقى مصرا على ردود الأفعال التى صدرت عن مثقفين وناشطين سياسيين بسبب غزو العراق واحتلاله، وهيمنة اليمين المتطرف فى الولاياتالمتحدة على البيت الأبيض والإدارة وبالتالى تكليف البنتاجون بترجمة ما هو نظرى إلى ما هو ميداني، وأخيرا بدأ يتضح لأى مراقب فى عالمنا العربى أن معظم الأطروحات المتداولة حول مفهوم الدولة يعانى خللا مزدوجا سواء من الناحية المنهجية أو من جهة فهم الواقع كما هو، وربما لهذا السبب حدث خلط بين حابل الدولة ونابل النظام، وتصور البعض أن الدولة بمفهومها التاريخى وأقانيمها الثلاثة والنظام السياسى دائرتان متطابقتان المحيط ولهما مركز واحد، والحقيقة غير هذا تماما، فالنظم تتغير لكن الدولة باقية، وفى حال تفكيكها لا يملأ فراغ غيابها غير الفوضى، وما سمى الفوضى الخلاقة ما هو إلا حيلة أنجلوساكسونية موروثة عن الاستعمار القديم والتى كان شعارها فرّق تسُد ، ومن إفرازات هذا التفريق الحروب الأهلية ، والنزاعات التى تنتهى إلى انتحار قومى تكون فيه الهزيمة موزعة بين كل الأطراف وما من منتصر على الإطلاق إلا من فرّق وبشّر بالفوضى الخلاقة. ومن المفارقات أن كلمة الدولة باللغة العربية مرادفة للزوال، ودال معناها زال، لهذا قال الشاعر العربى إن الأيام كما شاهدها دوَل ... من سرّه زمن ساءته أزمان، لكن كلمة دولة باللغات الأخرى هى state وتعنى الاستقرار والثبات، لكن مسار التاريخ منذ بواكيره لم يرتهن لتعريفات لغوية سواء للدولة أو النظام أو حتى الحضارة، ففى عالمنا العربى هناك دول بلغ عمرها الألفية السابعة أو الثامنة كمصر وحين وصفت بأنها عميقة لم يخطر ببال أصحاب هذا التوصيف أن هذا التصنيف يفترض وجود دولة سطحية او عابرة، لهذا بقى المصطلح غامضا وملتبسا أشبه بمشجب تعلق عليه مواقف مضادة للدولة وثوابتها التاريخية ! طرح مؤلف كتاب الدولة المستباحة محمود حيدر أسئلة حول الدولة وما آلت إليه فى هذا القرن جديرة بالتوقف مطولا عندها، خصوصا بعد أن ضرب أمثلة عن استباحة ما كان يسمى السيادة الوطنية، واختراق هذه السيادة بذرائع منها الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولم تكن المنظمات غير الرسمية التى تحولت فى العديد من العواصم العربية إلى دجاج يبيض ذهبا إلا شكلا من أشكال التسلل الى جوهر السيادة، وبالتالى انتهاكها على طريق الحق الذى يراد به باطل، والمؤسف بحق أن ما قاله الراحل ادوارد سعيد عن افتقار العالم العربى لمراكز أبحاث تعنى بالغرب وبالتحديد بأمريكا مقابل مئات مراكز الأبحاث التى تُعنى بالشرق الأوسط والعالم العربى أدى بالفعل إلى قصور فى فهم الاستراتيجيات الأمريكية، ومنها على سبيل المثال ما قدمه بشكل مبكر وبالتحديد عام 1979 بول فولفويتس الذى كان مساعدا لوزير الدفاع، وكوفئ على ما قدمه بأن عين مديرا للبنك الدولى تماما كما كوفئ من قبله ماكنمارا وزير الدفاع عن دوره فى الحرب الفيتنامية . وكذلك دور جوزيف ناى صاحب مصطلح القوة الناعمة، وكان رئيسا لمجلس الاستخبارات القومى وعميدا لكلية كنيدى فى جامعة هارفارد. والتثقيف عبر مختلف الوسائل والمنابر بمفهوم الدولة هو بمنزلة تلقيح استباقى ضد الإصابة بعدوى التفكك والانهيار، واستغرب كيف يتجاهل البعض ما لحق ويلحق من عقاب بدول حالت مناعتها التاريخية وعمقها الحضارى دون استباحتها وتحويلها إلى ميليشيات مُتناحرة، وبالطبع لم تكن النجاة من مخططات وكمائن أمثال بول فولفويتس وبرتراند لويس وبرنارد هنرى ليفى وسائر البرنندات بلا ثمن، وهو غالبا ما يكون عبر أحد أسلوبين أو كليهما . الأول ما يسمى التجريف وقضم الأحشاء أو تفكيك الدولة من داخلها، والثانى هو محاولة إفشالها من خلال الحصار وتضييق الخناق الاقتصادى أو تعريضها لموجات عارمة من الإرهاب والتطرف، ولو كتب نعوم تشومسكى كتابه الشهير عن الدولة الفاشلة فى أيامنا وليس قبل أكثر من عقد من الزمن لأضاف إليه فصلا حول استراتيجية إفشال الدول وما حدث بالفعل خلال الأعوام السبعة العجاف التى قطعها العرب وهم ينزفون من كل الخاصرات كان بمنزلة اختبار عسير للدولة، وبقدر ما نجحت استراتيجيات التفكيك عبر الفوضى فى بعض الدول، حدث العكس فى دول أخرى بحيث تلقحت بأمصال تاريخية ووطنية ضد الانهيار وحولت الضارة الى نافعة والعقبة إلى رافعة!!. لمزيد من مقالات خيرى منصور