إذا استبعدنا الأطروحات الراديكالية التى تستهدف تجريف الدولة واعادة انتاجها واستبدال هويتها فإن ثنائية الاصلاح والترميم هى المجال الذى يدور حوله السّجال منذ عقدين على الاقل، أى منذ بدأت مصطلحات جديدة تدخل الى المعجم السياسى من طراز الدولة المستباحة او الرخوة او الفاشلة او العميقة، تماما كما دخلت مصطلحات اخرى لتوصيف الهويات فهى قاتلة او مبتورة او فائضة او جريحة، وهناك عشرات الكتب التى صدرت فى الاعوام الاخيرة فى هذا السياق منها كتاب امين معلوف الذى حمل عنوان الهويات القاتلة وكتاب داريوش الايرانى عن الهوية المبتورة اضافة الى كتاب وجيه كوثرانى عن فائض الهوية ونقصان المواطنة . ولم تكن الدولة كمفهوم تاريخى وحضارى وكذلك الهوية عرضة لمثل هذه الشكوك رغم ان هناك دولا دالت فى التاريخ وحضارات سادت ثم بادت لكن الطارئ هو ادخال عوامل وعناصر تتعجل السقوط والنهايات، وادوات هذا المشروع واسلحته حملت اسماء عديدة منها حروب ما بعد الحداثة او حروب الجيلين الرابع والخامس اضافة الى السلاح الاقتصادى كما وصفه بيركنز فى كتابه الشهير يوميات قاتل اقتصادى . وبالعودة الى ثنائية الترميم والاصلاح فهما ليسا مصطلحين مترادفين يعنيان الدلالة ذاتها وقد يكونان اقرب الى التناقض، ذلك باختصار لأن الترميم يعنى ابقاء القديم على ما هو عليه كما يحدث فى ترميم التماثيل والآثار، وكل ما يبذل من جهد لتحقيق هذا الهدف يكون مكرسا لمحاكاة الماضى ولما انجز فيه بالتمام والكمال، واذا خرج هذه الهدف عن مجاله المادى او بمعنى ادق العمرانى وتمدد نحو الثقافة والسياسة فإن خطورته تكمن فى انه يصادر المستقبل ويجعل من الماضى استمرارا بل نموذج كاملا، بعكس الاصلاح الذى يفترض مسبقا ان هناك خللا ما لا بد من تقويمه، وهو ليس مجرد قطعة غيار جديدة كما يحدث فى عالم التكنولوجيا بل هو اعتراف بأن هناك افكارا او مفاهيم او منظومات افقدها التطور صلاحيتها، وما كان صالحا فى حقبة رعوية او زراعية لن يصلح فى حقبة صناعية تبلورت فيها المدن والطبقات وتغيرت انماط الانتاج ، وبالتالى تبدلت المفاهيم . كما ان الاصلاح يفترض ايضا بأن لكل مصنوع عمرا افتراضيا ولا يمكن الاستمرار فى الاصلاح بمعناه الكمى والتراكمى الى ما لا نهاية، لأن هناك لحظة يتحول فيها هذا التراكم المتعاقب بل المتصاعد الى قفزة نوعية . ولو اخذنا المؤسسة كمصغر للدولة مثالا، ووجدنا انها تعانى من فساد بنيوى ، شمل النسيج كله، فإن ترميمها يعنى ابقاء الجوهر على حاله، بل تكريس ما تشكو منه من خلل سواء تم ذلك باستبدال الافراد او اعادة انتاج قوانين تحتاج الى اعادة نظر جذرية . واذا كان هناك من يصنفون الاصلاحى فى خانة مضادة للراديكالى فذلك على سبيل التبسيط لأن الاصلاح له مستويات ودرجات وليس بالضرورة مجرد تغييرات شكلية، لهذا فإن الاصلاح فى اقصى تجلياته يصبح راديكاليا لكن على نحو مغاير لما يراه البعض فى الراديكاليات، باعتبارها خيارا بين الكل او اللاشيء ! والحراكات التى شهدها العالم العربى منذ مطلع هذا العقد تفاوتت شعاراتها بين الاصلاح عند حدود المطالبة باصلاح النظام السياسى مقابل شعارات اخرى نادت بالاسقاط والخلع السياسى وما يرادف هذه المفردات التى تعنى فى نهاية المطاف ان الكيل قد طفح وان السيل قد بلغ الزبى وما من مجال لاصلاح ما افسده التاريخ وليس الدهر هذه المرة . فى بعض النظم الملكية الوراثية ظهرت شعارات تريد الحفاظ على الملكية لكن بعد تحولها الى دستورية، وفى لبنان مثلا ظهرت شعارات كانت جديرة بالتأمل والتحليل لكنها توارت خلف الصخب والاحداث المتسارعة، ومن تلك الشعارات الدعوة الى تمدين الدولة وبالتالى إحلال الديمقراطية بالجملة مكان المحاصصة الطائفية، ولو قدر لذلك الحراك الخجول الى حد ما ان يستمر ويتصاعد لتغير المشهد . لكن المفارقة هنا تكمن فى ان من طالبوا بالاصلاح كانوا يقصدون الترميم وهم لا يعلمون، لأنهم اعتبروا بعض الصيغ السياسية والاعراف السائدة المتوارثة بمثابة بديهيات لهذا كانوا يقارنون ما هو راهن ويستحق الاصلاح بما هو ماض ونموذجى ويجب ان يستعاد . وقد يكون علم النفس السياسى بل الانثربولوجيا السياسية هما المنهج الذى يجب على الباحث اعتماده لتحليل هذه الظواهر، فالعالم العربى الذى اوشك ان يفقد الرجاء فى التغيير الحاسم اصبح يقارن السيئ بالاسوأ والاشد سوءا، وبدت بعض المجتمعات كما لو انها تقبل بالحمّى اذا كان الموت او الاحتضار البطيء هو الخيار الآخر . والسؤال الذى يفرض نفسه هو هل نجح الترميم فى اعادة القلعة السياسية او التمثال السياسى الى ما كان عليه ؟ ام ان ما استجد من عناصر صناعية ومستحضرات اضاع الماضى والحاضر معا بحيث تحول الانسان الى مُنبتّ لا تاريخا ابقى ولا حاضرا قطع ؟ بالمقابل الى اى مدى انجز الاصلاح مهمته، سواء فى التحديث والعصرنة او ترشيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبالتالى اصدار طبعات مزيدة ومنقحة من عقود اجتماعية اصبحت كما يسميها الفرنسيون «كادوك» اى من عالم المتاحف ؟ هنا لا بد من تسجيل ملاحظة قد تبدو لأول وهلة إفراطا فى تعقيد المشهد اواقرب الى المبالغة والتعجيز، هى ان ما سمى الفوضى الخلاقة زورا وافتراء فى الحراكات الشعبية انعكس على قراءات هذه الحراكات، واذا كانت الفوضى المدمرة قد فشلت فى بعض الاقطار كمصر وتونس الى حد ما، فإن هذه الفوضى اقتصرت على مناهج التحليل والاستقراء، واذا قدر لباحث عربى ذات يوم ان يجمع هذه المادة الخام من المقاربات المطبوخة على عجل والتى لم تسلم من تجريب الهواة فإنه سيتوصل الى نتائج غير متوقعة على الاطلاق، لأن النخب التى انشطرت الى فئتين إحداهما تحاول القفز من السفينة قبيل الغرق والثانية امتطت الموجات وتخلت عن بوصلتها المعرفية والاخلاقية ساهمت فى خلط القمح بالزؤان، والشحم بالورم، وقد يبدو هذا تعميما لكن الاستثناءات احيانا تكرس القاعدة، فمن تشبثوا بوعيهم ولم يفقدهم الصخب الفضائى الرشد تعرضوا لاساءة فهم ، ومنهم من تعرض للتخوين او ممالأة نظم غربت شمسها، تماما كما حدث فى حرب الخليج عندما تبنى قلة من المثقفين موقفا ثالثا وتراجيديا هو انهم ضد الاستبداد والاستعمار معا، وضد الديكتاتور العربى وضد الجنرال الانجلوامريكى . ان البحث فى ثنائية الترميم والاصلاح هو المعادل الموضوعى للبحث فى ثنائية التكتيكى والاستراتيجي، والتخدير المؤقت والجراحة !! لمزيد من مقالات خيرى منصور;