عندما أصدر الكاتب البريطانى باتريك سيل المتخصص فى شئون سورية وشجونها معا كتابه الشهير بعنوان بندقية للايجار، علّق عليه رسام كاريكاتور فى صحيفة الجارديان برسم يختصر دراما الاغتيال كلها، وهو بندقية ذات فوهتين، احداهما تتجه نحو الضحية والثانية تتجه الى صدر حامل البندقية، والدلالة لهذا الرسم هى ان من يبرر لنفسه اغتيال الاخرين انما يشرعن فى الوقت ذاته انتحاره، سواء نفذ بيده او بيد اخرى، والاغتيال ليس كما تحاول بعض الاطروحات اختزاله فى افراد، فهناك ايضا اغتيال الدولة، واغتيال الفكرة، واغتيال الحلم، ولكل نمط من هذه الجرائم ادواته والتقنية الخاصة به، فاغتيال الفكرة يتم من خلال الاسكات القسرى لمن يعبرون عنها او يبشرون بها، وغالبا ما يتولى الرقباء هذه المهمة، خصوصا اذا كانوا من طراز غوبلز النازى او جدانوف الستالينى. اما اغتيال الدولة فله اساليب اخرى منها توصيفها بالعميقة او البوليسية او التوتالية اى الشمولية، وقد تُستخدم هذه الصفات بلا اى سند واقعي، ولمجرد توفير المبررات للاغتيال الذى يتلخص فى ثلاث مهمات متعاقبة ومتصاعدة هى نقض الدولة بدلا من نقدها اى رفضها بالجملة، والتحريض عليها من خلال احراف البوصلة سواء تعلقت بمؤسساتها او بالرأى العام، والمهمة الاخيرة هى استباحة الدولة، والتعامل معها كما لو انها والنظام شيء واحد، او دائرتان متساويتا المحيط ولهما مركز واحد. محاولات اغتيال الدولة تتم بالتقسيط وعلى جرعات لأنه ما من دولة يمكن انهيارها وتفكيكها دفعة واحدة، وهنا يلعب الاعلام دور البطولة، حيث يسعى الى الاضاءة والتعتيم، اضاءة كل ما هو سلبى ونفخه ووضعه تحت المجهر مقابل التعتيم والتجاهل لكل ما هو ايجابي، وغالبا ما تكون الدولة الرخوة او الهشة التى تعيش خريفها اكثر عرضة من سواها للتفكيك والأمثلة التى شاهدناها خلال الاعوام الاخيرة تبين لنا ان احد اساليب تدمير الدولة هو مَلْشَنَتها اى تحويلها الى ميليشيا بحيث تهبط من موقعها لتصبح كأية طائفة او جهة فى الصراع . وقد حاول البعض شرعنة هذا الاغتيال تحت عناوين وذرائع عديدة، منها انقاذ البلاد والعباد او الإسراع الاستباقى لحماية البلاد من قوى تتمدد نحوها! وتبعا لما أفرزته اطروحات اغتيال الدولة كما يجسدها برنارد ليفى وآخرون فإن الفوضى الشاملة هى البديل والوريث وعندئذ يصبح المجال فسيحا للتقسيم وصراع الهويات الفرعية وبالتالى تحويل البلاد برمتها الى كسور عشرية وشظايا ! واذا كانت جرائم اغتيال الافراد او الشخصيات العامة تسجل احيانا ضد مجهول وتطوى ملفاتها فان اغتيال الدولة ليس كذلك، لأن الفاعل ليس فردا او حتى مجموعة محددة الهوية والاتجاه، لأن الفوضى عندما تندلع تتيح لكل من له مصلحة فى اسقاط الدولة ان يهرع شاهرا فأسه، وهناك حادثة تستحق الاستذكار فى هذا السياق تروى فى فرنسا عن فترة الفوضى وشبه الحرب الاهلية فقد شاهد الناس الشاعربودلير الذى لم يكن له اى شأن بالسياسة يحمل بندقية ويركض فى الشارع ، وعندما سأله البعض عن سر هذا التغير الذى حوّل الداندى كما كانوا يسمونه الى ثائر اجاب بأنها فرصة سانحة لقتل زوج امه والانتقام منه ! فكم بودلير وكم داندى فى الحراكات السياسية التى تصاب بوصلتها بالعطب ؟ ولا بد لأيّ اغتيال سواء استهدف دولة او فكرة او فردا ان يلفق الذرائع، بحيث تتوارى الاسباب الفعلية خلف شعارات وواجهات قابلة للتبرير وبالتالى اغواء الرأى العام، وبالرغم من كل ما كتب سايكولوجيا عن جريمة الاغتيال الا انها تبقى قابلة للمزيد وذلك لأنها تتطور فى اسبابها وأدواتها وما يعلن من اهدافها، اما البعد الرمزى للاغتيال فهو كما عبر عنه شاعر عربى ببلاغة حكم بالاعدام على البشر كلهم وهذا ايضا ما تقوله العقائد السماوية والوضعية معا ! فهل يمكن التعامل مع الاغتيال والانتحار على انهما توأمان ؟ هذا بالضبط ما اراد رسام الكاريكاتور قوله، فمن يمارس الاغتيال يشرعن قتله وهو آخر من يعلم، وان كان من كلّفه بهذه المهمة القذرة اول من يعلم، لأن الادوات البشرية التى تستخدم فى هذه الجرائم غالبا ما تدفع الثمن وعلى نحو فورى كى تكتمل الجريمة لأن نقصانها يعنى اعادة فتح الملفات وهذا ما حدث فى جريمة اغتيال الرئيس الامريكى جون كنيدى . لكن احدى اهم مفارقات جريمة الاغتيال انها قد تحقق نجاحا مؤقتا مقابل فشل دائم، فمن يجرى اغتيالهم ينتهون عضويا كبشر لكن افكارهم تزداد انتشارا، لهذا لم يكن اغتيال غاندى استئصالا للغاندية ولمدرسة اللاعنف فى المقاومة، ولم تؤد محاولة اغتيال نجيب محفوظ الى صمته الابدى بل اتاحت له قيامة كبيرة، ضاعفت من اقبال القراء على اعماله واعادة نشر كتبه. وقد لا يكون اغتيال الدولة بعيدا عن ذلك، خصوصا اذا كانت مستهدفة لاسباب معظمها خارجي، وقد تليق عبارة الفيلسوف نيتشة بكل من ينجو من الاغتيال، فقد قال كل ما لا يقتلنى يقويني، فالفكرة الصالحة للنمو والتى ترتكز الى منطق يبررها تزدهر حتى فى غياب من حملوها. والدولة المتماسكة ذات الارث والمؤسسات قد تتلقح ضد تكرار محاولات الاغتيال، وهنا ايضا نتذكر عبارات لفيدل كاسترو الذى تعرض للاغتيال اكثر من مئتى مرة، وهى محاولات كانت تستهدف تجربة كوبا اولا. اما الدول التى نجح اغتيالها فهى تلك التى وصفها نعوم تشومسكى بدقة فى كتابه عن الدولة الفاشلة، لأنها تكون فى ذروة خريفها وقد تساقطت معظم اوراقها واصابتها انيميا شاملة بدءا من الاقتصاد حتى السياسة والثقافة، لهذا تكون هدفا سهلا كحيوان مريض. وقد يكون ما مرّ به العالم العربى الذى كان اسمه ذات يوم الوطن العربى منذ بداية العقد الثانى لهذا القرن بحاجة الى فض اشتباك بين مصطلحات ماعت وسالت على بعضها وبين مفاهيم اعيد انتاجها ولويت اعناقها كى تستجيب للنوايا والاستراتيجيات ، والمسكوت عنه فى هذه الفترة اضعاف ما تم البوح به، لأن المناخات السياسية والاجتماعية حين تكون ملبدة بكل هذه الالتباسات ، تضيع الفواصل حتى بين الاضداد، وعندئذ علينا ان نصدق ان الداندى سواء كان الشاعر بودلير او غيره بأنه يحمل البندقية لتغيير الواقع وليس من اجل قتل زوج امه بدافع الغيرة! واذا كانت ظاهرة الاغتيال على اختلاف مستوياتها قديمة قدم التاريخ فإن ما استجد فى عصرنا هو محاولة شرعنة الاغتيال واضفاء صفات عليه لا علاقة لها باسبابه ودوافعه واهدافه. اما عقوبة الاعدام التى تمارسها معظم الدول فهى تبقى ناقصة ايضا، لأن ما يجب اعدامه هو الفكرة التى جعلت المجرم يقول بعد القبض عليه انه لو عاد حرا لارتكب الجريمة بكل تفاصيلها!!! لمزيد من مقالات خيرى منصور;