لم تكن حرب الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 هزيمة كاملة، لهذا لم يتأقلم معها الطرف المهزوم بحيث تتحول الى أمر واقع، فقد أعقبها على الفور نقد ذاتى مارسه ساسة وجنرالات ومثقفون بدءاً من تنحى الزعيم الراحل عبد الناصر وصدور عدد من الكتب التى حاول مؤلفوها الكشف عن أسباب الهزيمة ومنها النقد الذاتى لصادق جلال العظم، وقد ولدت حرب الاستنزاف من رحم تلك الهزيمة وانتهت الى حرب ربما كانت الوحيدة التى حقق فيها العرب بقيادة مصر النصر الوحيد فى تاريخهم المعاصر . و سرعان ما غيرت حرب أكتوبر اتجاه سهم البوصلة فلم يعد مُسَمّرا على تلك الجهة الرّمادية وغسق الغروب، ومن أهم ما كتب عربياً عن ثقافة الصهيونية وادبياتها من الداخل اضافة الى المجهود الخلاق للدكتور عبدالوهاب المسيري، ما كتبه الراحل احمد بهاء الدين حين أصدر كتابا بعنوان إسرائيليات، وكانت اهمية ما طرحه بهاء الدين هو الكشف عن المسكوت عنه تربويا وثقافيا فى إسرائيل، لأن الاهتمام كله أو معظمه كان منصبا على البعدين السياسى والعسكرى واعترف بفضل بهاء الدين على وعلى أبناء جيلى لأنه قدم لنا مفاتيح لم تنكسر فى تلك الأقفال التى طالما تكسرت فيها مفاتيح لم تكن الأدرى باسرارها وشعابها. ومن تلك المفاتيح ما كتبه عن رواية ليائيل دايان بعنوان طوبى للخائفين، ويائيل هى ابنة الجنرال موشى دايان وعضو الكنيست وشاركت فى الحرب واحتلال سيناء، و اصدرت كتابا عن يومياتها فى تلك الحرب، رواية يائيل ديان تفتضح هاجسا مزمنا فى التربويات الصهيونية وهو الالحاح على عدم الخوف، سواء كان من العرب أو من الجوييم بشكل أعم، وهم الأغيار من غير اليهود، لكن هذا النمط من التربية ينتهى الى عكس ما كان يهدف إليه، لهذا يقول الراحل بهاء الدين أن الأجيال اليهودية التى وقعت ضحية هذا الوَهْم أصبحت تخاف من أن تخاف، وتحول هذا الهاجس الى فوبيا، فالخوف كما الاِقدام من صميم الوضع البشري، تماما كما هى العافية والمرض، والشيخوخة والصّبا، لكن الفلسفات ذات المرجعيات العرقية هى مضادة للأنسنة، وتسعى الى افراغ البشرى مما جعله بشرا يعيش الانفعالات كلها وعلى اختلاف تجلياتها سلبا وايجاباً، لهذا حملت رواية يائيل ديان عنوانا لا يخلو من سخرية ومن تلميح ميثولوجى ايضا هو طوبى للخائفين، لكن هذه التحذيرات سواء صدرت عن روائية وعضو كنيست أو عن عالم كيمياء كإسرائيل شاحاك أو عن بعض المؤرخين الجدد من أمثال شلومو ساند لا تجد أى اهتمام من المؤسسة العسكرية التى قررت منذ البدء أن تحشر الدولة كلها داخل خوذة وحين نقرأ فى الصحف العبرية عن الهاربين من الخدمة العسكرية أو ما يسمى التجنيد الاجبارى اضافة الى ارتفاع ملحوظ فى نسبة الانتحار ندرك على الفور ما كان يعنيه بهاء الدين فالخوف من الخوف وليس من أى شيء آخر يتحول بمرور الوقت الى حالة من العصاب تفرز شيزوفرينيا حادة بحيث تنشطر الذات الى اثنين، أحدهما يخاف سراً ولا يعلن ذلك، والآخر يزعم بأنه لا يعرف الخوف، وهذا بحد ذاته سبب منطقى لحالات الاضطراب التى يعانى منها ضحايا النظم الشمولية أو التوتالية ومنها الدولة العبرية، فهى توتالية بامتياز كما يصنفها الكاتب اليهودى شلومو رايخ فى كتاب بعنوان «خواطر يهودى ساخط» ، ان نتائج تربية من هذا الطراز تتجاوز إبطال المفاعيل التربوية الى السقوط فى النقيض، واذا اعتبرنا مردخاى فعنونو، الذى أفضح الاسرار النووية فى اسرائيل وسجن سبعة عشر عاماً مجرد مثال، فهو تربى فى الحاضنة ذاتها التى تحدثت عنها يائيل ديان فالرجل قرر بالفعل أن لا يخاف، لكن من اسرائيل ذاتها وليس من أى طرف آخر، فبعد أن اطلق سراحه بشرط أن لا يظهر على أى منبر اعلامى سارع الى الظهور على أحد المنابر العبرية واعيد على الفور الى السّجن. وتذكرنا هذه التربويات المضادة للأنسنة بمسرحية كتبها الالمانى بريخت عما عاناه ضحايا النظم الشمولية من فائض الخوف بحيث لم يتردد اطفال فى الوشاية بآبائهم وزوجات فى الوشاية بأزواجهن، مما حول المجتمع كله الى مملكة من الرّعب، وقد عرف التاريخ القديم نماذج من هذه الفلسفات التربوية، منها ما كان يفعله الإسبارطيون، وهذا ما يرويه دنيس دورجمون عن مشرع اسبارطة ليكورغ الذى كان يحرم الذكور من أى اختلاط بالنساء بهدف التوتير وتسفيل الغرائز بدلاً من تصعيدها حسب المصطلح الفرويدى وكانت حجته فى ذلك أن ينجبوا اطفالا اصحاء و أَقوياء. واذا صحّ أن الانسان تعذب ملايين السّنين كى لا يبقى مجرد قرد تماماً كما تعذب الفحم فى باطن الأرض لكى يتجوهر ويصبح ماساً، فإن التربويات التى تشكل الكراهية والتحريض والانتقام أقانيمها الثلاثة تهدد الانسان بالعودة الى ما كان عليه خلال أقل من قرن، لأن الهدم أسرع من البناء وقد لا يستغرق تدمير برج أو صرح شيد فى عشرين عاماً اكثر من نصف دقيقة كى يتحول الى أطلال. ان الخوف والحذر وكذلك الندم والاعتذار خصال بشرية خالدة، ومحاولة تجريفها وإفراغ الآدمى منها هى عودة الى الكهف والغاب. وحين يتحدث ذوو الاختصاص فى علمى النفس والاجتماع عن ظاهرة العنف ونزعة العدوان يذهبون الى جذور هذه الظاهرة، ولا تقتصر معالجاتهم على ما يطفو منها على سطح الواقع، وما كتبت عنه يائيل دايان بدافع نقدى لم يعد حكرا على دولة أو جماعة، فالتطرف يبقى هو ذاته رغم اختلاف الهويات واللغات، لأنه يصيب البشر بالعمى السياسي، ويحذف الالوان كلها من قوس قزح ولا يبقى منها غير الأبيض والاسود، وبالتالى تحكمه ثنائيات حاسمة وساكنة تخلو من الجدلية. وما كتبه مجندون اسرائيليون بعد عودتهم من اجتياح لبنان عام 1982 وقدم مختارات منه الباحث ابراهيم البحراوى يفتضح فوبيا الخوف من الخوف ويكشف الحقيقة الانسانية والأرضية لبشر يخافون ويفرحون ويندمون أيضا لكنهم نادراً ما يعتذرون، وما كتبه ايضا بعض المجندين الاسرائيليين خلال حرب اكتوبر وبعدها يكرس الظاهرة ذاتها لأن من عادوا الى مساقط رؤوسهم بالتوابيت المغطاة بالاعلام هم فى نهاية المطاف موتى دفعوا ثمن استخفافهم بعدو رضعوا فى الطفولة حليبا مغشوشاً يقلل من شأنه كالذى تحدثت عنه يائيل دايان رغم أنها رببية الجنرال موشى دايان واحدى المجندات فى العدوان على مصر! لمزيد من مقالات خيرى منصور